عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

جبر محمود نشوان - الأردن

يوم بسبعين عاما


جبر نشوانبعض الحب الذي يولد من لقاء يموت لاحقا. ولكن الحبّ الذي يولد من فراق لا يموت أبدا.

يوم أن استيقظ على صوت الفجر الأوّل، علم بأن شيئا قد حدث، فقد اعتاد منذ سنوات أن يوقظه صوت زوجته. نظر إليها وهي نائمة بجواره، وبصوت متردد ناداها مرارا فلم تجب. تلمّس يديها ووجنتيها فلم يجد دفء الحياة بهما. أحسّ نبضها بارتباك حائر فهزه سكون الموت.

صرخ اليقين في الظلام معلنا: "إنها لحظة الفراق الأخير".

لم يصل حزنه حدّ بكائه. كان يعلم بأن جوار ربها خير لها من جواره، فلقد صبرت نصف قرن على فقره وطبعه وعقمه وغربتها معه. تذكّر قبل أكثر من أربعين عاما يوم كان مطاردا في الجبال ومحكوما عليه غيابا بالموت، تذكّر قولها وحرقتها في كلماتها:

"ستعيش يا صابر وسيكون يومي قبل يومك".

هي صدقت، أو كأنّ الله قد أجرى كلامها لصدقها.

تنهّد تنهيدة ألم وشكر وعرفان. وكما يفعل الأحياء للأموات، طلب لها الرحمة من الله. ثم ذهب إلى صلاة الفجر، وأبلغ من عرف، فصلّوا عليها الظهر، ثمّ ساروا بها إلى آخر منازلها من الدنيا. ازداد حزنه لما رأى ضيق القبر. تذكر ضيق حياتها معه. جلس على حافة الموت متسائلا وهو يهيل على جسدها التراب والحزن الأخير:

"ترى يا فاطمه، أتودّين أن نلتقي مرة أخرى؟"

عاد إلى عزائها محمّلا بذكرياتها معه، وفي المساء فرغ البيت من المعزّين وامتلأ فجأة بها، صار يراها في كلّ زاوية من زوايا البيت ويسمع صوتها وصوت تتابع خطواتها في كلّ أرجائه. دار البيت مرارا يستيقن حقا أنها ما عادت هنا. قال لنفسه وهو يخلع ثوبه ويومه الأخير متثاقلا:

"تركتها هناك في قبرها. تركتها وحدها كما تركتها من قبل لأيام بدون مال أو طعام، وما سألت نفسي مرة كيف تدبرت أمورها. كان همي وطني وكنت أنا وطنها، ووحدها أوطاننا تصنع أكبر خيباتنا".

إنها الأوطان تتشابه، فهي لن تشكر أبناءها إن هم صبروا على ظلمها وفقرها واحتلالها وفسادها، ولن تحبهم حقا إن هم عاشوا وقاتلوا وعملوا لأجلها. فقط ستشكرهم بعد أن يموتوا في سبيلها ويكأن الموت وحده دليل الحبّ الأوحد، أو يكأنّ الأحياء على ظهرها كلهم منافقون ووحدهم الأموات من صدقوا.

ما عادت أقدامه تحمل جسده الذي أثقل بخيباته. جلس على سريره مرهقا تعب، نظر إلى خلوّ مكانها بجانبه فآلمه خلوّ عينيه منها. تسارعت نبضات قلبه تسابق العمر لعلها تعود عمرا فيبادلها عطفها وحنانها، أو لعلها تعود يوما فيبادلها بصدق صدق حديثها، أو لعلها تعود لحظة فيبادلها ابتسامة بريئة كابتساماتها.

علا صوته مختنقا بكلماته وقد خالط دمعه تجاعيد وجهه كأنه يراها وتسمعه:

"بالله سامحيني يا فاطمه، فالآن عرفت بأنّ ما كان لي وطن سواك أعيش لأجله. بالله سامحيني، فالآن فقط عرفت. الآن فقط".

ثمّ أجهش بالبكاء سبع دقائق كمن يبكي سنينه السبعين، بكى عمره وأيامه وآلامه كلها، لم يبك وطنه الذي عاش لأجله، بل بكى نفسه وزوجته فقط، بكى حتى صمت إلى الأبد.

كان الفراق الأخير فقط يوما. وبات ليلته التالية في قبره الذي جاور قبر زوجته، ربما لأجلها لا أجله كانت رحمة الله به أوسع من وجعه، فكانت توبته نهاية لحياته وبداية لنقائه، وليكون لقاء الخلد بعد ذلك أجمل.

D 25 شباط (فبراير) 2014     A جبر نشوان     C 15 تعليقات

10 مشاركة منتدى

  • راااائعة جدا جدا ...
    ابدعت سيدي ...
    "كان همي وطني وكنت أنا وطنها، ووحدها أوطاننا تصنع أكبر خيباتنا ....."
    عبارة كأنها الإلهام ...
    حقا من أجمل ما قرأت .. أشكر قلمك.
    دمت مبدعا سيدي.


  • الأستاذ جبر نشوان تحية طيبة قصة جميلة تمتاز لغتها بالشفافية الشعرية ,ولكن استوقفتني هذه الجملة المفعمة بالمرارة :(الأوطان لاتشكر أبناءهاإذا ما صبروا على فقرها وظلمها .....إلا بعد أن يموتوا ,وكأن الموت دليل الحب الأوحد )سلم قلمك وبالتوفيق دائما


  • صدقا رائعة .. اكثر ما لفت انتباهي عبارتان
    الاولى : " الحب الذي يولد بالفراق لا يموت "
    الثانية : " ويكأن الموت وحده دليل الحبّ الأوحد "

    بالفعل ابدعت يا صديقي


  • استاذ جبر، تحياتي لك على نصك الرائع.. وسلاسته التي يتميز بها من البداية للنهاية .. راقت لي التشييهات وبخاصة تلك التي تشبه مشاعرنا نحو من نحبهم بمشاعرنا نحو اوطاننا كما ذكرها المعلقين الذين سبقوني
    .. تمنيت لو كان استمر حيا بدونها مدة اطول ..ليشعر بقيمتها او ليشعر بحاجته لحبها او انه كان يحبها دون ان يدري..فهؤلاء الاشخاص لا يشعرون بفقد شركائهم في الحياة بعد ساعات قليلة من فراقهم ..خاصة ان مشاعرهم لم تكن فياضة بطبعها ..دمت موفقا ..تحياتي


  • أ / جبر ..تحية من الأعماق لنصك مكتمل العناصر المكتوب بلغة متمكن ربط بين الخاص والعام بذكاء لا يشعر القارىء بالشرود عن الفكرة بل يؤكدها ...أطيب أمنياتى لك بالمزيد من الإبداع والتألق


  • ما قلته يا صديقي يستحق التوقف عنده..؟
    وهو ما نبهتني إليه إحدى الصديقات، ممن يشاركن في التحرير من وقت إلى آخر.
    تذكرتُ موريس ميترلنك الشاعر البلجيكي وأنا أقرأ نصك، وتذكرت معه الأخطل وقصيدة فيها الكثير من الرومنسية المغرقة بفيض من العواطف وزمن رائع لكنه انقضى.
    ترجم القصيدة إلى العربية بشارة الخوري "الأخطل الصغير" بكثير من التصرف وعنوانها: ماذا أقول له..؟ وتدور حكاية القصيدة حول حوار بين أختين إحداهما تصارع سكرات الموت. فتوصي أختها بجانبها أن تترفق بحبيبها بعد رحيلها.. وتسألها الأخت حاملة الوصية في نهاية القصيدة فتقول:
    "وإذا أراد أن نسير معاً إلى القبر.. لكي نبكي على القبر"..؟ وترد عليها الأخت المريضة: "رحماكِ.. إن الدمع يؤذيه".
    في اعتقادي لو عاد ميترلنك ومعه الأخطل إلى عالم الأحياء اليوم لأنكرا على نفسيهما صورة ما يحدث اليوم، وأنكرنا عليهما هذه العودة المخيبة لعالم اليوم. يتبع


  • تابع

    وما دمنا في حديث الهمس والنجوى بين الأخوات..؟ فتعالَ معي إلى محمود درويش لترى كيف تكون واقعية العصر، وهو يروي في حكاية مماثلة حوارا بين أختين. تقول إحداهما للأخرى:
    أختاهُ..! غيَّبَني، ولم أدْرِ
    كيف اندفعتُ له في سَيْري
    أختاهُ..!
    راح ولم يَعُدْ ويداه في صدري
    نبعانِ من شَغَفٍ ومن لهفٍ ومن جمرِ..
    إلى آخر القصيدة
    استفد من وسامتك ومن شبابك، ووظفهما في الكتابة يا صديقي
    ودعكَ من الموت في اليوم التالي.
    ستتغير يا صديقي بمرور الوقت إلى واقعية
    أرجو أن تؤسس جيدا لما تكتب في المستقبل بصورة مميزة فعلا.


  • الأستاذ جبر نشوان
    مقدمة مشوقة، ونص جميل، وإن كانت هذه هي البداية فهي موفقة بلا ريب.
    كتاباتك تستحق العناية والتشجيع وتسليط الضوء.

    موفق بإذن الله
    تحيتي.


  • أستاذ جبر
    لو فكر قليلآ بطل قصتك لأيقن أنها فضلت الموت هربآ منه ومن حياتهما التعيسه ،
    والمؤلم أنه لم يتركها ترتاح في قبرها بل لحق بها ودفن بالقرب
    منها !
    مأساة تتكرر كل يوم في مجتمعنا الظالم .!


  • الأستاذ جبر محمود نشوان

    " بعض الحب الذي يولد من لقاء يموت لاحقا"، لكن بعضه الآخر يعمر ولا يموت حتى بعد الفراق. لا بد أن حبهما ولد من لقاء وعاش نصف قرن يتحدى المحن، قد يصبح ما بينهما لا يحمل اسم حب، بل عشرة تطبعها المودة والرحمة وإلا لما استمرا معا رغم جفاف الحياة. المشاعر موجودة لكن ليس لها محفزات بدليل استيقاظها ولو متأخرة.

    نص جميل شجعني على إعادة قراءة"ما بين دمعة وابتسامة".
    أمنياتي لك بالمزيد من التوفيق في مستقبل أعمالك.


في العدد نفسه

كلمة العدد 93: حقوق المرأة في الغرب والشرق

النص القرآني وأنواع المتلقين

الرواية التاريخية: بين التأسيس والصيرورة

التّجديد في القصيدة العربية

أديب يحمل صندوق الدنيا