سليمة بالنور- الجزائر
الرواية التاريخية: بين التأسيس والصيرورة
أولا: في الأدب الغربي
تعد الرواية التاريخية أكثر أنواع الرواية رقيا، فهي تسمو بموضوعاتها لتحقيق أهداف ذات أهمية بالغة، إذ تسعى لإحياء وبعث ماض تليد لقراءة الحاضر والمستقبل، ويكاد يجمع أغلب نقاد نظرية الأدب أنّ هذا الجنس الروائي يعتبر دخيلا على الأدب العربي، منقولا عن الأدب الأوروبي، رغم محاولة الروائي العربي تأصيله ببعث الماضي والتراث العربي، لكنه في واقع الأمر يجاري موضة غربية أوروبية، ظهرت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويعود الفضل في نشأتها إلى قصص الرومانسية والفروسية. لكن بعض الباحثين يرون أنّ القصص التاريخي كان شائعا في القرن العاشر ميلادي في تلك الملاحم التي كانت تنظّم لتمجيد مآثر، الأبطال كملحمة بيوليف الإسكندنافية[1].
وقد أعلن جورج لوكاتش أن الرواية التاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر، لكن يمكن العثور على روايات ذات موضوعات تاريخية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ويستطيع الشخص أن يعتبر الأعمال القروسطية المعدة للتاريخ الكلاسيكي مقدمات للرواية التاريخية[2].
ومهما يكن من أمر، فتلك الملاحم تضاهي في الأدب العربي الأقاصيص التاريخية التي كان يرويها وهب بن منبه، ربّما تتقدم عنها زمنيا، بالتالي فتلك المحاولات الأولية للقصة التاريخية في الأدب الغربي والعربي، لا تلقى أي أهمية لانعدام العناصر الفنية للفن القصصي أو الروائي.
تنسب البداية الفعلية للرواية التاريخية في الغالب إلى الكاتب الأميركي ستيفن كرين برواية "شارة الشجاعة الحمراء"، ولكنها كانت تفتقر لبعض العناصر الروائية الشكلية والضمنية، فتكامل هذه العناصر الفنية نوعا ما كان عند والتر سكوت الاسكتلندي، الذي يعد أبو الرواية التاريخية برواية ويفرلي سنة 1814. بعدها ألف قرابة خمس وخمسين رواية تاريخية[3]، وقد سن لمن بعده أصولا فنية ظلت كتقاليد متبعة للرواية المتكئة على التاريخ في مختلف الآداب الأوروبية والعربية أيضا، أساسها الصدق والحبكات الفجائية التي أرست دعائمها قبل سكوت قصص الرومانسية والفروسية.
كان والتر سكوت، كما يذكر غنيمي هلال، يتخير أبطاله من العصور الوسطى، ويمازجها بشخصيات خيالية مختلفة نابضة بالحياة، غير متعارضة مع العصر التاريخي الذي يصفه، وبارعا في تصوير وتجسيد عادات وتقاليد وملابس ومقومات ذلك العصر متحايلا على حقائق التاريخ[4].
وكما يقول والتر سكوت: «ليس معنى بساطة الشخصيات أنّها تخلو من النفع والفنية، لأنها تؤدي دورا حيّويا وفنيا (...) وهي شخصيات غير تاريخية عادة يستخدمها الروائي في عمله الفني لتؤدي دورا يستمد أهميته من السياق الروائي الذي أختاره»[5].
تزامنت روايات والتر سكوت مع الكتابات التاريخية لمؤرخي القرن الثامن عشر، منهم فولتير وجيبون اللّذان رغم إجادتهما وتجديدهما لكتابة التاريخ كان ينقصهما فهم نفسية العصور التي يصفونها وافتقارهما للحاسة التاريخية التي تجعلهما يعتقدان أنّ الإنسان هو نفسه في جميع العصور بغض النظر عن التطورات التي تطرأ على العصر والتي تنعكس عليه[6].
هذه النقائص في الكتابات التاريخية جعلت كتابة التاريخ مملة رتيبة، عبارة عن توال لأحداث مكررة في كل العصور مع اختلاف الأبطال: هزائم وانتصارات لا غير. وقد خطى سكوت بالتاريخ خطوات إلى الأمام، وإن كان قد حرّف بعض حقائقه، كما يذكر النقاد. إلا أنّه أدخل العنصر الفني والمنهج الأدبي في عرض أحداث التاريخ وأبطاله، ومختلف التغيرات التي تطرأ عليهم والتي تشمل العقائد والأفكار والأخلاق والعادات.
وصوّر سكوت التاريخ وجسده بطريقة فنية أشدّ تأثيرا من كتب التاريخ الجافة، حتى ساد إعتاد النقاد والباحثين أنّ روايات سكوت أقرب للحقيقة التاريخية من كتب المؤرخين[7]، وقد أثر على مؤرخي تلك الفترة تأثيرا بالغا حيث حذوا حذوه، وطفقوا يصورون أحداث التاريخ ويعيدون بناءها بقليل من الخيال غير الجامح، منهم تيري وسيسموندي وبرسكوت.
وقد وجهت انتقادات كثيرة لوالتر سكوت أشهرها التي وجهها له تين [TAINE] بتزييفه للحقائق التاريخية، الذي يقول في نقده: «كل هذه الصور من الماضي البعيد والتي يعرضها صور زائفة، ليس فيها صحيح سوى الملابس والمناظر والمظاهر الخارجية»[8].
ومن أهم التغيرات التي مست الرواية التاريخية وتقاليدها ما نادي به ألفريد ديفني في فرنسا سنة 1825، بروايته 5 مارس، فهو بجعل الشخصيات التاريخية في المحل الأوّل، في حين جعلها والتر سكوت في المقام الثاني والشخصيات الخيالية في المقام الأوّل، لكيلا يتقيد بحقائق التاريخ. ويرى ديفني أنّ ذلك يجعل الشخصيات التاريخية تتحرك على الأفق البعيد، ويكون محور الرواية الشخصيات الخيالية[9].
وأضاف بلزاك للرواية التاريخية ما يسمى وصف تاريخ العادات، حيث أصبح التاريخ هو المجتمع، وبهذا يريد أن يسمو بالرواية إلى قمة التاريخ الفلسفية، بإعطاء الصورة الكاملة لمدينة ما[10]. كما كتب أيضا في فرنسا ألكسندر ديماس الأب التاريخ الفرنسي عـام 1844، ابتداء من عصر لويس الثالث عشر حتى عودة الملكية، وحقق نجاحا منقطع النظير. ومرد ذلك، كما يقول فان تيغم، يعود لإحيائه الماضي الفرنسي وتمجيده لانتصاراته، رغم عدم التزامه بالصدق التاريخي، وعدم دقته في التصوير مثل سكوت[11].
ويرى بعض النقاد أنّ ديماس يجعل التاريخ نصب عينه قبل فكرة الرواية، التي لم يتخذها إلا لمجرد سرد الحادثة التاريخية، فينسى أنه روائي ويتقمص أحيانا شخص المؤرخ، ربما لكونه كان يستعين في وضع رواياته وكتابة فصول الحادثة التي يختارها بالعديد من الكتاب الناشئين، يختص كل منهم بكتابة فصل من فصولها[12].
وبدأ الروائيون في أوروبا يتجهون إلى هذا النوع الروائي المهم، لما فيه من إحساس بالروح القومية الأوروبية، وليبعثوا في الذاكرة الشعبية المعاصرة تلك الظلال العظيمة والتذكير باللحظات المجيدة في تاريخ أممها، فظهر فكتور هيغو برواية أحدب نوتردام في 1831، وفي روسيا تولستوي برواية الحرب والسلام وفي إيطاليا ألكسندرو مانزوني برواية المخطوبين عام 1923، مستحضرا أحداثا إيطالية تعود لقرنين ولعصور روما القديمة.
وفي ألمانيا نجد ألكسز 1824 بـ فلادامور ، وهوف برواية ليشتونستان، وفي بولونيا برناتويز برواية بوجاتا 1826، وفي الدانمارك ظهر إنجمان بروايات تاريخية عديدة.
وشهدت حقبة الثلاثينات من القرن العشرين أعمالا روائية رائدة نذكر منها ما جاء على يد الروائيين كينيث روبرتس وروبرت جريفر وفورستر، وبعد الحرب العالمية الثانية تطور هذا الإنتاج الروائي التاريخي فظهر هوب متز سنة 1949 برواية المحارب الذهبي وماري رينولت سنة 1950 برواية الملك يجب أن يموت، والعديد من الروائيين نذكر منهم: مارجريت يورنيسار، زوي أو لدنبرج، وبرسكوت في رجل فوق الحمار سنة 1952، ومع نهاية القرن العشرين ظهر امبرتو إيكو الإيطالي برواية اسم الوردة وإيريكا فاجنر الكاتبة والصحافية التي نالت جائزة البوكر سنة 2000 عن رواية القاتل الضرير[13].
ثانيا: في الأدب العربي
كان ظهور الرواية التاريخية في الأدب العربي بادئ الأمر عن طريق الترجمة والاقتباس، فالنصف الثاني من القرن التاسع عشر شهد نشاطا بالغا من التعريب الروائي، فقام الأدباء العرب بالتعريب والاقتباس في محتوى الروايات الأوروبية، منهم نجيب حداد الذي عرّب الفرسان الثلاثة لألكسندر ديماس وصلاح الدين لوالتر سكوت التي تصرف فيها وحوّلها لنص مسرحي، وفي سنة 1881 عرّب قيصر زينية رواية الكونت دي مونتغومري لديماس، وبين عامي 1842 و1914 عرّب له ست عشرة رواية[14].
ويرى جورجي زيدان أن العرب رحبوا بالروايات الأوروبية التي رأوها ستحل محل القصص الشعبية الخرافية المتداولة بين العامة في تلك الفترة، كقصة علي الزيبق، والملك الظاهر ببرس، وبني هلال وغيرها، باعتبار الروايات التاريخية الأوروبية أقرب للعقول بما يتماشى وروح العصر[15]، ولكون جورجي زيدان صاحب مجلة الهلال التي كانت تنشر العديد من الروايات الأوروبية المعرّبة، فإنه أسهم في الكتابة الروائية المبكرة، وسيأتي الحديث عنها لاحقا.
ونتيجة هذا التهافت على الروايات المعربة، برز سليم البستاني [1848- 1881] مترجم إلياذة هوميروس، كرائد في الكتابة الروائية التاريخية بروايات تدهش القارئ وتأتي بالمفاجآت على حد تعبير مارون عبود[16]، ولقد نشر إنتاجه الغزير من الروايات في مجلته الجنان منها التاريخية: زنوبيا 1871، بدور 1872 والهيام في فتوح الشام 1874. وقيل إن هذه المجلة تعتبر المجلة الأولى العربية التي اهتمت بالروايات المترجمة والقصص التاريخية، والهدف الذي يتوخاه البستاني من أعماله الروائية هو التثقيف وتعليم التاريخ، بالإضافة إلى التوجيه والإرشاد[17].
لكن هذه الأعمال الروائية لهذا الروائي الصحفي المستمدة مادتها من التاريخ العربي الإسلامي، كانت تفتقر للعناصر الفنية وسيادة الطابع الاستطلاعي الصحفي عليها أكثر من السردي، مع تهويل الأحداث وتضخيمها، وفي ذلك يقول يوسف نوفل: «من الحق أن نقرر أن السمات الفنية لم تكتمل لدى البستاني، إذ تفتقد للروابط والتحليل والاستبطان، وتلتقي بالسطحية والتفكك (...) وعدم رسم الشخصيات»[18].
ووسط تفاعل المرويات السردية التاريخية لسليم البستاني والمرويات المعربة التي شاعت في ذلك القرن والاقتباسات اللامحدودة، ظهرت روايات جورجي زيدان التاريخية [1861- 1914]، ففي ثلاث وعشرين سنة ألّف ثلاثا وعشرين رواية، سمّاها روايات تاريخ الإسلام منذ صدور أول رواية له: المملوك الشارد.
ويعتبر النقاد والباحثون أن زيدان هو الأب الفعلي للرواية التاريخية العربية، ورائدها الذي مهّد الطريق لغيره، وهو أول من أدخل هذا الفن الروائي للأدب العربي والسبّاق بوضع تاريخ أمة، وهو التاريخ العربي الإسلامي، في سلسلة روائية.
وحاول زيدان من خلال هذه الأعمال الروائية جعل الفن خادما للتاريخ وغايته في ذلك تثقيف وتعليم النشء التاريخ على غرار قرينه سليم البستاني، ويقول جورجي زيدان في ذلك:
«إننا نتوخى جهدنا في أن يكون التاريخ حاكما على الرواية لا هي عليه كما فعل بعض كتبة الإفرنج، وفيهم من جعل غرضه الأول تأليف الرواية، وإنما جاء بالحقائق التاريخية لإلباس الرواية ثوب الحقيقة (...) وأما نحن فالعمدة في رواياتنا على التاريخ، وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها، وندمج فيها قصة غرامية، تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصبح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ»[19].
ما فائدة الرواية إذا لم تضف جديدا للتاريخ؟ أو ما الفرق بين الرواية والتاريخ إذا؟
الرواية عند زيدان هي وسيلة لتقريب التاريخ، فوظيفة كتاباته ذات منحى تاريخي، ومفهوم التاريخ ملتبس بمفهوم الرواية في ذهنه، حيث لم يع أن التاريخ بمحاولة نقله من سياقه كوقائع موضوعية إلى سياق سردي متخيل سيتحرك من مجال وينخرط في مجال آخر، فعدم وعي جورجي زيدان بهذا ليس لقصوره، وإنما لأن هذا السؤال لم يكن مطروحا ومثارا في عهده، فهذا الوعي التاريخي بين الرواية والتاريخ حديث كما يذهب عبد الله إبراهيم[20].
ويدرج حلمي القاعود روايات جورجي زيدان ضمن الرواية التعليمية، التي لا تتوفر فيها الأسس والمفاهيم الفنية لبناء الرواية، وإنما هي مجرد وسيلة لتحقيق غاية، وهو ما سبق لزيدان التصريح به[21].
وينتقد بعض الدارسين روايات زيدان لافتقادها للحقيقة التاريخية وتزييفها للتاريخ الإسلامي، ويقول عبد الجواد المحص عن ذلك: «الروايات التاريخية لجورجي زيدان وضعت قصدا، وألّفت عمدا لتشويه التاريخ الإسلامي، وتحريف حوادثه وهدم رموزه، وقلب أموره رأسا على عقب (...) نتيجة لخطة مرسومة، شارك فيها المستشرقون والمتعصبون المعرفون بعدائهم للإسلام وحقدهم على المسلمين»[22].
ورغم هذا، فقد نال زيدان عناية الكتاب والدارسين ما لم ينله كتاب آخرون أبدعوا الرواية التاريخية، وعناية دور النشر بإعادة طبع رواياته حتى اليوم، ونقلها لمختلف اللغات، هذه الروايات التي يقول عنها عبد الجواد المحص: «روايات خطيرة، تبث لقرائها السم في العسل»[23].
ومهما يكن، فالفضل يعود لجورجي زيدان في نشأة هذا النوع الأدبي الهام وتطويره ورقيه، فبرواياته عكس بداية الشعور القومي والمتمثل في القومية العربية، وأصل الشخصية العربية الإسلامية، وما زال يؤثر على الروائيين والقصاصين بعده، الذين برز لديهم وعي تاريخي حقيقي، استطاعوا من خلاله كتابة نماذج روائية خالدة، "نذكر منهم خاصة في مصر: محمود طاهر حقي الذي بني قصته على مأساة دانشواي التاريخية، بروايته عذراء دانشواي عام 1906، وكتب علي الجارم أعمالا تاريخية محورها التعريف ببعض الشعراء العرب مثل المعتمد بن عباد بـ شاعر ملك، وأبو فراس الحمداني في فارس بني حمدان، وابن زيدون في هاتف من الأندلس، والوليد بن يزيد في مرح الوليد"[24].
ويصنف حلمي القاعود علي الجارم ضمن اتجاه الرواية التاريخية، التي تهدف لتعليم الصياغة والأسلوب، باعتباره شاعرا ومن أعلام مدرسة البيان في النثر الحديث[25].
وآثر محمد فريد أبو حديد الكتابة في تاريخ العرب قبل الإسلام، باختيار شخصية من شخصياته ليجعلها محور رواياته، ومن أعماله الروائية المستمدة من التراث الشعبي أبو الفوارس عنترة، المهلهل سيد ربيعة، الملك الضّليل، مصورا البيئة المحيطة بالشخصية البطلة وصراعاتها مع الشخصيات الثانوية الأخرى، وغالبا ما تنتهي بموت البطل[26].
ومن الجيل الثاني يقتحم علي أحمد باكثير التاريخ الإسلامي، لينتقي منه قضايا وموضوعات روايته وا إسلاماه 1952، التي استمدت من تاريخ معركة عين جالوت مادتها، محتفيا بفكرة الجهاد في سبيل الله، مشيدا بانتصار المسلمين على التتار برواياته الكثيرة منها سلامة القس والثائر الأحمر[27]. ويقول باكثير كاشفا عن اتجاهه الإسلامي العربي في الرواية:
«لعل اهتمامي بقضايا الأمة العربية ذو أثر في ولعي بالتاريخ واستلهامه (...) على أن هناك أسبابا أخرى منها: أن الفن عموما ينبغي عندي أن يقوم أكثر ما يقوم على الرمز والإيحاء، لا على التعيين والتحديد»[28].
وعليه فالحقيقة التي يصورها العمل الأدبي أوسع من التي يصورها الواقع، والروائي هو الذي يبلغ هذه الغاية.
واقتصر محمد العريان على تاريخ مصر الإسلامية، وخاصة في عهد المماليك والأيوبيين في رواياته قطر الندى، شجرة الدّر، على باب الزويلة. وقد تغير مفهوم الرواية التاريخية عنده وأصبح التاريخ المعتمد في الكتابة الروائية هو الناس، فأصبحت تلك الكتابات تعكس تاريخ الطبقة العامة من الناس لا الأبطال المعروفين.
وتفرغ عادل كامل للتاريخ الفرعوني في روايته ملك من شعاع، حيث جعل من أخناتون داعية من دعاة المحبة والسلام، متأثرا بنزعة شعوبية داعية للفرعونية، وفصل مصر عن العروبة[29]، كذلك عبد المنعم محمد كتب رواية إزيس وأزوريس فهو يجول في عالم الأساطير والفنتازيا، ويذهب إلى أبعد من عادل كامل.
ونجد عبد الحميد جودة السّحار مارس القص التاريخي، وأبدع بقصة أميرة قرطبة، التي أزاحت الغمام عن أسباب النكبات في الأندلس، وقصة سعد بن أبي وقاص، وغيرهما[30].
أما نجيب محفوظ فلم يكن له هدف محدد يصبو إليه في كتابة المرويات السّردية التاريخية، فقد كان في ثلاث روايات هي عبث الأقدار، ورادوبيس، وكفاح طبية من التاريخ الفرعوني، منساقا وراء إعجابه بكتابات سلامة موسى ودعوته للفرعونية، وكان يميل للعبثية ومتأثرا بها إلى أبعد الحدود، وقد اعترف بهذا في مقابلة مع الناقد فؤاد دوارة، قال فيها:
«حينما أعود بذاكرتي إلى هذه السنوات، أجد أن باكثير والسّحار لم يداخلهما أي شك في قيمة إنتاجهما، ووجوب الاستمرار فيه، فكانا ممتلئين بالتفاؤل، أمّا عادل كامل وأنا فكنّا نعاني من أزمة نفسية غريبة جدا طابعها التشاؤم الشديد، والإحساس بعدم قيمة أي شيء في الدّنيا، كنا كأبطال كامي قبل أن يكتبهم»[31].
ولهذا السبب يرجع النقاد توقف نجيب محفوظ عن كتابة الرواية ذات الطابع التاريخي، بعدما صرّح أنّه سيكتب تاريخ مصر القديم في شكل روائي، كما فعل الروائيون الأوروبيون الأوائل ديماس وسكوت.
وتجاوز نجيب الكيلاني قرينه بقدرات فنية عالية، وتقنيات سردية حديثة، باتساع البعد المكاني لديه، حيث تطرق إلى كل البطولات التاريخية للعرب في كل أصقاع العالم الإسلامي، بسرد الفتوحات الإسلامية في آسيا كما في رواية عذراء جاكرتا وليالي تركستان[32]، كما عرج على الحروب الأهلية القائمة في دول إفريقيا الجنوبية منها رواية عمالقة الشمال، وقد قام بدور إيجابي فعّال في النهوض بالأمة الإسلامية من خلال استثمار أمجادها لإيقاظ الأمة من سباتها العميق، واهتمامه بالقضية الفلسطينية في رواياته، منها عمر يظهر في القدس.
وبلور جمال الغيطاني مفهوما جديدا للرواية التاريخية، حيث الرواية توهم بالاندراج في الماضي وتظل قائمة في الحاضر، بوعيه التاريخي للتقنيات السّردية الجديدة التي تحيل إلى أزمة متعددة، كما في روايته زيني بركات، التي مازج فيها بين النص التاريخي لابن إياس الموسوم بـ بدائع الزهور في وقائع الدّهور[33].
وتجدر الإشارة إلى علم هام من أعلام الرواية التاريخية هو السّوري معروف أرناؤوط، الذي كتب عن التاريخ الإسلامي أيضا. والواقع أن الرواية التاريخية في العصر الحديث أصبحت تهدف إلى رؤية الوقائع والأحداث الحاضرة بمنظور السّارد الذي لا يختزل إلى غيره وإلى قراءة الحاضر بالماضي، كما تضع في الماضي إشكالات الحاضر[34].
ومن الروائيين من يصبو لذلك، فواسيني الأعرج يؤرخ لفترة الأزمة الجزائرية، بروايات منها شرفات بحر الشمال، وذاكرة الماء. ورغم قرب الفترة الزمنية التي يؤرخها، فقد بحث في تاريخ الجزائر العريق واستنبط منه أعظم شخصية قاومت الاستعمار الفرنسي وآمنت بالتفاوض: شخصية الأمير عبد القادر، فكتب الأعرج عنها رواية كتاب الأمير (مسالك أبواب الحديد) في 2005.
وكتب عبد الخالق الرّكابي روايات عديدة كانت خلفيتها التاريخية أحداث العراق. وقدم عبد الرحمان منيف تاريخا اجتماعيا في رواياته عن منطقة الشرق الأوسط. وصور الروائي التونسي البشير خريّف التاريخ التونسي الغابر في روايته البلاّرة وبرق الليل.
ونحى نبيل سليمان، الروائي السّوري، منحى قريبا ومتصلا بمنحى عبد الرحمان منيف. ويستعيد الروائي هاني الرّاهب شخصيات عيسى بن هشام وأبو الفتح الأسكندري في روايته: رسمت خطا من الرمال. نجد كذلك سليم بركات بأرواح هندسية. وفي الإمارات يبرز الشيخ القاسمي الذي ألّف رواية الشيخ الأبيض والأمير الثائر.
ونجد بين مؤلفات الرواية التاريخية أهداف سويف وسميحة خريس ورفيف رضا وغيرهن.
وقد أثبتت الرواية التاريخية المكتوبة باللغة الفرنسية في الأدب العربي حضورها بشدة أوائل القرن العشرين بروايات الجزائري محمد ديب: الدّار الكبيرة والحريق، التي كتب فيها عن معاناة الشعب الجزائري إبّان الاستعمار الفرنسي، كذلك مولود فرعون برواية ابن الفقير، وكاتب ياسين برواية نجمة، وغيرهم.
أما في لبنان فنذكر شكري غانم 1908 بـ: دعد، وخير الله بـ: قيس، وجاك ثابت الذي فتنته شخصية أليسار مؤسسة قرطاجة التي تضحي بحياتها لأجل شعبها، فكتب أليسا أميرة صور ومؤسسة قرطاجة وفيها يمجد بأصول بلاده الفينيقية، وألفت أفلين بسترس يد الله وظهرت لجان أرقش بسيرة تاريخية للأمير فخر الدّين بعنوان الأمير ذو الصليب[35].
ويشكل أمين معلوف علامة مهمة في الرواية التاريخية على مستوى الثقافة العربية والعالمية، وقد ألف روايات عديدة ترجمت إلى لغات كثيرة منها :سمرقند، لويون الأفريقي، وحدائق النور، وغيرها، ورواية موانئ المشرق التي أرخت لتاريخ القضية الفلسطينية. وما يميزه عن غيره من الروائيين العرب نظرته العالمية ورؤيته الكوزموبولتنية ودعوته للحوار بين الشرق والغرب وإيمانه بفكرة التسامح بين شعوب العالم.
ونستطيع القول إن الرواية التاريخية شاعت في الإبداعية العربية خلال فترات معينة من القرن الماضي، كمحاولة للبحث عن الذات القومية القوية المنتصرة أو البحث عن دواء شاف للمحن التي تتعرض لها الأمة، أو لأجل التمني والحلم بالانتصار خلال فترات الانهزام، وتجاوزت ذلك في العصر الحالي حيث أصبحت تجسّد قضايا عالمية معاصرة بإسقاط ذاك الماضي على الحاضر وتفسيره.
= = = = =
الهوامش
http://www.albayan.com.ae
[2] جورج لوكاتش: الرواية التاريخية، تر: صالح جواد الكاظم، دار الشؤون الثقافية، بغداد، العراق، 1986، ص11.
[3] مريم جمعة فرج: مرجع سابق، الموقع نفسه.
[4] غنيمي هلال: الرومانتيكية، دار العودة، بيروت، ط6، 1981، ص 213.
[5] قاسم عبده قاسم: الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث، دار المعارف، القاهر، مصر، 1979، ص188.
[6] المرجع نفسه، ص189.
[7] المرجع نفسه، ص189.
[8] المرجع نفسه، ص186.
[9] غنيمي هلال: مرجع سابق، ص213.
[10] فليب فان تيغم: المذاهب الأدبية الكبرى في فرنسا، تر: فريد أنطونيوس، منشورات عويدان، بيروت، لبنان، 1967، ص239.
[11] المرجع نفسه، ص242.
[12] قاسم عبده قاسم: الرواية التاريخية في الأدب العربي، مرجع سابق، ص189.
[13] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[14] عبد الله إبراهيم: السردية العربية ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2003، ص142.
[15] جورجي زيدان: تاريخ الآداب العربية، ج4، مكتبية الحياة، بيروت، 1979، ص ص572، 573.
[16] مارون عبود: رواد النهضة العربية، دار العلم للملايين، بيروت، 1952، ص195.
[17] عبد الله إبراهيم: السردية العربية، ص237.
[18] المرجع نفسه، ص238.
[19] جورجي زيدان: الحجاج بن يوسف، المقدمة، دار الهلال، القاهرة، 1989، ص6.
[20] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[21] حلمي القاعود: الرواية التاريخية، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة، مصر، 2004، ص320.
[22] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[23] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[24] حول هذا الموضوع أنظر: سجل الهلال المصور (1892-1992)، ج1، الموقع:
http://www.egyptana.egypty.com/egyptian collection/stories
[25] حلمي القاعود: مرجع سابق، ص 345.
[26] سجل الهلال المصور، الموقع نفسه.
[27] محمد أبو بكر حديد: "هل انتهت مرحلة الرواية التاريخية؟"، لها أونلاين، 14/ 11/ 2002، الموقع:
http://www.lahaonline.com/index.php
[28] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[29] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[30] السّيد نجم: "إطلالة على الرواية التاريخية "، موقع: ميدل إيست أونلاين: ، 29/ 05/ 2005:
http://www.meo.tv/id
[31] المرجع نفسه، الموقع نفسه.
[32] محمد أبو بكر حديد: مرجع سابق، الموقع نفسه.
[33] حول هذا الموضوع ينظر: سعيد يقطين: (1) تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط3، 1997. (2) انفتاح النص الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الغرب، ط2، 2001. (3) الرواية والتراث السّردي، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2006. وينظر فيصل دراج: (1) الرواية وتأويل التاريخ، مرجع سابق. (2) نظرية الرواية والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2،1999. وينظر عبد الله إبراهيم: السّردية العربية، مرجع سابق.
[34] فيصل دراج: الرواية وتأويل التاريخ، مرجع سابق، ص 84.
[35] غالب غانم: "الأدب اللبناني المكتوب باللّغة الفرنسية على امتداد القرن العشرين"، مجلة "العربي"، العدد: 515، 1/11/2001، الموقع:
http://www.alarabimag.net