كتاب: المجلات الثقافية الرقمية
تجربتي في نشر المجلات
د. عدلي الهواري
ظل حبي للمجلات قويا أثناء وجودي في لندن. ووقتها ظهر تصميم المجلات باستخدام الحاسوب، وتحديدا أجهزة أبل المزودة ببرنامج الناشر المكتبي. كنت تواقا لامتلاك حاسوب أبل، واشتريت جهازا مستعملا مزودا ببرنامج الناشر المكتبي بالعربية، وكنت أصمم مسودات لنشرات دون أن أنشرها، بل أحتفظ بها، وبعض المسودات لا تزال في حوزتي.
تعود علاقتي بالمجلات إلى النصف الأول من الثمانينات، بعد انتقالي من ولاية أوكلاهوما الأميركية، حيث كنت أدرس الهندسة المدنية في جامعتها في مدينة نورمان الصغيرة، إلى مدينة نيويورك، التي كان ينشر فيها مجلات سياسية، جمهورها الجالية والطلبة الفلسطينيون في الولايات المتحدة.
كانت البداية مع مجلة «فلسطيننا»، الصادرة عن لجنة الإعلام الفلسطيني. ولكن التصميم والطباعة كان يقوم بهما يوسف كنعان وعبلة بهاء الدين، وكنت أعاونهما بمراجعة المادة المطبوعة لتصحيح الأخطاء ضمن حدود تمكني من اللغة العربية حينذاك، وكان جيدا، ولكن بسبب الابتعاد عن الممارسة لم يكن تطبيق قواعد النحو ممكنا لي بالقدر المتوقع من مدقق لغوي. وكنت أكتب موضوعا للنشر في «فلسطيننا» من حين لآخر.
قبل المجيء إلى نيويورك، تأسس في عام 1980 فرع للاتحاد العام لطلبة فلسطين في الولايات المتحدة، وشاركت في تأسيس فرعه المحلي في مدينة نورمان، ثم أصبحت عضوا في فرعه في نيويورك. وفي عام 1981، انتخبت عضوا في الهيئة الإدارية لفرع الاتحاد في عموم الولايات المتحدة في المؤتمر الثاني للفرع الذي عقد في ولاية أيوا.
أسندت إليّ الهيئة الإدارية مسؤولية الإعلام في فرع الاتحاد الذي كان له أكثر من سبعين فرعا محليا، ويزيد عدد الأعضاء فيه عن ثلاثة آلاف. في العام الأول من عمر فرع الاتحاد صدر عددان من مجلة «الاتحاد» عندما كان زميلي جمال سرحان مسؤول الإعلام.
اعتمدت في البداية على الأخوين يوسف وعبلة في إصدار «الاتحاد». وسرعان ما اتضح لي أن الاعتماد عليهما سيكون ظلما لهما، فمساعدتي عبء آخر يضاف إلى دورهما الرئيسي في إصدار «فلسطيننا». وسيكون صدور «الاتحاد» مرتبطا بظروفهما، وليس وفق التوقيت الذي أراه أو فرع الاتحاد مناسبا. ولذا قررت أن أصدر «الاتحاد» بنفسي، فاشتريت ورقا مقسما إلى مربعات صغيرة بحبر أزرق فاتح وأقلام حبر أسود ومسطرة والسائل الأبيض المستخدم في تصحيح الأخطاء أو إخفائها. وفي شقتي الصغيرة في نيويورك بدأت أقيس هوامش أحد أعداد «فلسطيننا» وعرض الأعمدة، والمسافة بينهما.
كان إصدار المجلات في ذلك الحين يعتمد على إعادة نشر مواد من مجلات وصحف فلسطينية وعربية، وبعض المواد التي تطبع للعدد، وخاصة الافتتاحيات. ونظرا لمشاركتي في إصدار مجلة «فلسطيننا» وتوزيعها، فقد كنت أعرف المطبعة التي كانت تطبع فيها، وإليها لجأت لنشر «الاتحاد».
في مرحلة الاغتراب تلك، توفرت لي الفرصة لاستكشاف ميولي الدراسية الحقيقية، وأردت التخلي عن دراسة الهندسة. سرت جادا على طريق دراسة الصحافة، وحققت هذه الرغبة جزئيا من خلال دراسة بعض المساقات التي كان مطلوبا فيها الكتابة بمعدل مرة في الأسبوع. أفادني كثيرا مساق درسته في سيتي كولج في نيويورك، وآخر في نيويورك انستـتيوت اف تكنولوجي.
رغبت كثيرا في الالتحاق بجامعة كولومبيا لدراسة الصحافة على مستوى الماجستير، ولكن تحقيق هذه الرغبة لم يكن ممكنا، فقد كنت أمر في مرحلة صعبة جدا كنت معرضا فيها للترحيل من الولايات المتحدة (التفاصيل في كتابي «اتحاد الطلبة المغدور»). إضافة إلى ذلك، كولومبيا جامعة خاصة، وإمكانياتي المادية ما كانت تكفي لدفع الرسوم. ولكن الهدف من سرد هذه التفاصيل تبيان أن رغبتي في دخول ميدان الصحافة والنشر كانت قوية، وأردت تحضير نفسي لها بالدراسة، وأن يكون ذلك في أفضل جامعة أستطيع الالتحاق بها. فرض الواقع نفسه عليّ، فلم أدرس الصحافة أكاديميا، بل ظلت في سياق الممارسة العملية ممثلة في إصدار مجلات موجهة للجالية والطلبة الفلسطينيين في الولايات المتحدة.
في عام 1983، حصل خلاف داخل حركة فتح سمي انتفاضة وانشقاقا، حسب موقف الشخص مما حدث. كان هناك تعتيم على ما يجري في الحركة، ولم يكن ذاك عصر انتشار المعلومات بسرعة كما هو عصر الإنترنت الحالي، فحتى المتابعة من خلال الاطلاع على ما يكتب في الصحف كان مقتصرا على من يعمل في السفارات، أما باقي أفراد الجالية والطلبة فلا يعرفون شيئا إلا من خلال الأصدقاء والاتصالات الهاتفية.
ذات يوم في عام 1983، أعطاني زميل عراقي في سيتي كولج مجلة وجدت فيها بيانات صادرة عن الحركة المطالبة بالإصلاح داخل فتح. يومها، قررت إصدار مجلة تتحدث عما يجري في فتح بنشر هذه البيانات. اخترت للمجلة الجديدة اسم «الحقيقة» الذي كتبته بخطوط مستقيمة.
إصدار «الحقيقة» كان قرارا مهما من الناحية السياسية والصحفية. وصدرت وفق تصور لكيفية أداء دورها، فهي بنشر هذه البيانات تزيح ستار التعتيم السائد في أوساط الجالية والطلبة في الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه تنشر المادة الوثائقية دون تعليق منها، فالغاية هي نشر المعلومات وإيصال رأي متكتم عليه في أوساط الجالية والطلبة. وبفعل ذلك، كان هناك أيضا احترام لعقل الجمهور المستهدف.
ليس ضروريا أن تصدر جهة ما مجلة كهذه لأنها مؤيدة للانتفاضة/الانشقاق، فالسبق الصحفي تسعى إليه الصحف والمجلات لأنه يرفع من رصيد المؤسسات الصحافية. ولذا لم يكن ضروريا أن أكون مؤيدا للمطالبة بالإصلاح في حركة فتح لكي أصدر مجلة تتحدث عن الخلاف في الحركة. لكن إصلاح أوضاع حركة فتح أمر توصلت إلى قناعة بالحاجة إليه قبل الانتفاضة/الانشقاق في عام 1983، وتحديدا في عام 1982 أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان والفترة التي قضيتها في مقر المجلس الفلسطيني في أميركا الشمالية، حيث عملت على جهاز التلكس، واطلعت على مراسلات بين القيادة الفلسطينية ومسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية.
القيادة الفلسطينية ومؤيدوها في الولايات المتحدة اعتبروا صدور «الحقيقة» قرارا سياسيا يدل على التأييد للانشقاق في حركة فتح. وكان صدورها موضوعا سأل عنه فاروق القدومي (أبو اللطف) أفرادا من الجالية الفلسطينية التقوا به في نيويورك، التي كان يأتي إليها مرارا بصفته ما يعادل وزير الخارجية الفلسطينية. نفى أعضاء الوفد أي علم لهم بالجهة الناشرة للمجلة، وكانوا صادقين.
كان إصدار «الحقيقة» مسألة مختلفة عن المشاركة في إصدار «فلسطيننا»، وتولي مسؤولية إصدار «الاتحاد» بنفسي، فهاتان المجلتان قرار صدورهما ليس لي. الأولى أصدرتها لجنة الإعلام الفلسطيني في نيويورك قبل مجيئي إلى المدينة. ومجلة «الاتحاد» قرار صدورها بيد الاتحاد، وقبل انتقال مسؤولية إصدارها إليّ كان صدر منها عددان.
إصدار «الحقيقية» قراري. ولم أتشاور مع أحد بشأن إصدارها. ولم يعلم أحد بأن مجلة اسمها «الحقيقة» ستصدر. اشتغلت عليها بصمت وطبعتها حيث تطبع «فلسطيننا»، ووزعتها على ما لدي من عناوين في الولايات المتحدة.
كان إصدار «الحقيقة» أول تجربة لي في إصدار مجلة بقرار ذاتي. تكاليف طباعة العدد وتوزيعه كانت على حسابي. وهي تجربة سأظل أعتز بها مدى الحياة، فهي كما قلت كانت قرارا صحفيا وسياسيا مهما اتخذته وأنا في الثامنة والعشرين من العمر، ولم يكن لدي من الموارد المالية إلا القليل، بعضه يصلني من أهلي، وبعض آخر من أعمال بسيطة كان يأتيني منها دخل قليل يكاد يكفي لتلبية الحد الأدنى من العيش في مدينة كبيرة كنيويورك.
تولى تمويل العدد الثاني صديقي في واشنطن، رجا جبران. وبعد هذين العددين تبنى «الحقيقة» مؤيدو محاولة الإصلاح في حركة فتح، ولكن كنت المسؤول عنها حتى صدور العدد العاشر. وبعد ذلك انتهت صلتي بـ «الحقيقة» ومؤيدي حركة فتح سواء أكانوا من المؤيدين للانتفاضة أم للقيادة. وبقي تعاملي مع السياسة منذ ذلك الحين كأي إنسان متابع لها عبر وسائل الإعلام، ولكن دون الانتماء لحزب أو انخراط في نشاطات سياسية حزبية، وهذا لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا.
في تلك الأيام كان من أمنياتي أن أصبح ناشرا. ولكنها كانت أمنية غير واقعية لفرد ليس ثريا، وليس له صلات بأنظمة أو مؤسسات رسمية يمكن أن يحصل منها على دعم مالي. ولم تكن أمنيتي أن أكون ناشرا ممولا من أحد، فغايتي لم تكن النشر من أجل المال، بل من أجل الإسهام في التراكم المعرفي وحرية الرأي والتعبير.
فرض الواقع نفسه عليّ، فتخليت عن فكرة دراسة الصحافة، وعدت لأكمل ما بدأته من الدراسة الساعية إلى الحصول على بكالوريوس في الهندسة المدنية. وعندما أكملت المتطلبات، عدت إلى الأردن في صيف عام 1985. أثناء العمل في الأردن، شاهدت في عام 1986 إعلانا للعمل مع هيئة الإذاعة البريطانية. قدمت طلبا، وأجريت لي مقابلة، واختبار ترجمة، وآخر للصوت. وحصلت على عقد للعمل في مقر القسم العربي من الإذاعة في لندن. وهذه كانت أول فرصة للعمل الإعلامي في مؤسسة ذات شهرة عالمية، وقسمها العربي معروف في مختلف الدول العربية.
التحقت بهذه المؤسسة في عام 1987 على أساس أني قادم جديد إلى مجال الإعلام، ولكني في تقييمي الشخصي لنفسي لم أكن قادما جديدا إلى ميدان الإعلام، بل قادم جديد إلى العمل في مؤسسة إعلامية كبرى. حسي الصحفي وتمييزي لما هو مهم وغير مهم من الأخبار كان قويا. وكانت لدي تجربة سياسية، من سماتها الإلمام بالشؤون الفلسطينية والأميركية. ولذا أقول بثقة إنني لم أتعلم الصحافة في الإذاعة، بل مارست فيها المهنة التي كنت أحب. ولكن من الحب ما قتل، كما يقال.
ظل حبي للمجلات قويا أثناء وجودي في لندن. ووقتها ظهر تصميم المجلات باستخدام الحاسوب، وتحديدا أجهزة أبل المزودة ببرنامج الناشر المكتبي. كنت تواقا لامتلاك حاسوب أبل، واشتريت جهازا مستعملا مزودا ببرنامج الناشر المكتبي بالعربية، وكنت أصمم مسودات لنشرات دون أن أنشرها، بل أحتفظ بها، وبعض المسودات لا تزال في حوزتي.
كانت بيئة العمل في الإذاعة مليئة بالقيود، ومنها عدم الكتابة في الصحف. والوظيفة في حد ذاتها عقبة في طريق تنفيذ الإنسان مبادرات خارج إطار العمل، وخاصة مبادرة لإصدار مجلة. بالإضافة إلى هذه الموانع، كانت ظروف نشر مطبوعات في ذلك الوقت تعني الحاجة إلى الحصول على تمويل. وأنا لم أفكر يوما، لا في الولايات المتحدة ولا بريطانيا، في إصدار مجلة كمصدر دخل، مع أن نموذج إصدار مجلات للحصول على تمويل أو الحصول على مال مقابل عدم نشر فضائح حقيقية أو مختلقة كان شائعا.
إلى جانب ممارستي الصحافة السياسية في الولايات المتحدة، والإعلام المهني في الإذاعة، كانت هوايتي كتابة القصص القصيرة. ولكن محاولاتي نشر مقالات أو قصص في الصحف العربية كانت تبوء بالفشل. عدم الرد على الرسائل ظاهرة لا تزال منتشرة، فإن أنت أرسلت نصا للنشر، ولم تكن معروفا شخصيا للجهة التي راسلت، من النادر أن تحصل على رد. أسلوب التعامل هذا عنى أن أبواب النشر كانت مقفلة لمن هم غير معروفين لدى جهة النشر، وليسوا من ضمن شبكات العلاقات والصداقات بين المشرفين على الصفحات الثقافية.
«عود الند»: تبلور الفكرة وتطورها
كنت قبل المجيء إلى لندن تجاوزت عقدة استخدام الحاسوب الشخصي في عمّان. فك العقدة حاسوب أبل أجدت استعماله بعد اكتشاف قرص له مزود ببرنامج تدريب على استخدام هذا الحاسوب. وعند مجيئي إلى الإذاعة، كانت تصدر مجلة «هنا لندن»، التابعة للإذاعة، فذهبت بضع مرات إلى مكتبها، وظننت أني سأنشئ تعاونا معها، وقد هيأني لذلك إجادتي لاستخدام حاسوب أبل، الموجود في المجلة. لكن سرعان ما تبين لي أن رئيس دائرة الأخبار التي كنت تابعا لها كان معترضا على ذهابي إلى «هنا لندن» فلم يعد رئيس تحريرها مرحبا كما كان في البداية، فتوقفت عن الذهاب.
بعد البداية الخجولة للحواسب الشخصية، انتشرت انتشارا واسعا، وترافق ذلك مع ظهور الإنترنت واعتياد الناس على استخدام البريد الإلكتروني، وتأسيس المواقع والمدونات الشخصية والمنتديات. ظهر عندئذ الضعف في الكتابات المنشورة في المواقع الكثيرة. ولذا ليس مستغربا أن سمعة النشر الإلكتروني كانت سيئة. النشر في المواقع الإلكترونية كان في مدونات شخصية، أو مواقع عامة ليس فيه أي ضوابط جودة.
بعض الناس استعمل الإنترنت لتحقيق شهرة إضافية، فبعض المواقع كان يعتمد على التعريف بالأشخاص. وكانت ظاهرة المنتديات منتشرة، وهذه لم ترقني يوما، ففكرة التسجيل قبل التمكن من التعليق أقبلها مضطرا حتى يومنا هذا.
لبت الإنترنت رغبتي في الحصول على المعلومات والقراءة المتنوعة بالذهاب إلى مواقع عربية وأجنبية. ولكني لم أكن مهتما بالجانب المتبع في تأسيس موقع وإدارته. سجلت مرة نطاقا (domain) دون أن أعرف أهميته لتأسيس موقع. وذهبت بأمر إداري إلى دورة تدريبية تتعلق بتصميم صفحات لموقع على الإنترنت. وفقدت اهتمامي بذلك بعد انتهاء الدورة.
في إحدى مراحل العمل، كان هناك توجه لتنويع المحتوى في البرامج الإخبارية التي تذاع في الصباح. وعندما كانت تسند إليّ مهمة إعداد مواد خارج المتابعة الإخبارية المألوفة، بدأت أركز على الموضوعات الثقافية بإجراء مقابلات مع روائيين أو شعراء أو فناني كاريكاتير.
قبل وضع حاسوب مشبوك بالإنترنت على كل مكتب في العمل، ذهبت إلى دورة تدريبية على استخدام الإنترنت والمتصفحات في جامعة لندن المعروفة اختصارا بـ ال اس اي (LSE)، ففي البداية، وضعت الحواسب بانتقائية على مكاتب المدراء وأشخاص قليلين. ولذا استخدامي الحاسوب الشخصي والإنترنت بدأ خارج إطار العمل. في ذلك الحين، كان الترويج لاستخدام الإنترنت قويا، وعرضته شركة اسمها فريسيرف مجانا فترة طويلة، قبل أن تسحب الخدمة المجانية وتبدأ تقديمها مقابل مبلغ شهري.
في 19 شباط 2003، غادرت بناية العمل، بوش هاوس، لآخر مرة، وشعرت كما سيشعر أطلس بعد إنزال الكرة الأرضية عن كتفه. أكثر ما اهتممت به حينذاك استئناف مشروعي الدراسي للحصول على برنامج الدكتوراه، فقد كنت بدأته في ال اس اي، واضطررت لهجره نتيجة ظروف العمل.
ارتكبت خطأ باختياري الدراسة في جامعة مانشستر، فهي في مدينة بعيدة عن لندن، والسفر إليها يستغرق أربع ساعات بالقطار. كذلك أخطأت في اختيار الموضوع، فأنا بدأت المشروع بدراسة موضوع سياسي، أما في مانشستر فقد اخترت موضوعا متعلقا بالترجمة، مع أني لم أكن للموضوع الكثير من الود، فعملي في الإذاعة كان يعتمد على الترجمة. بعد عام ونصف عام قررت التوقف عن الدراسة في جامعة مانشستر.
لم يكن هذا القرار مبرمجا مسبقا، وبالتالي يمكنني بدء مشروع بديل، كالانتقال إلى جامعة أخرى، أو عمل جديد أو أي شيء آخر. كنا قد وصلنا في ذلك الوقت إلى أواخر عام 2005 أو بداية 2006. اعتماد الجامعات على الحواسب والبحث في الإنترنت وقواعد البيانات الرقمية كان منتشرا. ولذا أصبح النشر الإلكتروني أمرا واقعا تقبلته المؤسسات الأكاديمية.
بعبارة أوضح، لم يعد النشر الورقي هو الخيار الوحيد فقط. ولأن النشر الإلكتروني منخفض التكاليف، أصبح ميدان النشر مفتوحا دون الحاجة إلى رأسمال كبير. ولم يعد ضروريا النشر وفق النماذج التي أشرت إليها آنفا، أي السعي إلى الحصول على تمويل من نظام أو جهة ما.
في لحظة كنت لا أعرف فيها الطريق بالنسبة للمستقبل، وخاصة بالنسبة لمشروعي الدراسي للحصول على الدكتوراه، عادت إليّ فكرة إصدار «عود الند» التي كنت أعددت لها على حاسوبي مسودة في أيار 2003، أي بعد نحو ثلاثة شهور من ترك العمل في الإذاعة، وظلت بذرتها مزروعة في عقلي وقلبي منذ أيام وجودي في الولايات المتحدة. صوت في نفسي قال لي بقوة: إذا لم تصدرها في هذا الوقت، فأنت لن تصدرها أبدا. كأن صوتا في داخلي كان يحثني على الوفاء لحلم قديم، أو حبيبة قديمة، تمنيت أن أقترن بها لكن الظروف حالت دون ذلك، ثم تغيرت الظروف، وعاد إليه الحنين والرغبة في الوفاء.
قررت إصدار «عود الند»، وعاهدت نفسي أن تجسد كل ما أؤمن به من قيم وأن أعتني بالمحتوى وأطبق معايير جودة، وفي الوقت نفسه أعطي الفرص للمواهب، والراغبات والراغبين في النشر لأول مرة، وأن أرد على الرسائل. كل ما كان يضايقني في أسلوب تعامل المؤسسات الصحفية العربية مع الجمهور عاهدت نفسي أن أخالفه، فأرد على الرسائل، وأنشر دون معرفة شخصية مسبقة. بعبارة أخرى، مجلة تمثلني وتمثل القيم التي أؤمن بها.
كان يجب أن تكون «عود الند» مجلة ثقافية، فالمواقع السياسية والدينية كانت ولا تزال كثيرة. وسبق لي أن مارست في الولايات المتحدة الإعلام السياسي الملتزم، وفي بريطانيا الإعلام المهني الذي يهتم كثيرا بالشؤون السياسية. أدرك أن السياسة جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية. ولكن الحاجة للنشر الثقافي في رأيي كانت أكبر، فهناك الجانب المتعلق باللغة العربية، التي أظهرت المواقع أن الكتابة بها مصابة بضعف صادم، وهناك جانب توفير المنبر للمواهب المحرومة من النشر في المنابر المعتادة، من صحف ومجلات ثقافية ورقية، وهذا المنبر البديل رغم أنه إلكتروني، إلا أنه يتمتع بمستوى راق، أي عكس ما هو شائع في الإنترنت في حينه.
«عود الند»: التحضير للصدور
بعد قرار الصدور، كان عليّ أن اكتسب المهارات اللازمة للنشر في موقع إلكتروني. أما المهارات الأخرى، كالحكم على ما هو مناسب للنشر، وسلامة اللغة وما شابه من أمور، فلدي في ذلك خبرة لا يستطيع أحد أن يستهين بها بعد عملي ستة عشر عاما في الإذاعة التي عرفت باستخدامها العربية الفصحى، حيث أنتجت وقدمت وأعددت برامج متنوعة.
اكتساب المهارات تم بجهود ذاتية، وبالاعتماد على المعلومات المنشورة في الإنترنت. لكي يمكن تأسيس موقع، يحتاج الإنسان إلى تسجيل ما يسمى النطاق «domain»، وهو يعادل العنوان البريدي للمسكن في أرض الواقع. ولكنه وحده ليس كافيا، بل يجب أن يترافق مع مساحة لتخزين محتويات الموقع، ويكون ذلك لدى شركات مختصة تسمى شركات استضافة يكون لديها حواسب تؤجر مساحات منها لأصحاب المواقع. يجب تجديد تسجيل النطاق سنويا، وكذلك عقد الاستئجار مع شركة الاستضافة. يمكن لصاحب الموقع تغيير شركة الاستضافة كلما نشأت حاجة لذلك.
هذا الجزء من المشروع كان الأسهل، فهو لا يتطلب مهارات. الجزء الأهم يتعلق بتصميم الموقع ونشر المواد فيه. تطلب ذلك العودة إلى مهارات التصميم التي تعلمتها في تلك الدورة التي شاركت فيها على مضض، واسترجاع ما تعلمته وتطويره.
كان لدي خيار أسهل وهو استخدام برنامج جاهز، وكنت قاب قوسين أو أدنى من اعتماد برنامج وورد برس. ولو اخترته لوفرت على نفسي الكثير من العمل. لكني امتنعت عن اختياره بعد إخفاقي في تعديل التصميم لتكون قائمة المحتويات على يمين الصفحة. ولذا استخدمت في محاولات التجريب تصميما يحتاج إلى عمل يدوي كثير، ولكن نتج عنه تصميم متناسق يمكنني تغيير ألوانه كل شهر. وهذا جعل تصميم المجلة متميزا.
كنت مدركا لمسألة احترام الحقوق منذ البداية، وكان قراري أن يكون استخدام أي مادة محمية الحقوق ضمن ما يعرّفه القانون بالاستخدام العادل، وأي نقل من مصدر آخر سيكون موثقا توثيقا تاما.
الجمهور الذي استهدفته المجلة هو الشباب الراغب في النشر في الإنترنت، ولكن كثيرا منهم غير متمكن من اللغة العربية. ودل على ذلك كتابة «أنتي» بدل «أنت» و«أبدعتي» بدل «أبدعت» وما إلى ذلك. كان وعد المجلة مراجعة النصوص قبل نشرها، وبالتالي تخليصها من هذه الأخطاء المعيبة، ولكن شريطة تطوير مهارات الكاتب/ة بعد فترة، لكي تخلو الكتابات من هذه الأخطاء.
بعد اعتماد التصميم، جاء دور المواد التي ستنشر. كنت تعرفت في تلك الفترة إلى مجموعة من الأشخاص بعد بدء التعامل بالبريد الإلكتروني. وقد وجهت لبعضهم دعوة للمشاركة في العدد الأول. استجاب بعضهم، ولم يفعل آخرون. صدر العدد الأول بأربع مواد وصلتني من الأشخاص الذين استجابوا لدعوتي، ونشرت مادتين للتنبيه إلى بعض الأخطاء الشائعة في الكتابة.
عززت تلك المواد بثلاث قصص، واحدة لمحاسن الحواتي منشورة في مجموعة قصصية يمنية، وأخرى لمشهور البطران منشورة في مجموعة فلسطينية. والثالثة للكاتب الأردني، حكمت النوايسة، نشرت في صحيفة «الرأي». رافق القصص الثلاث توثيق للمصدر شمل وضع صورة لغلاف المجموعتين القصصيتين. قصة النوايسة عن مدقق لغوي يرى الأخطاء في كل مكان ويتمنى استبدال المهنة ببطاقة تموين أو تأمين صحي لمعالجة عينيه. أحسست أن هذا ما سيحصل لي بعد نشر المجلة. ولذا نشرت القصة كدليل لنفسي على أني أعرف ما ينتظرني، ولن تفاجئني نتائج الجهد الذي سأبذله. وواضح من اختياراتي أنني مهتم بكل الدول العربية.
توثيق المقتطفات من الكتاب في الهوامش (أسلوب شيكاغو):
النسخة الورقية:
1. عدلي الهواري، المجلات الثقافية الرقمية. تجربة عود الند: 2006-2019 (لندن: عود الند، 2019)، ص - -.
توثيق النقل من الموقع:
يحذف من التفاصيل أعلاه رقم الصفحة، ويضاف إليها رابط الصفحة المنقول منها.
توثيق الكتاب في قائمة المراجع:
الهواري، عدلي. المجلات الثقافية الرقمية. تجربة عود الند: 2006-2019. لندن: عود الند، 2019.
عنوان الكتاب يكتب بخط مائل أو يوضع تحته خط.
- المجلات الثقافية الرقمية: تجربة عود الند
- غلاف كتاب المجلات الثقافية الرقمية. المؤلف: د. عدلي الهواري