كتاب: الديمقراطية والإسلام في الأردن
ف 2: نظريات الديمقراطية: عرض ونقاش
د. عدلي الهواري
هناك تشكيلة من المتطلبات المسبقة التي يقول الباحثون إنها يجب أن تستوفى قبل أن يمكن العمل بنظام حكم ديمقراطي. يلخص هنتنغتون (1991) العوامل التي من المفترض أنها تفسر الانتقال إلى الديمقراطية (ص 37-38). تتضمن قائمته عوامل من قبيل أن الدولة كانت مستعمرة بريطانية، أو احتلتها دولة أجنبية مؤيدة للديمقراطية. لو كان العامل الأخير صحيحا، لأنتج دولا ديمقراطية في العالم العربي الذي كانت بريطانيا وفرنسيا تحتلان مناطق مختلفة منه.
استعرض في هذا الفصل نظريات مختلفة متعلقة بالديمقراطية لتسليط الضوء على النقاشات (أو الجدل) حول معنى الديمقراطية، ولتحديد النظريات التي يسترشد بها هذا البحث. يعرّف بروار (2000، ص 192) النظرية بأنها «مجموعة من الطروحات المجردة المترابطة حول الشؤون الإنسانية والعالم الاجتماعي تفسر انتظاماتها وخصائصها». وينوه أن النظريات ليست «بيانات وصفية» (ص 192). مايلز وهوبرمان (1994، ص 18) يشيران إلى أن دور الإطار النظري شرح «أهم الأشياء التي يتعين دراستها —العوامل والتصورات والمتغيرات الرئيسية—والعلاقة المفترضة بينها».
قال روبرت دال في الخمسينيات (1956): «لا توجد نظرية ديمقراطية واحدة بل نظريات» (ص 1). بعد مرور خمسين عاما على هذا القول، من السهل على المرء أن يتخيل أن النظريات تضاعفت. أول التحديات التي تواجه الباحث في المسائل المتعلقة بالديمقراطية هو تعريفها، وأقصد تعريفا يتجاوز المعنى الحرفي للمصطلح الذي يعود إلى العصر الإغريقي ويعني حكم الشعب.
ولكن قبل البحث عن المعنى، أود أن أستعرض عددا من الحجج المتعلقة بالديمقراطية، بدءا بالحجة التي تعترض على الفكرة نفسها، ثم الحجج المختلفة التي تعترض على النماذج والتصورات والتوافق الثقافي، والمتطلبات المسبقة للديمقراطية. بعد ذلك، سأشير إلى الحجج التي تعرّف الديمقراطية.
الديمقراطية: الطعن في المفهوم
يقول هاينز (2001) إن «تعريف الديمقراطية مهمة صعبة» (ص 8). ويعترف كين (1991) بأن «مفهوم الديمقراطية محفوف حاليا بالتشويش» (ص 168). ويقول هوفمان (1988، ص 131) جازما: «الديمقراطية بلا شك المفهوم الأكثر اعتراضا عليه وإثارة للجدل في النظرية السياسية».
ويقول صيقل (2003) إن «الديمقراطية مفهوم مثقل بالمعاني، فتاريخيا، عنى شيئا مختلفا لفئات مختلفة من الناس». ويضيف: «ليس هناك إجماع [في الدول الغربية] على ما يعنيه المفهوم بالضبط، وعلى أفضل طريقة للتعبير عن الفكرة». ويشير صيقل أيضا إلى أنه لا يوجد «اتفاق واسع النطاق بين المنظرين والممارسين على ما إذا كانت الديمقراطية تعني شكلا من أشكال الحكم، أم وسيلة لاختيار الحكومة، أم مصطلحا ينطبق على مجتمع بأكمله» (ص 111).
سيجد الباحث أن دارسي الديمقراطية يقتربون من تعريف الديمقراطية ببعض التردد. وسيجد مرارا إشارة إلى غالي ([1956] 1968) الذي جادل بأن الديمقراطية هي «مفهوم متنازع على جوهره». ولذلك، فإن البداية المنطقية لهذه المناقشة هي حجة غالي. وفقا لغالي (1968)، هناك مفاهيم متنازع على جوهرها، مثل الدين والفن والعلم والديمقراطية والعدالة الاجتماعية (ص 168). لكي يدرج مفهوم ما ضمن هذا التصنيف، يجب أن يستوفي خمسة شروط (ص 161-168):
أولا: المفهوم المطروح يجب أن يكون تقييميا، بمعنى أنه يدل على إنجاز يحظى بقيمة أو ينسب إليه الفضل في ذلك.
ثانيا: الإنجاز يجب أن يكون ذا سمة داخلية معقدة، وما يحظى به من قيمة ينسب إليه ككل.
ثالثا: تفسير قيمة المفهوم يجب أن تشمل إشارة إلى مساهمات إلزامية من أجزائه أو ميزاته المختلفة [...] والإنجاز المعترف به يوصف في البداية بصور مختلفة.
رابعا: الإنجاز المعترف به يجب أن يكون من نوع يسمح بتعديل كبير على ضوء الظروف المتغيرة؛ التغييرات لا يمكن تحديدها أو التنبؤ بها مقدما [...] أي إنجاز من هذا القبيل ذو طبيعة «مفتوحة».
خامسا: يعترف كل طرف بحقيقة أن استخدامه للمفهوم متنازع عليه من الأطراف الأخرى.
من أجل التمييز بين المفهوم المتنازع على جوهره والمفاهيم «المشوشة جذريا» يضيف غالي شرطين آخرين: (ص 168):
سادسا: اشتقاق مفهوم من هذا القبيل من نموذج أصلي سلطته معترف بها من جميع المستخدمين المتنازعين.
سابعا: احتمال أو معقولية، بالمعنى الملائم لهما، الادعاء بأن التنافس المستمر على الاعتراف بين مستخدمي المفهوم المتنازع عليه يمكّن إنجاز النموذج الأصلي من الديمومة أو التطور بالطريقة الأمثل.
يصف غالي الديمقراطية كمصطلح بأنها «معقدة مشحونة عاطفيا إلى حد كبير، ومربكة». ولكنه يمتنع عن توضيح الإرباك. وبدلا من ذلك، يشرح كيف تنطبق الشروط السبعة على الديمقراطية، وبالتالي التحقق من صحة الحجة القائلة إن الديمقراطية هي مفهوم متنازع على جوهره (ص 178).
يرى غراي (1977) أن من «سمات هذه المفاهيم أنها تحدث في سياقات اجتماعية مرتبطة بنزاع أيديولوجي» (ص 333). ويشكك غراي في وصف غالي للمفاهيم المتنازع على جوهرها، ويعتبر وصفه مفهوما متنازعا على جوهره أيضا (ص 339). وفي رأي بيرش (1993)، أن المفاهيم والتنازع عرضة للتغيير، وقد يتوقف الاختلاف على مفهوم كان محل خلاف في الماضي (ص 8-9).
يتخذ الاعتراض على فكرة الديمقراطية وما تعنيه أشكالا مختلفة. إحدى طرق الاعتراض هي القول إن للديمقراطية أكثر من نموذج. ولكن الباحثين استخدموا مصطلح «نموذج» بمعنيين، أحدهما فضفاض، والآخر محدد.
وفقا لماكفرسون (1977)، مصطلح «نموذج» يعني «بناء نظري يهدف إلى عرض وتوضيح العلاقات الحقيقية، الكامنة وراء المظاهر، بين ظاهرة قيد الدراسة وغيرها أو داخل الظاهرة» (ص 2-3). أما هيلد (1995، ص 5) فهو أكثر تحديدا في استخدامه لمصطلح «النموذج». ويحدد ثلاثة نماذج للديمقراطية: (1) المباشرة أو الديمقراطية التشاركية؛ (2) الديمقراطية الليبرالية أو التمثيلية (النيابية)؛ (3) ديمقراطية الحزب الواحد.
تعريف ماكفرسون للنموذج نظري ويبدو قريبا من الحجة التالية، التي سيتم إيجازها أدناه، وهي متعلقة بالتصورات المختلفة للديمقراطية. استخدام هيلد للمصطلح، نموذج، وصفي أكثر لكيفية ممارسة الديمقراطية. وفيما يتعلق بالنموذج الثالث الذي ذكره يقول «قد يشك البعض في اعتباره شكلا من أشكال الديمقراطية» (ص 5). الاستخدامان المختلفان لمصطلح نموذج يشيران إلى أنه مصطلح غامض، ولا يمكن فهمه إلا عندما يفسر المستخدم ما يقصد به.
يشير كونولي (1995) إلى أن «استكشافات ماكفرسون للمثل الديمقراطية حدثت في سياق بضع مناقشات» من قبيل «نقاش التعددية-النخبوية، [...] الصدام بين مُثل الديمقراطية المتعلقة بالمشاركة والتمثيل، والعلاقة بين المساواة الاقتصادية والمواطنة الديمقراطية، [و] التفوق النسبي للرأسمالية أو الاشتراكية». ولكن كونولي يعترف بأن هذه المناقشات استبدلت (ص 76).
ورد أعلاه أن هيلد حدد ثلاثة نماذج للديمقراطية، وأن أحدها نموذج «الديمقراطية الليبرالية أو النيابية». ولكن هناك حاجة إلى توضيح عنصرين: الأول الديمقراطية النيابية، والثاني العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية. يتساءل سارتوري (1962، ص 253): «هل الديمقراطية المباشرة أفضل؟ وهل لا تزال ممكنة؟» إذا كان من الممكن للشعب في المدينة-الدولة الإغريقية الاجتماع في مكان واحد، لم يعد ممكنا استيعاب شعب الدولة-الأمة في مكان واحد. ونتيجة لذلك، فإن الديمقراطية المباشرة تمارس في الهيئات الصغيرة، كالأندية مثلا، أو في مناسبات محددة كالاستفتاءات.
الشكل العملي لممارسة الديمقراطية هو الديمقراطية النيابية، ووفقها يختار الناخبون أشخاصا لتمثيلهم في البرلمان والهيئات المماثلة المخولة سن قوانين ومحاسبة السلطة التنفيذية. يشير سارتوري إلى أن جميع الديمقراطيات الحديثة غير مباشرة، أي أن الشعب يحكمه نواب انتخبهم لذلك (ص 252).
أما مسألة العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية فهي أكثر تعقيدا، وتثير جدلا بين مؤيدي المفهومين، وخاصة بشأن التوازن السليم بين الاثنين. يشير بوبيو (1990، ص 25) محقا إلى أن الليبرالية كنظرية للدولة مسألة حديثة، بينما الديمقراطية شكل قديم من أشكال الحكومة».
غراي (1995) يوضح أن «الليبرالية ليست أقدم من القرن السابع عشر». ويلاحظ أن أول استخدام لمصطلح «الليبرالية» لوصف «حركة سياسية كان في عام 1812 من قبل حزب إسباني اسمه الليبراليون (Liberales). وقبل ذلك، استخدم آدم سميث الكلمة عندما أشار إلى «الخطة الليبرالية للمساواة والحرية والعدالة» (ص xi).
ويشرح دووركين (1983) أن أحد جوانب الليبرالية يهتم بالحكومة والفرد. وفي هذا الصدد، تقضي الليبرالية بأن تكون «الحكومة محايدة بشأن المسائل الأخلاقية الشخصية، وأن تدع الناس يعيشون وفق الطريقة التي يرونها الأفضل طالما أنها لا تضر الآخرين». الجانب الآخر من الليبرالية، وفقا لدووركين، يهتم بالاقتصاد. وفي هذا الصدد، تقضي الليبرالية بأن على الحكومة «التقليل من عدم المساواة الاقتصادية، من خلال إدارة الاقتصاد وبرامج الرعاية التي تعيد توزيع الثروة لتخفيف آثار الفقر.
يشير زكريا (2004، ص 20) إلى أن معظم الدول الأوروبية في سنة 1940 «اعتمدت جوانب هامة من الليبرالية الدستورية: سيادة القانون، وحقوق الملكية الخاصة، وعلى نحو متزايد، الفصل بين السلطات وحرية التعبير والتجمع». ويلاحظ كذلك أنه قبل القرن العشرين، كانت «معظم البلدان في أوروبا الغربية ذات نظام حكم فردي ليبرالي، أو شبه ديمقراطي في أحسن الأحوال. فالحق في التصويت كان مقيدا جدا، والهيئات التشريعية المنتخبة كان لديها القليل من السلطة» (ص 20).
في ضوء ما سبق، كثيرا ما يجد المرء صفة غير ليبرالية مضافة إلى الديمقراطية للإشارة إلى أنها شكل ناقص من أشكال الديمقراطية، لافتقارها إلى الحريات الشخصية وعناصر من النظام الرأسمالي، وخاصة اقتصاد السوق. على سبيل المثال، مع أن إيران تجري انتخابات منتظمة، وشعبها انتخب عددا من الرؤساء منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979، فإن إيران توصف بأنها ديمقراطية غير ليبرالية (زكريا 2004).
رغم ذلك، فإن البعض يفضل الليبرالية على الديمقراطية. يشير سارتوري (1962) إلى رفض كانط (Kant) الصريح للديمقراطية باعتبارها شكلا من الحكم الاستبدادي (ص 262). ويشير أيضا إلى أن ماديسون وهاملتون، وهما ممن يسمون الآباء المؤسسين للولايات المتحدة لم يختلف تفكيرهما في المسألة عن تفكير كانط (ص 288). هذه النظرة للديمقراطية لم تنقرض. يذكر هيلد أن هايك يميز بين «الليبرالية والديمقراطية»، وأن هايك قال «إذا كانت الديمقراطية تعنى إرادة الأغلبية دون قيود فهو ‘ليس ديمقراطيا’.» (هايك 1982، ص 39 في كتاب هيلد، 1987، ص 248).
فكرة أن الديمقراطية تعني حكم الأغلبية دون قيود أو عقلانية فكرة قديمة بالية. سارتوري (1962، ص 460-461) قال إن «الديمقراطية لا معنى لها دون الليبرالية». وبعد خمسين سنة، يردد بيثام (2004، ص 61-75) نفس الحجة: الديمقراطية والحرية لا ينفصلان. ويؤكد: «دون حرية لا توجد ديمقراطية» (ص 61).
يلخص بوبيو (1990، ص 37) النقاش حول الليبرالية والديمقراطية بالقول إن «الديمقراطية يمكن أن تعتبر تطورا طبيعيا لليبرالية». هذا الاستنتاج لا ينطوي على تناقض، لأنه لا يعني ضمنا أن الديمقراطية ظلت مستمرة منذ عهد المدينة-الدولة الإغريقية، بل ينطبق تحديدا على عودة ظهور الديمقراطية في العصر الحديث، والمناقشات التي تحيط بالليبرالية والديمقراطية.
أؤيد وجهة نظر سارتوري، وبيثام، وبوبيو. ولكن هذا لا يختم النقاش حول الديمقراطية.
الديمقراطية: تصورات مختلفة
هناك طريقة أخرى للطعن في فكرة الديمقراطية وتعتمد على قول إن هناك تصورات أخرى في الثقافات غير الغربية توفّق بين الديمقراطية والهويات الثقافية. يتفق ازبوزيتو وفول (1996) مع قول غالي إن الديمقراطية مفهوم متنازع على جوهره، ويذهبان إلى قول إن لدى الثقافات الأخرى ما تقدمه. لكي أناقش وجهة نظرهما، أود أولا أن أشير إلى فيليب حتي (1948، ص 15) الذي يقول إن القبيلة العربية تدار على أسس ديمقراطية، «ففي الشؤون القضائية والعسكرية والشؤون الأخرى ذات الاهتمام المشترك، لا يملك شيخ القبيلة سلطة مطلقة، فعليه أن يتشاور مع مجلس القبيلة المكون من أرباب العائلات التي تتكون منها القبيلة. وبقاء الشيخ في منصبه يعتمد على إرادة أفراد القبيلة».
لتجنب إعطاء الانطباع بأن المقتطفات أعلاه تبالغ في عقد المقارنة مع الديمقراطية، من الضروري الإشارة إلى أن حتي يصف العربي بأنه ديمقراطي (ص 15):
«العربي عامة والبدوي خاصة ولد ديمقراطيا. ويلاقي شيخه على قدم المساواة. المجتمع الذي يعيش فيه يزيل تباين المستويات. والعربي نادرا ما يستخدم لقب ملك إلا في سياق الإشارة إلى حكام أجانب».
ويقول ازبوزيتو وفول (1996، ص 23) أيضا إن أبا الأعلى المودودي طور مفهوما إسلاميا للديمقراطية. سأناقش قولهما هذا ومفهوم المودودي في الفصل المتعلق بالديمقراطية وكل من الإسلام والإسلام السياسي. وسوف أكتفي هنا بالإشارة إلى أن قول ازبوزيتو وفول إن لدى الثقافات الأخرى تصورات مختلفة للديمقراطية لا يتفق مع الجانب التالي من النقاش، وأقصد قولا مفاده إن الديمقراطية لا يمكن أن تنشأ في كل الثقافات.
الديمقراطية والثقافات
تعود فكرة أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا في بيئات ثقافية أو دينية معينة إلى ماكس فيبر الذي زعم أن الرأسمالية والديمقراطية تتطلبان الأخلاقيات المسيحية البروتستانتية. وفيما يتعلق بالإسلام، فقد قارنه فيبر مع اليهودية واستنتج أن الإسلام «يفتقر إلى شرط المعرفة الشاملة للقانون، وإلى التدريب الفكري في تطبيق المبادئ الأخلاقية العامة على حالات محددة تتعلق بالضمير والسلوك، اللذين يغذيان العقلانية اليهودية» (فيبر في هنتر ومالك 2005، ص 11-12).
لم يكن ماكس فيبر مستشرقا منغمسا في دراسة اللغة العربية والإسلام. ولذلك، ينبغي أن يقابل استنتاجه بالشك. مكسيم رودنسون (1977، ص 91) يناقض فيبر، ويصل إلى استنتاج مفاده أن «القرآن يمنح العقل مكانا أكبر من الذي تمنحه للعقل الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية». ويخالف فرانسيس فوكوياما (1992، ص 220-221) رأي فيبر بقوله:
«رواية فيبر للديمقراطية كالعادة غنية تاريخيا وثاقبة. لكنه يصور الديمقراطية بوصفها شيئا ما كان يمكن لها أن تنشأ إلا في وسط ثقافي واجتماعي محدد لزاوية صغيرة من الحضارة الغربية».
ويرفض فوكوياما الحجج التي تقول إن هناك «شروطا ثقافية مسبقة للديمقراطية، ويدعو إلى التعامل معها ببعض الشك، لأن «الثقافات ليست ظواهر ثابتة مثل قوانين الطبيعة؛ بل هي اختراعات بشرية تخضع لعملية مستمرة من التطور» (ص 222). ولكن، وكما سنرى في فصل آخر، يناقض فوكوياما نفسه عندما يتعلق الأمر بالإسلام والديمقراطية.
متطلبات مسبقة للديمقراطية
هناك تشكيلة من المتطلبات المسبقة التي يقول الباحثون إنها يجب أن تستوفى قبل أن يمكن العمل بنظام حكم ديمقراطي. يلخص هنتنغتون (1991) العوامل التي من المفترض أنها تفسر الانتقال إلى الديمقراطية (ص 37-38). تتضمن قائمته عوامل من قبيل أن الدولة كانت مستعمرة بريطانية، أو احتلتها دولة أجنبية مؤيدة للديمقراطية. لو كان العامل الأخير صحيحا، لأنتج دولا ديمقراطية في العالم العربي الذي كانت بريطانيا وفرنسيا تحتلان مناطق مختلفة منه.
ويحدد ليبست (1959) العلاقة بين الديمقراطية والتنمية من خلال النظر في مؤشرات تتعلق بـ«التصنيع، والتحضر، والثروة، والتعليم». ولكنه يحذر من استنتاج أن «الزيادة في الثروة، وفي حجم الطبقة الوسطى، وفي مجال التعليم، وعوامل أخرى ذات صلة تعني بالضرورة انتشار الديمقراطية أو استقرارها» (ص 103). هذا التحذير سليم، فالثروة في الدول المنتجة للنفط في العالم العربي لم تؤد إلى الديمقراطية، على الرغم من أن الثروة أدت أيضا إلى زيادة في التعليم والتصنيع والتحضر.
يشير برجيفورسكي في دراساته بشأن الصلة بين الديمقراطية والدكتاتورية ونصيب الفرد من الدخل إلى أن «الديمقراطيات في الدول الغنية تبقى على قيد الحياة» لأن «الزيادة المحتملة في الدخل التي ستنتج عن إنشاء ديكتاتوريات فيها لا تستحق التضحية بالحرية من أجلها» (2005، ص 8). ويقول برجيفورسكي: «إن الديمقراطية يمكن أن تبقى على قيد الحياة في البلدان الفقيرة ولكن في ظل ظروف خاصة، أي أن يكون توزيع الدخل فيها قائما على المساواة» (ص 9).
يحدد راستو (1967، ص 228) أربعة شروط مسبقة للديمقراطية، وهي:
أولا: تاريخ من التحديث الإداري والتعليمي مدته الزمنية 40-130 سنة.
ثانيا: سياق جغرافي مستقر للنظام السياسي طوال الفترة نفسها.
ثالثا: تقليد، يعود على الأقل إلى جيل أو اثنين أو ثلاثة من الأحزاب التي تقدم صلة عضوية بين الحاكمين والمواطنين، وتمكنت تدريجيا من إشراك عدد أكبر في العملية السياسية.
رابعا: نزاعات عنيدة ومريرة بين جماعات اجتماعية وسياسية كبرى حول قضايا تحظى باهتمام عميق لديها (ص 228-229).
أحتاج هنا لتوضيح الفرق بين التحديث والحداثة. يعرّف تشارلتون واندراس (2003)، التحديث بأنه «عملية» وليس «حالة»، ويمكن اعتباره «الآلية العامة التي تستخدم لتحقيق التحول الاجتماعي من الهيمنة الزراعية إلى هيمنة التجارة والصناعة، والاستمرار الدائم لهذه العملية» (ص 5). ويضيف الكاتبان: «جميع المجتمعات تقريبا تعرضت إلى التحديث ولو جزئيا على الأقل [...] ولا يوجد مجتمع تعرض إلى التحديث بشكل كامل» (ص 5).
الحداثة، في المقابل، وحسب تعريف بيرغر (1979، ص 101)، هي «تحول العالم الناتج عن الابتكارات التكنولوجية في القرون القليلة الماضية، في أوروبا أولا، وبعد ذلك وبزيادة سريعة في جميع أنحاء العالم».
الحداثة في تعريف غيدنز (1991، ص 1) «أسلوب أو تنظيم حياة اجتماعية ظهر في أوروبا من حوالي القرن السابع عشر فصاعدا، وانتشر لاحقا في سائر أنحاء العالم تقريبا».
ولكن الحداثة لا تقتصر على التكنولوجيا. يشير بيرغر إلى أن للحداثة «أبعادا اقتصادية واجتماعية وسياسية، كلها هائلة النطاق». من نتائج ذلك على «الوعي» اقتلاع المعتقدات، والقيم، وحتى الملمس العاطفي للحياة» (ص 101). وفي رأي غيدنز (1991) أن الحداثة تؤدي إلى العالمية». وتساءل عما إذا كانت الحداثة شأنا غربيا واضحا. ويجيب عن التساؤل بنعم، لأن الحداثة تقوم على «الدولة القومية والإنتاج الرأسمالي المنهجي»، إذ لهما في رأيه، «جذور في خصائص معينة من التاريخ الأوروبي» (ص 174).
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الدول في أوروبا، حتى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لا تتفق على أن هناك هوية أوروبية، وتصر كل دولة على هويتها الوطنية. وحتى في بعض الدول، مثل المملكة المتحدة وبلجيكا، هناك هويات وطنية تجعل من الهوية البريطانية والبلجيكية أمرا رسميا لا أكثر. ولكن كل هذا يتم تجاهله في مناقشة مفاهيم مثل الديمقراطية والحداثة. فيصبح الغرب وأوروبا شيئا محددا يستخدمه غيدنز لإطلاق تعميمات بغية مقارنة الغرب مع الشرق.
باحثون آخرون أقل اهتماما بكون الحداثة أوروبية أم لا. ولديهم مخاوف بشأن تأثير الحداثة حيث سادت في الغرب. على سبيل المثال، بيرغر (1979، ص 102-110) يحدد خمس معضلات نتجت عن الحداثة: الأولى، التجريد (على سبيل المثال الأسواق الرأسمالية والدولة البيروقراطية، والمدن الكبيرة)؛ والثانية، المستقبلية (المستقبل هو التوجه الأساسي)؛ والثالثة، الفردانية (فصل الفرد عن الكيانات الجماعية)؛ والرابعة، التحرير (القدر لا يقرر)؛ والخامسة هي العلمنة (تهديد معقولية المعتقدات الدينية).
رغم ما قيل أعلاه، أود أن أشير إلى أن حركات الصحوة الدينية في السبعينيات والثمانينيات تقوّض الافتراضات المتعلقة بالمعتقدات الدينية والعلمنة [1]. من بين المنظرين في مسائل الحداثة، وجدت راستو (1967) الأكثر إقناعا للغاية. فهو يشير إلى أن التحديث يؤدي إلى «تحوّل الإنسان والمجتمع، ولكن إلى تحوّل عقل الإنسان أكثر من أي شيء آخر» [2]، و«ينطوي على ثورة فكرية وتقنية واجتماعية» (ص 3). في رأيي أن هذا القول لراستو يقدم أساسا أفضل للنظر إلى الحداثة وتأثيرها على الشعوب غير الغربية، وغير الأوروبية. المسلمون عموما ليس لديهم مشكلة مع الجانب التكنولوجي من الحداثة: سواء تعلق ذلك الأمر بالسيارات أو التليفزيونات أو الهواتف أو الحواسب أو المعدات التكنولوجية الأخرى [3].
الأثر الاجتماعي للتحديث مسألة أكثر تعقيدا. لا يتأقلم الناس بسرعة في هذا المجال. على سبيل المثال، كان تعليم المرأة لا يعتبر ضروريا لأن المرأة على الأرجح سوف تتزوج، وبالتالي ستبقى في المنزل. ولكن هذا الموقف تجاه تعليم المرأة تغير. فالآباء والأمهات يهتمون بتعليم بناتهم وأبنائهم.
وإضافة إلى ذلك، فإن التحول الاجتماعي لا يسير بالضرورة على الطريق الغربي. الناس يتبنون ويتأقلمون بانتقائية. هذا، في رأيي، يقوّض القلق غير المبرر من أن الحداثة تعني التغريب. ولكن عملية التحديث تجلب معها بعض الجوانب التي تثير القلق حتى في الغرب، مثل التجريد والانفرادية.
التحول الثالث الذي ذكره راستو، أي التحول الفكري، هو الأصعب، والأبطأ. عندما ينشأ الإنسان على الاعتقاد بأن الإسلام يقدم الإجابة عن كل الأسئلة، من الصعب عليه قبول فكرة وجود إجابات في مفاهيم أخرى، مثل الديمقراطية. ولكني أرى أن التحول الفكري في العالمين العربي والمسلم، لم يبدأ وحسب، بل ترسخ.
وثمة نقطة أخيرة يذكرها راستو، أود أن أشير إليها في هذا النقاش، ومفادها أن التحديث «عملية مستمرة، [...] ولا يستطيع أي مجتمع أن يدعي أنه حديث تماما وبصورة قاطعة» (ص 16). في رأيي أن هذا الاستنتاج لراستو صحيح، ويحرم غيدنز وغيره من الأساس المستخدم في استنتاج أن الحداثة أمر غربي أو أوروبي.
ويضيف راستو أن «التحديث، كمفهوم تحليلي، له ميزة تتمثل في كونه محايدا أخلاقيا» (ص 8). بعد فحص المفاهيم التحليلية الأخرى (في هذا الفصل وغيره)، أميل إلى الاتفاق مع راستو، رغم أن موقفا محايدا أخلاقيا تماما أمر مستحيل. ولكن من الضروري السعي إلى التحلي بموقف محايد أخلاقيا. إضافة إلى ذلك، أجد نهج راستو أفضل من المفاهيم التحليلية المحملة بالتحيزات الأيديولوجية والدينية والثقافية، ليس من منطلق ما أفضله شخصيا، بل من ناحية صحة الاستنتاجات التي يتوصل إليها الباحث نتيجة استخدامه مفهوما تحليليا محددا.
وقبل أن أختتم مناقشتي للحداثة ونظرية التحديث لراستو، سوف أشرح بتفصيل أكبر لماذا وجدت نظرية راستو أفضل من النظريات أخرى فيما يتعلق الأردن، على الرغم من اعتبار نظريته تطورية وحتمية.
في القسم المتعلق بالمنهجية، نقلت عن شتراوس وكوربن (1998، ص 10-11) قولهما إن «طبيعة مشكلة البحث» تؤثر على اختيار طريقة منهج البحث. الأمر نفسه ينطبق على اختيار نظرية. لقد أقدمت على تقييم حالة الديمقراطية في الأردن بعقل مفتوح، والجردة الديمقراطية (منشورة في فصول أخرى) لا تستند إلى أحكام مسبقة عن حالة الديمقراطية في الأردن.
نظرية التحديث لم تمت. ويمكن العثور عليها في أشكال مختلفة في العديد من البحوث، مثل دراسات برجيفورسكي الذي يقول إن هناك صلة بين الديمقراطية ونصيب الفرد من الدخل. لذلك، فإن اختيار نظرية التحديث مبرر على أسس موضوعية. إضافة إلى ذلك، رغم أني أجد منطق راستو أكثر إقناعا، إلا أنني لا أتبنى نظريته دون نقد وتمحيص. فهو أخطأ عندما اعتبر التحديث مساويا للتغريب في حالتي مصر والإمبراطورية العثمانية (ص 11). كما أنه أخطأ عندما اعتبر لبنان [دولة] ديمقراطية و«الطوائف الدينية» بديلا عن الأحزاب السياسية المذكورة في متطلباته المسبقة لنشوء الديمقراطية (ص 228).
أظهرت الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في السبعينيات، واستمرت حتى التسعينيات، أن لبنان ليس دولة ديمقراطية، وأن بعض أفراد «الطوائف الدينية» المختلفة كانوا قادرين على ارتكاب جرائم لا توصف ضد أفراد من الطوائف الأخرى. والنموذج اللبناني يبطل حجة أن الطوائف الدينية يمكن أن تكون بديلا مناسبا للأحزاب السياسية.
النظريات المختلفة حول ما تعنيه الديمقراطية، ونماذجها، وتصوراتها تدفع بعض دارسي الديمقراطية، مثل موف (2000)، إلى القول إنه لا يوجد اتفاق على كيفية وصف «نوع الديمقراطية التي تأسست في الغرب خلال القرنين الماضيين» (ص 1). من بين الأسماء المستخدمة في هذا الصدد: «الديمقراطية الحديثة، الديمقراطية التعددية، الديمقراطيات الدستورية [و] الديمقراطية الليبرالية».
أسهمت موف في التشويش من خلال تنظيرها حول «الديمقراطية الراديكالية» التي تصفها بأنها «البديل الوحيد». وتحث موف «اليسار» على «اتخاذ موقف مختلف تجاه الديمقراطية الليبرالية» (1995، ص 1). هذا يوضح أن الغموض ليس حقيقيا. ويعترف وايتهيد (2000) بوجود دلالات متنوعة لكلمة الديمقراطية في الثقافات المختلفة، وأنه من غير الممكن «افتراض استمرارية ما كامنة وراء معنى لمصطلح» منذ المدينة-الدولة الإغريقية (ص 8). ومع ذلك، يدعو إلى بعض الاتفاق على معنى ما (ص 8)، ويقول:
حتى أولئك الذين يعتبرون «الديمقراطية» أمرا معياريا في طبيعته، لديهم أسباب وجيهة لتفضيل إجراءات واضحة ومحايدة لتقييم وضع مدعي ملكية المصطلح. وحتى الذين يعتبرون تعريف «الحد الأدنى» أو «الإجرائي» للديمقراطية ناقصا، أو منحازا ثقافيا، يجب أن يفكروا فيما سيفقد إذا ما تم استبدال اللغة التوافقية ليس بالتزام عام بتعريف أكثر طموحا، بل بالعجز عن الاتفاق على معنى قياسي، وما سينتج عنه من ترخيص للأحكام الذاتية والتعسفية.
إضافة إلى ذلك، تقول اوتاواي (2007): «لا يوجد أي سبب للطعن على المستوى النظري في فكرة أن الديمقراطية نظام سياسي متفوق على جميع النظم الأخرى» (ص 604). أتفق مع الجزء الثاني من قولها. أما التحديات النظرية فهي كثيرة. ومع ذلك، ما لم يخرج نظام حكم أفضل، ويبرهن أنه أفضل من الديمقراطية، سيظل نموذج الديمقراطية الليبرالية النموذج المتوفر الأفضل، على الرغم من عيوبه والحجج التي تقول إنه فكرة أوروبية.
لا خلاف طبعا على أن الديمقراطية ليست فكرة أو نظام حكم مثاليين. ليفورت (1988) يعترف بأن «المؤسسات الديمقراطية استخدمت باستمرار لتقييد وسائل الوصول إلى السلطة والمعرفة وتمتع الأقلية بالحقوق» (ص 19). ولكنه يؤكد أن «الديمقراطية تأسست ودامت بإذابة صانعي اليقين. ودشنت تاريخا يجرب الناس فيه عدم التحديد كأساس للسلطة والقانون والمعرفة» (ص 19). ويذهب ليفورت أبعد من ذلك عندما يقول إن «الفلسفة تدين [قدرا كبيرا] للتجربة الديمقراطية» (ص 20).
تطور تعريفات الديمقراطية
يعرف ليبست (1959) الديمقراطية بأنها «نظام سياسي يوفر فرصا دستورية منتظمة لتغيير المسؤولين الحاكمين» (ص 71). أما فاينر (1970) فيقول: «الديمقراطية هي حكومة مستمدة من الرأي العام وتكون مسؤولة أمامه». ويضيف أن الرأي العام يجب أن يكون علنيا وحرا. الركن الثالث في تعريف فاينر للديمقراطية هي أن إرادة «الأغلبية تسود» (ص 63).
هناك عنصر إشكالي في تعريف فاينر، وهو «الرأي العام». أحد الأسباب أنه يستخدم «الرأي العام» كبديل عن «الشعب» رغم وجود اختلاف بين معنى الاثنين. سبب آخر هو وجود حاجة لقياس الرأي العام [4]. وعادة ما يتم هذا في استطلاعات الرأي، وهذه لا يمكن التعويل أبدا على دقتها وموثوقيتها. الرأي العام الملموس في الدول الديمقراطية (الأغلبية) يعرف فقط بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات.
راستو (1967) أيضا يعرف الديمقراطية بأنها «نظام سياسي حديث ووسيلة مساواة» و«أسلوب حكم شعبي يفترض مسبقا وجود حكومة وشعب» (ص 230-231). شومبيتر ([1942] 1976، ص 269) يوضح أن ما يسميه النظرية «الكلاسيكية» للديمقراطية تنص على «الصالح العام»، الذي يتحقق للناس من خلال انتخاب أفراد لتمثيلهم.
تفترض النظرية الكلاسيكية أن لدى الناس «رأيا واضحا وعقلانيا في كل مسألة»، وعلى هذا الأساس، ينتخبون الأفراد الذين يمثلونهم والذين «سيشرفون على تنفيذ الرأي».
ولكن القرارات التي يمكن أن تتخذ من خلال الديمقراطية يجب ألا تكون مخالفة لبعض القيم والمثل. على سبيل المثال، لن يكون مقبولا من خلال الوسائل الديمقراطية السماح بـ«اضطهاد المسيحيين، وحرق السحرة وذبح اليهود» (ص 242).
ويقول شومبيتر إن الديمقراطية «إجراء سياسي» و«ترتيب مؤسسي،» غايته التوصل إلى قرارات، «تشريعية وإدارية» (ص 242). ويعترض على الافتراضات الأساسية للنظرية الكلاسيكية للديمقراطية. تعريف شومبيتر لـلإجراء الديمقراطي هو «ترتيب مؤسسي من أجل التوصل إلى قرارات سياسية؛ ويكتسب الأفراد في هذا الترتيب سلطة اتخاذ القرار من خلال تنافس على أصوات الناس» (ص 269).
بالنسبة إلى الديمقراطية في جنوب أفريقيا، تتبنى ديغان (1999) تعريف شومبيتر، أي «النموذج العام للنظرية التنافسية» لأن شومبيتر «عرف الديمقراطية كعملية وصفية وواقعية ودقيقة تجريبيا، ولم يعرفها كمفهوم طوباوي معني بالمجتمعات المثالية» (ص 3). وأشارت ديغان إلى أن «التعددية ارتبطت بالليبرالية وقبول قيم معينة»، مثل «حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات، وحرية الصحافة وحرية التجمع، ولا يجوز للحكومة انتهاكها» (ص 3).
ويحذر برينان، وكوراني، ونوبل (1995) من «مخاطر المركزية العرقية في قراءة عمليات مستمدة من مجموعة ظروف تاريخية وسياسية على ضوء سياقات أخرى مختلفة جدا». ولكنهم يحذرون أيضا من اعتبار الديمقراطية شأنا يعتمد على عين الناظر. لذلك، أجدهم مقنعين في قولهم: «بعض الصرامة المفاهيمية ضرورية لكيلا تنحط فكرة الديمقراطية ويصبح لها معنى عند كل إنسان» (ص 4).
أودونيل (2007) أيضا يقول إن «هناك اتفاقا في معظم دول العالم المعاصر أنه بصرف النظر عن معنى الديمقراطية، فإنها نظام الحكم المعياري المفضل» (ص 3). العربي صدّيقي (2004) يتفق جزئيا مع أودونيل، لكنه يقول إن «وجهة النظر المعيارية يجب ألا تعني إغفال الخصوصية الثقافية على سبيل المثال» (ص 54).
يشير هنتنغتون (1991) إلى وجود ثلاث مقاربات للديمقراطية منذ منتصف القرن الماضي. يقول: كشكل من أشكال الحكومة، «تم تعريف الديمقراطية من ناحية سلطة الحكومة، والأغراض التي تؤديها الحكومة، وإجراءات تشكيل الحكومة». واستمر النقاش من الأربعينيات وحتى السبعينيات، عندما انتصرت حجة وجهة نظر شومبيتر.
ويضيف هنتنغتون أن هناك قضايا من قبيل «الغموض وعدم الدقة عند تعريف الديمقراطية من ناحية مصدر السلطة أو أغراضها». ونتيجة لذلك، يتبنى هنتنغتون التعريف الإجرائي للديمقراطية الذي طرحه شومبيتر (ص 6).
مزايا التعريف الإجرائي للديمقراطية، كما يحددها هنتنغتون (1991) هي أنها «توفر عددا من المقاييس [...] التي تجعل من الممكن الحكم على مدى ديمقراطية النظم السياسية، ومقارنة النظم ببعضها، ولتحليل ما إذا كانت النظم قد أصبحت أكثر أو أقل ديمقراطية» (ص 7).
ووضع دال (1989) بعض المعايير. ويستخدم مصطلح «الحكم المتعدد» (بولي آركي) ويعتبر هذا أعلى مستوى من الديمقراطية. وفق مواصفات دال، للحكم المتعدد سمتان رئيسيتان، الأولى مواطنة واسعة النطاق لتشمل نسبة عالية نسبيا من السكان البالغين. والسمة الثانية، حقوق المواطنة، وهذه تشمل معارضة أعلى المسؤولين في الحكومة والتصويت على إزاحتهم من مناصبهم.
ويتطلب الحكم المتعدد وفق تصور دال له سبعة أمور: (1) مسؤولين منتخبين. (2) انتخابات حرة ونزيهة. (3) حق الاقتراع الشامل. (4) الحق في الترشح للمناصب الرسمية. (5) حرية التعبير. (6) معلومات بديلة. (7) تمتع الجمعيات بالإدارة الذاتية (ص 220).
جون كين (1991) يعرّف الديمقراطية على أساس فهمها بصفتها «نظاما من القواعد الإجرائية مع مضامين معيارية» (ص 168). تتعلق القواعد باتخاذ القرارات، ومن خلال إجراءاتها تتخذ القرارات. ويحدد كين المضامين المعيارية التي يجب أن تصاحب القواعد الإجرائية، وهي تشمل «حقا عاما ومتساويا للبالغين في التصويت؛ حكم الأغلبية مع ضمان حقوق الأقلية [...]. سيادة القانون؛ وضمانات دستورية لحرية التجمع والتعبير والحريات الأخرى» (ص 168-169).
ومن الملفت للنظر أن رأي راشد الغنّوشي في الديمقراطية شبيه برأي جون كين. تجدر الإشارة إلى أن الغنوشي أحد مؤسسي حركة الاتجاه الإسلامي في تونس، التي سعت إلى المشاركة في الحياة السياسية، ووضعت في طريقها العراقيل. وحاولت الحركة تسجيل حزب باسم النهضة في عام 1989. غير أنها حظرت،.وغادر الغنوشي تونس وعاش سنوات عديدة في لندن وعاد منها إلى تونس في عام 2011، بعد إزاحة بن علي، وفاز حزب النهضة بأكثر من %40 من مقاعد المجلس التأسيسي في أول انتخابات بعد مغادرة بن علي الحكم وتونس. يعرّف الغنّوشي (1993، ص 77) الديمقراطية على النحو التالي:
النظام الديمقراطي شكل ومضمون. شكل يتمثل في إعلان مبدأ سيادة الشعب، وأنه مصدر كل سلطة، وهي سيادة يمارسها عبر جملة من التقنيات الدستورية والإجراءات العملية التي تختلف في جزئياتها بين نظام وآخر، ولكنها تكاد تتفق على مبادئ المساواة والانتخاب وفصل السلطات والتعددية السياسية وحريات التعبير والتجمع والتنقب والإقرار للأغلبية بالتقرير والحكم، وللأقلية بحق المعارضة من أجل التداول، وانتهى تطورها إلى الإقرار للمواطن بجملة من الضمانات الاجتماعية.
ويشرح الغنوشي تفاصيل المضمون بقوله:
أما مضمون النظام الديمقراطي فهو الاعتراف بقيمة ذاتية للإنسان يكتسب بمقتضاها جملة من الحقوق الفعلية مثل المساواة مع غيره، تضمن كرامته وحقه في المشاركة الفعالة في إدارة الشؤون العامة، والقدرة على الضغط على الحاكمين والتأثير فيهم من خلال ما يمتلكه من أدوات المشاركة والضغط والتأثير في صنع المصير، والأمن من التعسف والاستبداد (ص 77).
تعريف كين للديمقراطية هو المعتمد في هذا الكتاب [5]. ولكن مبدأ سيادة القانون يتطلب لفت الأنظار إلى مسألة مهمة. سيادة القانون مبدأ مهم جدا. ولكن حتى الطغاة يستخدمون القانون كأداة للقمع. لذلك، من الضروري وجود آليات شفافة لسن القوانين، والمحكمة العليا يجب أن تكون الجهة النهائية في اعتبار قانون ما دستوريا أم لا.
في ختام هذا الفصل، أذكّر بأن غايته كانت تحديد تعريف الديمقراطية الذي استرشد به البحث. لقد أقدمت على تقييم حالة الديمقراطية في الأردن على أساس أنها تعني الديمقراطية الليبرالية النيابية (سارتوري 1962)، وأنها نظام من القواعد الإجرائية مع مضامين معيارية (كين 1991). سيكون عملا عبثيا وسخيفا الإقدام على فحص عدم/توافق الديمقراطية والإسلام، أو تقييم حالة الديمقراطية في الأردن إذا تم على أساس أن الديمقراطية مفهوم لا معنى له.
= = =
[1] في عام 1999، اعترف بيرغر بأنه وغيره ممن كتبوا عن «نظرية العلمانية» كانوا مخطئين. وقال: «العالم اليوم، مع بعض الاستثناءات [...]، شديد التدين كما كان في أي وقت مضى، وفي بعض الأماكن أكثر» (ص 2).
[2] يستخدم راستو في الكتاب كلمة «رجل»، وهذا يجعله عرضة لنقد نسوي. للحداثة والتحديث أثر على الرجال والنساء.
[3] أقلية صغيرة فقط سوف تعارض الجوانب التكنولوجية. في السعودية، عارض بعض الناس البث التلفزيوني؛ كما فعلت طالبان في أفغانستان. ولكن رفض التكنولوجيا انتقائي، لأن هؤلاء الناس قد يعارضون البث التلفزيوني، ولكن لا يمانعون أجهزة الراديو أو السيارات.
[4] حتى الجمهور يصعب تعريفه، وهناك أكثر من جمهور في الدولة الواحدة. وأكبر جمهور يمكن أن يكون لديه أكثر من رأي في وقت واحد، ويمكن أن يغير رأيه بين عشية وضحاها.
[5] في عام 2009، نشر كين كتابا عنوانه «حياة الديمقراطية وموتها». ويؤكد أن الكتاب «يقف بالتأكيد إلى جانب الديمقراطية، مع حجج جديدة» (ص xxxiii).
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري، الديمقراطية والإسلام في الأردن: 1990-2010 (لندن: عود الند، 2018)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:الهواري، عدلي. الديمقراطية والإسلام في الأردن: 1990-2010. لندن: عود الند، 2018.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.
- غلاف متوسط: الديمقراطية والإسلام