كتاب: بيروت 1982: اليوم ي
القضية أكبر من الأشخاص
د. عدلي الهواري
نمط تصوير الشخصيات بأنها بطلة وخارقة للعادة سوف يستمر بعد رحيل عبّاس. وهذا سيحدث عاجلا لا آجلا، فهو متقدم في العمر ودخل المستشفى في الآونة الأخيرة. والراغبون في وراثة مناصبه يعملون على تهيئة أوضاعهم للتمكن من ذلك. وما أن يتم اختيار خليفة لعبّاس، سوف تتكرر الأسطوانة، وسيكون للشعب الفلسطيني «بطل» جديد من إنتاج اتفاقية أوسلو، وسيصور على أنه حامي «المشروع الوطني الفلسطيني» مع أنه غارق لأذنيه في اتفاقية أوسلو.
أعلق في هذا الفصل على مسائل يناقشها الفلسطينيون ومنها ما يسمى «صفقة القرن» وما يرافقها من حديث عن مشاريع اقتصادية كبرى في المنطقة؛ والمصالحة بين حركتي فتح وحماس لتعود السلطة الفلسطينية لإدارة شؤون غزة؛ وشعار الوحدة الوطني؛ وإصلاح م ت ف. لكن الجزء الأكبر مخصص لنقد ظاهرة مديح الأشخاص وفق تقييمات تهمل الأدلة التي تناقض التقييم الإيجابي، مثل الحديث عن «التمسك بالثوابت» الفلسطينية رغم أن اتفاقية أوسلو تمثل تخليا عنها.
صفاقة القرن
الحديث عن «صفقة القرن» لا يتوقف منذ شهور. وحتى صدور هذا الكتاب لم يكن هناك نص مبادرة يمكن الاطلاع عليه، كما كان يحدث في الماضي، مثل مبادرة الرئيس الأميركي ريغان (1982)، أو مبادرة السلام التي اعتمدت في القمة العربية في فاس (1981)، أو غيرهما من مبادرات. ولكن حصلت في الآونة الأخيرة تحركات سياسية ودبلوماسية لم تنشر تفاصيل عن جداول أعمالها أو نتائجها. من ذلك، زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى الأردن. وزيارة الرجل الذي يرتبط اسمه بـ «صفقة القرن»، جاريد كوتشنر، صهر ترمب، إلى المنطقة. وكذلك، زيارة ملك الأردن، عبد الله الثاني، إلى الولايات المتحدة. وقبل ذلك، زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، إلى السعودية حيث التقى ولي العهد، محمد بن سلطان، الذي تردد في الأنباء أنه موافق على «صفقة القرن».
غياب التفاصيل يجعل الحديث عن هذه المبادرة يتم وفق أهواء المتحدث. ولكن من المعروف عن مبادرات السلام المتعلقة بالقضية الفلسطينية أنها تعتمد على التضحية بحقوق الشعب الفلسطيني. لذا، لن تكون الصفقة من نمط مختلف، ومصيرها أيضا لن يختلف عن سابقاتها. ويلاحظ أيضا أن الترويج لمبادرات السلام المضحية بالحقوق الفلسطينية والعربية يرافقه الحديث عن مشاريع اقتصادية سوف تؤدي إلى ازدهار المنطقة بكاملها. هذا الترويج خادع، وتم استخدامه بعد اتفاقية أوسلو ومعاهدة السلام الأردنية-الإسرائيلية، فقد كثر الحديث آنذاك عن مشاريع اقتصادية ستؤدي إلى جني منافع السلام، وعقد أكثر من مرة ما سمي قمة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاقتصادية.
وبعد سنوات قليلة من نشر الأوهام بشأن الازدهار الاقتصادي الذي سينتج عن اتفاقيات السلام، لم يحدث شيء وتوقف عقد القمة الاقتصادية. وفي حال طرح مبادرة سلام تحت مسمى «صفقة القرن» وعقد مؤتمرات اقتصادية، والحديث عن مشاريع كبرى، ما على المرء إلا الانتظار بعض الوقت، وستظهر الحقيقة من جديد: ستبقى الأوضاع الاقتصادية كما هي، إذا لم تتدهور أكثر حيث هي سيئة أصلا.
وأثناء الحديث عن «صفقة قرن» مجهولة المعالم، قرر الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وتم النقل في أيار 2018. مع ذلك، يستمر على الجانب العربي الحديث عن مواقف بطولية تجاه القدس، ويستمر الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية.
مسيرات العودة - حصار غزة - المصالحة الفلسطينية (بين فتح وحماس)
مع اقتراب الذكرى السنوية السبعين لنكبة فلسطين، برزت فكرة تدعو إلى تنظيم مسيرات تركز على حق العودة إلى فلسطين. ومن المفارقات الملفتة أن قطاع غزة المحاصر حصارا خانقا شهد تنظيم مسيرات عودة كبيرة ومنتظمة. وأكدت هذه المسيرات أن الشعب الفلسطيني لم يتعب من النضال، ولا يزال متمسكا بحقوقه في وطنه. مقابل هذا التطور الإيجابي، أي مسيرات العودة، لا يزال قطاع غزة خاضعا لحصار بحري وجوي وبري. وزاد الأمر سوءا أن رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عبّاس، يفرض عقوبات على أهالي غزة ممثلة بحجب رواتب الموظفات والموظفين، أو دفع نسبة صغيرة منها.
لم تسر الأمور كما تشتهي حركة حماس منذ فوزها في الانتخابات التي جرت عام 2006. ونتيجة للحصار المفروض على غزة، وتفاقم الأوضاع فيه عاما بعد عام، أبدى يحيى السنوار، الرئيس الجديد للمكتب السياسي لحركة حماس في قطاع غزة، استعدادا إضافيا لتقديم تنازلات من أجل تحقيق المصالحة. ونسب إليه قوله إنه سيجري تكسير رؤوس من يقف في وجه المصالحة. بداية، هذه اللغة غير لائقة. والأهم من ذلك، أن هناك قراءة سياسية خاطئة من حماس لمسألة المصالحة.
كان شعار الوحدة الوطنية قبل خروج م ت ف من بيروت فعالا في تمييع المواقف السياسية للفصائل الفلسطينية. ولذا لم يفلح مشروع جبهة الرفض. وعندما حدث الغزو الإسرائيلي للبنان، حظي قرار الخروج من بيروت بموافقة جميع قادة الفصائل. الوحدة الوطنية كما فهمت ومورست في ذلك الحين أدت إلى تدجين الفصائل. ومحاولة وقف الابتعاد عن خيار المقاومة بعد الخروج من بيروت، ممثلة بما سمي الانتفاضة والانشقاق في حركة فتح، أديرت بقصر نظر أفشلها مع أنها في البداية مثلت بارقة أمل انتظرها كثيرون طويلا.
ورغم أن شعار الوحدة الوطنية ساهم في تمييع المواقف السياسية للفصائل، إلا أنه لم يكن يشمل الوحدة مع شخصيات أو تيارات فلسطينية اعتبرت في ذلك الحين خارج الصف الوطني المقاوم. أما حاليا فشعار الوحدة الوطنية ينادي بتحقيق وحدة مع طرف مرتبط بالاحتلال. وعلى خلاف مرحلة ما قبل خروج م ت ف من بيروت، لم يعد الأمر مرتبطا بعدد قليل من الأشخاص، مثل رؤساء بعض البلديات، بل بسلطة لها اتفاقيات رسمية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي. ولذا، فإن شعار الوحدة الوطنية رغم عيوبه في الماضي كان ينادي بوحدة بين فصائل ضمن التيار الوطني المقاوم. أما الآن فالأمر ليس كذلك، وسوف تفرض السلطة الفلسطينية إراداتها على الآخرين لو تحققت هذه «الوحدة».
الخطأ في قراءة حماس للمصالحة أنها تظن أن السلطة ستقبل بوجود تيار مقاوم في قطاع غزة. يشار في هذا السياق إلى حالة لبنان، حيث لحزب الله وجود عسكري رغم وجود حكومة وجيش. الوضع في لبنان مختلف عن فلسطين. لبنان ليس محتلا، وتركيبة المجتمع اللبناني مقسمة، ولذا رحب بعض الشعب اللبناني بالمقاومة الفلسطينية، وعاداها بعض آخر. وبعض الشعب اللبناني يؤيد حزب الله وبعض آخر يعاديه. وحاليا ليس بوسع طرف لبناني أن يحاول القضاء على حزب الله دون انفجار حرب أهلية جديدة لا يستخدم فيها الوجود الفلسطيني في لبنان كذريعة لها. وحزب الله أقوى عسكريا مما كانت عليه م ت ف، وحاضنته الشعبية أكبر مما توفر لمنظمة التحرير، وعلاقته مع النظام في سورية ودية.
لن تسمح السلطة الفلسطينية أو إسرائيل بوجود عسكري مقاوم في غزة أو الضفة الغربية. رجوع السلطة إلى قطاع غزة سيعني عودة التأثير الإسرائيلي على إدارة شؤون القطاع. ومثلما تدخل القوات الإسرائيلية إلى أي مكان تريده في الضفة الغربية، سيحدث الأمر نفسه في غزة لو عادت السلطة. رغم أن غزة محاصرة حاليا إلا أنها خالية من وجود دوريات عسكرية إسرائيلية أو مستوطنين صهاينة أو حواجز إسرائيلية دائمة أو مؤقتة، كما هي الحال في الضفة الغربية. هذا إنجاز لا يجوز التفريط فيه. هذا الرأي لا يتجاهل صعوبة الوضع في غزة. المعادلة صعبة للغاية. استمرار الحصار يعني تفاقم الوضع الإنساني في غزة، وعودة السلطة ستعني إنهاء وجود المقاومة في غزة.
وترتكب حماس خطأ كبيرا عندما تقدم على ممارسات تستعدي أهالي القطاع. من الأمثلة على ذلك، فرض الحجاب على النساء في غزة. وهكذا بدلا من تعزيز الشعور بالحرية في القطاع نتيجة تحرره من الاحتلال، فإن إقدام حماس على ممارسة كهذه كفيل بتنفير نصف الجماهير منها وتغيير الموقف تجاهها. وهذا الموقف أيضا متناقض مع فكرة تحرير الوطن، فتحرير الوطن مرتبط بتحرير الإنسان.
منظمة التحرير: لا يصلح العطار ما أفسد الدهر
مرحلة م ت ف وفصائلها وقادتها انتهت بخروج المنظمة من بيروت. كان الشعب الفلسطيني ولا يزال منذ ذلك الحين بحاجة إلى هياكل وقيادة جديدة. الشعوب تنهض أو تُدجن وفق نوعية القيادة التي تقودها. هذا يفسر أسباب تحول الشعب الفلسطيني من رافض للحلول السلمية على حساب حقوقه، إلى شعب تم تدجين قسم كبير منه، من قبل القيادة ذاتها، التي وعدته بتحرير فلسطين باستخدام الكفاح المسلح، ثم توصلت سرا إلى اتفاقية في أوسلو، تنازلت بمقتضاها عن معظم فلسطين، وأعطت جزءا فقط من الشعب الفلسطيني حكما أقل من الذاتي بكثير. وصول هذه القيادة إلى هذه الخاتمة لم يكن يستحق ما قدمه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية من تضحيات.
إعادة قراءة أحداث وأشخاص
عند تقييم مرحلة قيادة عرفات للنضال الفلسطيني، لا يستطيع المرء أن يذكر له الصمود في بيروت، وينسى توصله إلى اتفاقية أوسلو. رغم ذلك، ثمة محاولات لتصوير عرفات بطلا حتى بعد التوصل إلى اتفاقية أوسلو، وتعطى الأمثلة على هذه البطولة فيقال إنه رفض تقديم تنازلات بشأن القدس في الاجتماع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي عقد في كامب ديفيد (عام 2000) في عهد الرئيس الأميركي بل كلنتون، وشارك فيه عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك.
يتوقع المروجون لهذه السردية أن يتخلى الإنسان عن عقله، وينسى أن التنازل عن القدس ومعظم فلسطين قد تم بالتوقيع على اتفاقية أوسلو. ولذا، ما يصور على أنه موقف بطولي بعد ذلك هو إنجاز وهمي يقتنع به من يؤيد حزبا أو شخصا تأييدا أعمى.
لا أستغرب أن تقوم الأجهزة الإعلامية والتنظيمية للفصائل بتصوير قائدها كبطل مهما فعل. ولكني أستغرب أن يصدر مثل هذا الكلام عن شخصيات تعتبر مثقفة. من الأمثلة التي توضح هذه النقطة مقطع من برنامج تلفزيوني بثته قناة الجزيرة في عام 2008 شارك فيه عبد الله النفيسي (الكويت) ومعن بشور (لبنان) وعزمي بشارة (فلسطين) وحسام عيسى (مصر). وأدارت الحوار المذيعة جمانة نمور. يعبر النفيسي في المقطع عن رأيه في مسألة التوصل إلى اتفاقية أوسلو، وفي ياسر عرفات.
النفيسي: هذه الأكذوبة الكبيرة التي تقول إنه لم يكن أمام الفلسطينيين أي خيار إلا أوسلو، هذه دعاية كان يبثها فريق عرفات. حقيقة، عرفات هذا رجل يحتاج إلى إعادة قراءة تماما: من بداية مشواره حتى وفاته. أنا أعتقد أنه آن الأوان للفلسطينيين أن يعيدوا قراءة هذا الرجل. أنا أعتقد أن هذا الرجل قاد الشعب الفلسطيني من كارثة إلى أخرى.
المذيعة: هل تتخيل معي فقط رد الفعل الآن، يعني العدد الهائل من الفلسطينيين ماذا سيشعرون لدى سماعك؟ فقط أود أن أذكرك بأنهم، العرب بالدرجة الثانية، والفلسطينيين بدرجة أولى. نحن نتحدث عن ياسر عرفات الرمز. على الأقل، ياسر عرفات الذي وحد، كان الشعب الفلسطيني موحد على أيامه.
النفيسي: أنا بالنسبة لي ليس رمز. هذه شخصية فهلوية قادت الشعب الفلسطيني من كارثة إلى كارثة. أخرجهم من الأردن بارتجاليته. وأخرجهم من لبنان بارتجاليته. ولعب بمصيرهم من تونس بارتجاليته. وأدخلهم في نفق غزة، المعتقل الأليف هذا، اللي يسمى الكيان الفلسطيني الجديد سنة 1994. أنا أعتقد أن هذا الرجل بحاجة إلى إعادة تفسير.
المذيعة: على كل، هذه وجهة نظرك، بغض النظر عنها، إذا ما عدنا إلى منظمة التحرير بعد كل هذه التطورات وهذه المتغيرات، هل ...
عزمي بشارة يقطع حديث المذيعة ويقول: «لكنه قال لا في كامب ديفيد». ثم يضيف معن بشور: «ومات محاصرا ومسموما وقتيلا، شهيدا على يد الاحتلال». تتداخل أصوات المشاركين، ويسمع عزمي بشارة يقول: «لم يتخل عن الثوابت».
https://www.youtube.com/watch?v=oEV1ZaX4Y2Y
إذا نظر المحلل لنقطة «الثوابت الفلسطينية» حسب المواقف السياسية التي تم تبنيها في دورات المجلس الوطني الفلسطيني بعد حرب عام 1973، التي تلاها الحديث عن تحقيق سلام بين الدول العربية وإسرائيل، سيتبين أنها (الثوابت) لم تثبت في موقع، فالثورة الفلسطينية انطلقت في أواسط الستينيات على أساس تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. هذا «الثابت» لم يثبت، بل ظل يتقلص ويغير موقعه رجوعا. وبعد الخطاب الثوري المباشر الذي كان يتحدث عن تحرير فلسطين، صارت اللغة الملتوية أسلوب التعبير عن المواقف التراجعية.
استمر تقلص الثوابت وتغيير موقعها إلى أن وصلت إلى القبول بالتنازل عن معظم فلسطين في اتفاقية أوسلو. ولو سرنا مع منطق عزمي بشارة بشأن تمسك عرفات بالثوابت، فإن أفضل سيناريو ممكن لهذا التمسك هو نجاح اتفاقية أوسلو نجاحا تاما، وتحقيق كل ما تمنى عرفات تحقيقه منها، أي قيام دولة فلسطينية مستقلة بعد خمس سنوات من الحكم الذاتي، وتكون القدس الشرقية عاصمة هذه الدولة المستقلة.
لو تحقق ذلك في عام 1998 أو 1999، لكانت النتيجة أن معظم فلسطين تم التنازل عنه، والشعب الفلسطيني خارج فلسطين لا حق له في العودة. نحن الآن في منتصف عام 2018، ولا توجد دولة فلسطينية حتى على الجزء الصغير من فلسطين الذي اكتفى به عرفات، ولم يتحقق لبعض الشعب الفلسطيني حكم ذاتي. لهذا، لا قيمة علمية وواقعية لحديث بشارة عن أن عرفات تمسك بالثوابت وقال لا في كامب ديفيد عام 2000 بعد أن قال نعم في عام 1993.
توجيه النقد لياسر عرفات ضمن عملية نقد موضوعي لا يعني أن الإنسان الذي ينتقده غير قادر على الشعور بالحزن على المصير الذي آل إليه كمناضل وكإنسان. ولكن المسألة هنا ليست تقييما شخصيا يجوز للمرء أن يدخل فيه العواطف. هذه قضية وطنية تقرر مصير شعب يتألف من ملايين عدة. ومصير أي شخص مهما علت مكانته في عيون محبيه ليس أهم من المصير الذي يؤول إليه الشعب الفلسطيني. من يحترم الشعب حقا يجب أن يعترف بأن الشعب هو البطل. كل الأفراد في خدمة الشعب والقضية وليس العكس.
إن الدعوة إلى إعادة قراءة شخصية أو حدث ما ليس أمرا جديدا، وهي ليست من اختراع النفيسي. مبررات إعادة قراءة عرفات كثيرة، أوضحها أن الرجل شارك في إطلاق ثورة لتحرير كامل فلسطين باستخدام الكفاح المسلح، وختم حياته النضالية بالتوصل إلى اتفاقية أوسلو. هذا التغيير الكامل لا يتم بين عشية وضحاها. لكل تغيير جذور. بعض من عرف عرفات وعمل معه، لديه صورة مختلفة عن النمطية الشائعة بترويج من الماكينات الإعلامية والتنظيمية.
سوف أستشهد أدناه أولا برأي أنيس صايغ، رئيس مركز الأبحاث الفلسطيني ورئيس تحرير مجلة «شؤون فلسطينية» في النصف الأول من السبعينيات، أي عندما كانت الثورة في أوج قوتها في لبنان. الرأي الكامل في عرفات منشور في مذكرات صايغ، الذي تعرض في عام 1972 لمحاولة اغتيال إسرائيلية باستخدام طرد بريدي ملغوم. مما يقوله صايغ عن علاقته بعرفات:
كنت بعد حادثة 19 تموز/يوليو 1972، حينما تعرضت للموت وخسرت معظم النظر والسمع، أبلغت عرفات عندما جاء يعودني بعد خمسة أسابيع من الحادثة، أني مستعد أن أعرض «الهدنة» معه، فيتحملني وأتحمله قدر المستطاع ولأطول مدة ممكنة حتى أفوت على العدو أن يزعم أن المناضل الفلسطيني يهرب من المعركة إذا أصيب، وأن المثقف الفلسطيني يهترئ بسرعة.
ولما كنت قد أبلغته برغبتي في التخلي عن مسؤولياتي في المركز والبحث عن مؤسسة ثقافية أخرى أخدم فيها قضيتي قبل الحادثة بشهرين، ورشحت نفسي فعلا لرئاسة معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، قلت لعرفات إني مستعد لسحب ترشيحي والبقاء في المركز إذا توافقنا على هذه الهدنة. وأبدى ترحيبه. ولم تمض أسابيع إلا وكانت المعارك تحتدم من جديد. وحافظت على تعهدي حتى ربيع 1976.
كانت القشة التي قصمت ظهر الجمل (ولا أظن أني كنت أقل صبرا من الجمل!) في شكل أمر إداري قانوني أصدرته بنقل باحث رئيسي من مهمة فشل فيها إلى مهمة أخرى تناسبه أكثر، دون أي تغيير في الرتبة أو الراتب. أخذ صاحبنا القرار إلى عرفات (وكان الرجل صديقا لعرفات، ومن أتباعه المقربين، وظهر فيما بعد أنه كان من مهندسي العلاقات مع «إسرائيل») محتجا. فكتب عرفات، بخط يده، على هامش الرسالة التي تحمل القرار: يجب إلغاء القرار والحفاظ على راتب (فلان) ورتبته. وعاد صاحبنا إلى المركز وأعاد إليّ الرسالة مذيلة «بأوامر» عرفات.
لقد أخطأ عرفات في ثلاث نواح: ما كان عليه أن يتدخل في الموضوع، ويأخذ قرارا دون الاتصال بي والاستعلام حول المسألة. وما كان له أن يعطي أمرا بإلغاء قرار في مسألة إدارية يعود إليّ البت فيها. وفي أسوا الأحوال كان عليه أن يعرضها على اللجنة التنفيذية للمنظمة إذا اعتقد أن المسألة والقرار سياسيان لا إداريان. وأخيرا، وهذا هو الأهم، كان عليه أن يقرأ القرار الذي أصدرته وقد نص على الحفاظ على رتبة الموظف وراتبه.
وللحال، وبدون تفكير طويل، كتبت في ذيل الرسالة نفسها، بخط اليد، الأسطر المختصرة التالية: «السيد ياسر عرفات رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية: أتقدم باستقالتي من إدارة مركز الأبحاث ومن رئاسة تحرير مجلة شؤون فلسطينية. أنيس صايغ». 23 كلمة، بما فيها العنوان والتوقيع، حررتني من وعد سابق بأن أتحمل عرفات لأثبت للعدو أني شجاع» (ص 303-304).
أما الرأي الآخر فهو لشفيق الحوت، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. يتحدث الحوت في مذكراته عن عرفات بعد حادثة سقوط طائرته في صحراء ليبيا في عام 1992، ولكن عرفات ومعظم من معه نجوا. دفع الحادث القياديين الفلسطينيين إلى التفكير في وضع آليه لخلافة عرفات في حال غيابه عن المشهد السياسي:
باختصار، وبألم شديد، لأني أود الرجل وأقدر له العديد من مزاياه، أقول إن أبو عمّار بعد حادثة الطائرة تحوّل إلى شخص آخر، وعلى عكس ما تمنى له كل محبيه المخلصين، فهو ازداد فردية أضعافا مضاعفة، ووقع في وهم أنه معصوم، صاحب رؤى، وترعاه عناية إلهية خاصة، كما أنه تماهى مع فلسطين إلى شفير الخلط بين الحقيقة والخيال [...] إن الثقة بالذات والاعتداد بهذه الثقة سمتان إيجابيتان لصاحبهما، لكن الغرور والمغالاة في عشق هذه الذات، والوقوع في وهم تميزها من غيرها وكأن لا بديل منه، فتلك سلبيات تحتاج إلى علاج، وربما إلى صدمه تذكره بأن الكمال والخلود من صفات الله، وأن الشرك بالله كفر. ومن المؤكد أن أبو عمّار لم يكن وحده بين القادة العرب، الذي أصابه هذا الإحساس الـمَـرَضي، في هذه الحقبة من تاريخ أمتنا، فهناك كثيرون غيره، منهم من «وقع» في شر مسلكه، ومنهم من ينتظر (ص 456).
الحوت كان قريبا من عرفات، ولذا لا يمكن رميه بالاتهامات التي توجه لمنتقدي عرفات من المختلفين مع نهجه السياسي، من قبيل التبعية لهذا النظام العربي أو ذاك. عندما يعبر الحوت عن رأيه في عرفات بهذا الوضوح لا يعود من الممكن تجاهل الأدلة التي تثبت أن الصورة الشائعة لعرفات غير متطابقة مع الواقعية.
وعلى غرار الترويج لعرفات على أساس أنه بطل الصمود في بيروت، ونسيان توصله سرا إلى اتفاقية أوسلو، ثم تجاهل كل تبعات هذا الاتفاقية المدمرة، والحديث عن قوله «لا» في كامب ديفيد (عام 2000) والتمسك بالثوابت، يتكرر تطبيق السيناريو ولكن في سياق «صفقة القرن» على محمود عبّاس (أبو مازن) خليفة عرفات في رئاسة السلطة الفلسطينية ومناصبه الأخرى في م ت ف وفتح.
ذات يوم وصف عرفات أبو مازن بأنه كرزاي فلسطين، وهو بذلك يشبّه عبّاس بالسياسي الأفغاني، حميد كرزاي، الذي عينه الأميركيون رئيسا لأفغانستان في عام 2001 بعد الغزو الأميركي. وكان عرفات تعرض لضغط شديد لتعيين رئيس وزراء لسحب بعض السلطات من يديه. وفعل ذلك على مضض وعيّن عبّاس.
اختلف الشريكان في اتفاقية أوسلو، عرفات وعبّاس. وابتعد عبّاس عن المشهد السياسي بعض الوقت. ولكنه ورث مناصب عرفات بعد وفاته. والرجل ساهم مساهمة كبرى في تدجين الشعب الفلسطيني، فهو يرفض مبدأ المقاومة المسلحة، رغم أن وطنه خاضع للاحتلال، وأبدى الاستعداد للتخلي عن صفد، مسقط رأسه في فلسطين 1948، واعتبر التنسيق الأمني مع الإسرائيليين مقدسا. فوق كل هذا، يشارك عبّاس في تشديد الحصار على شعبه في غزه بحجب رواتب الموظفين.
وكثر في الآونة الأخيرة استخدام ظاهرة إعلان المبايعة، وهذا عمل لا قيمة له في هذا العصر. في الأحوال العادية، تمارس الشعوب حقها في اختيار من يحكمها في انتخابات حرة ونزيهة. الشعب الفلسطيني لا يزال في حالة تحرر وطني، وما ينطبق على الدول المستقلة المستقرة لا ينطبق عليه إلا بعد أن تنتصر الثورة ويتأسس على انتصارها شرعية توافق عليها أغلبية الشعب الفلسطيني، ويصبح الدستور والسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وسائل تنظيم شؤون الشعب. قبل ذلك، الجدل على الشرعية جدل بيزنطي، وحتى لو اعتبرنا أن ما نتج عن اتفاقية أوسلو من هياكل وقانون أساسي هو مصدر شرعية، فهذه غير متوفرة لأحد: لا للمجلس التشريعي ولا لرئيس السلطة، ففترة انتخاب الاثنين انتهت منذ سنوات عديدة.
من المفارقات أن عبّاس كتب ذات يوم مستنكرا الحكم الذاتي الذي عرض على م ت ف من خلال اتفاقيات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979. المقتطف التالي من مقالة لعبّاس منشورة في العدد 104 من مجلة «شؤون فلسطينية» (تموز 1980) يغني عن التعليق على مصداقية من قال شيئا في عام 1980 وفعل شيئا آخر في عام 1993 وبعده. وإذا كان الحكم الذاتي خيارا سيئا في عام 1980، فهو أسوأ بكثير في عام 1993.
الحكم الذاتي، مباحثات لمن لا يملك الحق وتنازلات لمن لا يستحق
إن معادلة الكفاح الفلسطيني المرير تمثل قنطرة متينة مبنية على أساسين اثنين: أولهما صمود الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة، وثانيهما البندقية الفلسطينية في الخارج. هذه القنطرة تنتج نضالا سياسيا وإعلاميا وعسكريا وجماهيريا رائعا، وتثمر باستمرار مزيدا من التأييد لقضية الشعب العادلة، وتحقق مزيدا من الانتصارات له. كما تنتج مزيدا من العزلة للعدو الصهيوني. ونلاحظ أن هذين الأساسين يعتمد أحدهما على الآخر في بناء الجسر أو القنطرة، ولا يستطيع أحدهما أن يحقق منفردا ما يحققانه مجتمعين. ولذلك، فإن ما تسعى إليه السياسة الأميركية هو تحطيم أحد طرفي الجسر ليسهل التهام الآخر، وإن كانت في الواقع تسعى إلى تحطيم الجسر بطرفيه لتتخلص مما تراه «سرطانا» في منطقة الشرق الأوسط.
[...]
ومباحثات الحكم الذاتي والتسريبات التي تحاول الأطراف إيصالها إلى مسامع الجماهير، هي جزء من عملية تحطيم الجسر، في محاولة منها لدغدغة عواطف ضعاف النفوس في الوصول إلى بعض المكاسب الوهمية والتمني بالوصول أيضا إلى ما هو أفضل وأفضل حتى يتم، حسبما تقول مصر، حصول الشعب على كامل حقوقه. وحتى نعرف ماذا يجري بالضبط ضمن كواليس المفاوضات، نورد هنا نقاطا أربعا يجري البحث حولها وتطرح الأفكار بشأنها، وجميع هذه النقاط تشكك بحق الشعب الفلسطيني بالأرض الفلسطينية وتعـطي إسرائيل الحق، كل الحـق، في تقرير مصيرها منفـردة بحضور الطرف المـصري كشاهد زور (ص 11).
ومثلما لا يمكن تذكر أن عرفات «بطل الصمود» في بيروت، ونسيان أنه توصل إلى اتفاقية أوسلو، لا يمكن أن يعتبر عبّاس بطلا لرفضه «صفقة القرن» فهو شريك في اتفاقية أوسلو. ومواقفه المعلنة بشأن المقاومة والتنسيق الأمني وغزة لا تبقي مجالا لمنحه صفة «بطل» لرفضه «صفقة القرن». هذا منطق يقبله من لا يحترم عقله.
نمط تصوير الشخصيات بأنها بطلة وخارقة للعادة سوف يستمر بعد رحيل عبّاس. وهذا سيحدث عاجلا لا آجلا، فهو متقدم في العمر ودخل المستشفى في الآونة الأخيرة. والراغبون في وراثة مناصبه يعملون على تهيئة أوضاعهم للتمكن من ذلك. وما أن يتم اختيار خليفة لعبّاس، سوف تتكرر الأسطوانة، وسيكون للشعب الفلسطيني «بطل» جديد من إنتاج اتفاقية أوسلو، وسيصور على أنه حامي «المشروع الوطني الفلسطيني» مع أنه غارق لأذنيه في اتفاقية أوسلو.
إن الواقع الفلسطيني حاليا يشبه إلى حد ما الوضع في فيتنام، فالسلطة الفلسطينية هي كالنظام الذي أقيم في فيتنام الجنوبية. لكن لا يوجد لدى الفلسطينيين ما يعادل فيتنام الشمالية. أجد تشبيه السلطة الفلسطينية بفيتنام الجنوبية أكثر دقة من التشبيه بجيش لبنان الجنوبي (بقيادة سعد حداد ثم أنطوان لحد)، فهذا كان ميليشيا لبنانية مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي. أما السلطة الفلسطينية فتتصرف كدولة ولها رئيس ومجلس تشريعي ووزراء وأجهزة أمن ومخابرات.
وجه الشبه بين الحالة الفلسطينية والفيتنامية هو أن انتصار الثورة الفيتنامية تطلب مقارعة نظام فيتنام الجنوبية والقوات الأميركية في الوقت نفسه. السلطة الفلسطينية الآن امتداد للاحتلال الإسرائيلي. وسوف تظل تعتبر نفسها ممثلة للشعب الفلسطيني، مثلما كان نظام فيتنام الجنوبية يعتبر نفسه ممثلا للشعب الفيتنامي.
ولذلك فإن النضال الفلسطيني سيكون عسيرا أكثر من ذي قبل، فقبل أوسلو كان الصراع بين طرفين. أما الآن فهناك طرف فلسطيني يمنع ظهور مقاومة في المناطق التي يديرها، وتستطيع القوات الإسرائيلية دخولها والقيام بأعمال عسكرية فيها. وليس ضربا من الخيال أن يتصور المرء أن يحدث شكل من أشكال الحرب الأهلية بين الطرف المناضل من أجل كل فلسطين وكل الشعب الفلسطيني، والطرف الذي أنتجته اتفاقية أوسلو ولديه شرطة وأجهزة مخابرات وعدد كبير من المستفيدين من الوظائف المتوفرة في مؤسسات السلطة.
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري، بيروت 1982: اليوم ي (لندن: عود الند، 2018)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:
الهواري، عدلي. بيروت 1982: اليوم ي. الاتصالات الفلسطينية-الأميركية أثناء الحصار الإسرائيلي لبيروت. لندن: عود الند، 2018.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.
- بيروت 1982: اليوم ي
- غلاف كتاب بيروت 1982: اليوم ي. المؤلف: د. عدلي الهواري