أياد خضير - العراق
كلمات مبعثرة
شتاء جديد لا يشبه الشتاءات التي مرّت من هنا؛ بعد أن تركت الأشجار أوراقها المنفوضة تسقط لتدوسها الأقدام الضالة؛ تخشخش تحت أقدام السابلة وتتهشّم بصوت مسموع تحت عجلات العربات المستعجلة في الذهاب.
أهكذا هي الحياة دائما؟ أم تتغير أحيانا؟ أم أنّ الخضرة لا تدوم طيلة الفصول؟ أم أنّ الأشجار لا تتحمّل أوراقها دوما؟ أم لأنّنا نتخلّى عن ملابسنا صيفا؟ وهي تنزع عنها أوراقها تحديا للشتاء ولتؤكّد لنفسها أنّها ليست شبيهة بنا لتكن لها خاصيّة متفرّدة لكلّ شتاء قادم جديد.
أهذه هي الحياة دائما. أن نهزم كلّ حين. وأن تعاكسنا الطبيعة نحن الأشداء المتعجرفون؛ وإنّ التجديد أكذوبة نفرح بها لإعادة فصول مللناها؛ ألا نرى بأنّ كلّ شيء يتجدّد إلّانا والنسيمات لا تحقق نتائج باهرة؟ كيف تمضي حياتنا هكذا هباء؟
سنتساقط مثل هذه الأوراق؛ لتدوسنا العربات المسرعة؛ من يحتلّ هذه العربات من لم يأت دورهم بعد فحسب؛ إنّهم أولئك الذين لا يبالون إن كانت هناك أوراق صفراء مرمية على الطريق؛ ليدوسوها دون انتباه أو اكتراث أيضا؛ وما هذه العربات سوى بهرجة تنقلب براكبها أحيانا وتنهيه مثل ورقة مرمية على الطريق ولكنّ الفرق أنّ تلك الورقة المهانة تزحف تجاه الحفر لوحدها وتتخذ منها ملاذا وراكب العربة التي يدوس بعجلاتها أيّ شيء يحفرون له حفرة عميقة ليطمروه بها.
الفرق في أن الورقة تستطيع أن تحصل على ملاذ متّخذة من مسرى الرياح درعا للتحرّك لتصنع قبرها الخاص بعيدا عن الأقدام وقدر الإمكان تتوارى عنّا، أمّا راكب العربة، فلا يساعد نفسه أخيرا لأنّه يعجز عن ذلك رغم أنّه يحتقر تلك الأوراق المتساقطة بفعل انتهاء الخدمة، ولا يعيرها أهمية ويسميها (زبالة). فصل سينتهي. تلك أسطورة الإنسان المتعالي على الأدنى، الأدنى المتفوق عليه بأشياء كثيرة.
لا بدّ لنا أن نتصفّح وجه النهر شئنا أم أبينا، لنرى كم حمل من أساطير وقصص مازالت معلّقة على أكتافه ومويجاته مدى الحياة لأنّه خالد. الإنسان هو من يحملها معه إلى القبر. مرقده الأخير والوحيد تضمّه ذرّات التراب المتعالي عليها؛ لتطمس وجوده وكبرياءه.
متى نتخلّص من تبجحنا. وبأنّنا أقوى من الأشياء نحن لا نرى قوّة الأشياء بعيون باهتة وضعيفة، كيف نقف على قوّتها إن لم نختبرها؟ إن لم نشاكسها. هكذا نحن نطلق الكلمة جزافا؛ غرورنا بلا حساب. بلا حدود إن ظهرت النباتات لوحدها في البراري كانت الأقوى والأثبت والأكثر فائدة ربّما من الكثيرين؛ من إنسان يتمطى على سطح الأرض تلك التي تعمل من سباتها قوّة للمواصلة.
نستذكر كلكامش، ذلك البطل الذي هزم صديقه والذي ما فتئت الكراريس تنبش في سيرته دون ملل. ياللمسكين ذلك الكلكامش المتبجح بقوّته وسطوته لقد هزمته زاحفة على الأرض وسرقت منه بلا خوف نبتة الخلود؛ ترى أهي ذاتها التي أنزلت آدم من جنته؟ يا لدهائها! واعتقد بأنه سيعوّض ذلك على الأرض. زرع وشيّد وفكّر طويلا هل أعاد فعلا بعض جنته؟ هل حقّق شيئا منذ آلاف السنين؟ إنّه ما زال على أوّل الطريق دائما.
ما فرق الأمس عن اليوم ما دامت الحية متجددة وخالدة تبحث عن أخطاء بني آدم التي لا تحصى لتوصله إلى التهلكة أو الخسران مرة إثر أخرى. أيّ إنسان هذا الذي يفكر ولا يتعظ بأن زاحفة على الأرض ما زالت خلفه وبأنه يتسيّد على أحد ما دامت كلماته لا تغني عن جوع ولا تبني شيئا ولا تنير طريقا يتساقط فيه مطر لا يغسل وجوهنا من عفرة التراب ولا يزيل عنها ضوع التراب وخبايا الزاحفة التي تكمن في داخلنا رغم إنّنا نعلن بأنّنا الأرقى، فكم سهلا علينا نزول السلالم!
هذا أوان شتاء جديد فعلا لنحصّن بيوتنا منه؛ سقوفها ومجاريها نبحث عن العيوب الموجودة أو الممكن أن يتسّرب منها المطر أو يجد في الريح الباردة له منفذا؛ زجاج الشبابيك مثلا؛ حيث لم تبق الحرب شبّاكا سليم الزجاج أو بعض الفتحات في الجدران المتهرئة بفعل القذائف المتهورة إن وجدت.
إنّها موجودة فعلا وما علينا إلّا أن نجدها لندسّ بها ملابسنا التي نستغني عنها. ملابسنا القديمة لها فائدة هنا ولكنّ ملابسنا جميعها قديمة. إنّه الإنسان الذي يتقادم به العمر لا فائدة ترجى منه في الغالب. لا يصلح مثل زجاج أو مثل ملابس قديمة مستهلكة فهو بحاجة إلى الرعاية أيضا؛ من البرد لأنّ عظامه لا تحتمله؛ ولا حتى مجابهة المطر الثقيل المتواصل.
هذا أوان شتائه بعد أن عبر الخريف بعكّازه لكيلا يسير على أربع لتعاد ذكرى طفولة محاها الزمن من ذاكرته وبصيغة أو بأخرى مجددا.
ماذا يعني الشتاء أكثر من أن الخريف لفظه من رحمه وزوّده ببطاقة تعريف وجواز مرور لا يعرقله أحد وانسلّ راجعا من حيث أتى لا يعرف مكانه ولا ملاذه أحد. أهذا هو شتاء جديد فعلا أم أكذوبة نطلقها عند نيسان ونصدق بأنّ ما مر بنا ليس سوى أنّنا كوّنّا شتاءنا بأنفسنا مثل فيلم سينمائي يوحي لناظره بذلك؟ وصدقنا أنه البرد فاحتمينا بملابس ثقيلة مخزونة عاما بعد عام حتى أتت عليها العثّة, وصدّقنا أنّه المطر فاعتمرنا قبعاتنا ورفعنا بوجهه مظلتنا التي نحرزها في متاهات دواليبنا لمثل هذه المناسبة التنكرية ونسميها (شمسية) لاتّقاء المطر حتى أنّنا تهنا بين التسميات ذلك لأنّها لها خاصية ازدواجية في استعمالاتنا ولم يحرّموها دوليا.
لقد بدأ الشتاء فعلا وبدأت طلائعه تتقدّم نحونا كما الكشافة ونحن الآن في حالة دفاع يقصّر أيامنا ويطيل ليالي الشتاء مضاعفة.
هذا أوان شتاء ربّما هو الأخير لنا لا نستطيع احتمال ما يخفي لنا من مفاجأة.
ربّما يرحل دون عودة أخرى لأنّنا سنتغلّب عليه ندحره فينسحب مثلما ينسحب مصارع يائس من الحلبة.
أتظننا في حلبة أم إنّنا نصنع حلباتنا من اللاشيء؟ لكي ننسحب منها أو نـسحق داخلها لم ندع الأمور تسير على خطوطها الإنتاجية الأزلية المرسومة ولا نـعقـّد دروب أقدارنا نحن المعقدون: المقعدون، من غير الأسوياء لا نستريح للروتين.
هذا الروتين ليس أكثر من عبد يتوسّل إلينا أن نرتاح ممّا نخلقه في نفوسنا ومن ثمّ نصارعه ونحاول حلـّه المستعصي. ما هو الروتين هذا غير بقايا سيكارة أتينا عليها ولا نرتاح إن لم نشعل غيرها في أفواهنا لنبعد الكآبة التي نصنعها كالدخان الذي تصنعه السيكارة؟
لو لم نشعلها لما كان هناك دخان. هذه البديهية هي الروتين أيضا ونحن ما نفتأ نعمل دخاننا كلّما خمدت نارنا التي لا تدفّئنا من برد شتاء قادم جديد. نحن لا نجيد غير أن نعلن عن أفضال الصيف عندما يتسلّط الشتاء ويغدرنا بأمطاره ورعوده ويحدّدنا ببرودته ورياحه ونطنب المديح على الشتاء إن تعرّقت أجسادنا من قيظ لافح.
لا تنس منّا المنافقين وبوجوه عديدة. هكذا لا نرضى عن شيء فأية حكومة سنرضى عنها غير تلك الحكومة التي تدفئنا وتشبعنا وتخدمنا وتؤوينا. هل نرضى جميعنا حقيقة لو حقّقت لنا هذه الشروط؟ لا أعتقد.
نحن في الأدب نرضى دائما ونسعى خلف ما يكتبه الأجانب مهما كانت فائدته لنا. نحاول اقتناء ما يكتبونه. نتمسّك به ونحاول تقليده. إنّه شرطنا الثقافي ولكن إذا ما تحقّق لأحدنا أن يدخل مجال الشهرة بين أقرانه نلنا منه لأنّه ليس أفضل منّا نحن الذين لم نحقق شيئا يذكر بعد. هذه علتنا ومن أسباب تأخّرنا في الشتاء الذي انصرم رغم أن في دواخلنا شتاء دائما داخل نفوسنا المهجورة.
أفرغت ما بجعبتي من كلمات مبعثرة ملأت دواخلي وتزاحمت بالخروج؛ دعوني أخلد إلى النوم بانتظار صباح جديد لعلّه يكون مشرقا.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
كلمات مبعثرة, إيمان يونس - مصر | 5 شباط (فبراير) 2014 - 07:24 1
أ / أياد...لقد أستمتعت بقراءة كلماتك المبعثرة وبها نظرة فلسفية تمزج بين الطبيعة بفصليها الشتاء والخريف وبين طبيعة الإنسان التشبيهات جاءت موحية غير مباشرة وأطلقت العنان والتساؤلات والقليل منها كان مباشر ليؤكد على رؤيتك ويحدد الهدف من تلك الكلمات المبعثرة ..تحياتى وتقديرى
1. كلمات مبعثرة, 11 شباط (فبراير) 2014, 17:00, ::::: الكاتب أياد خضير / العراق
تحية طيبة ... سعيدٌ بتعليقك الرائع حول قصتي كلمات مبعثرة وهو محط اعتزاز لي كونه يؤكّد التواصل الفاعل للأدب بين القارئ والنص والذي من خلال القراءة الواعية المتأملة يستشف المغزى الذي يحمله النص والرسالة الإنسانية التي يريد إيصالها إلى المتلقي الواعي ... تحياتي واعتزازي
كلمات مبعثرة, هدى الدهان | 21 شباط (فبراير) 2014 - 02:11 2
الحياة لاتتغير بقسوتها وجحودها وانما نحن الذين نتغير حيث كنا صغارا ننسى ضياع الدمية بسرعة ثم كبرنا وبدأنا نثور على الحياة ثم عندما نضجنا عرفنا اننا خسرنا في الثورة اكثر مما ربحنا وتلفظنا الحياة اخيرا ونجلس متجمدين من البرد في الشتاء كما يلفظ الصيف شتاء ذاك العام وهذا لايعني ان الفصول تغيرت وانما اختلفنا في الحنين اليها.