عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

أديب يحمل صندوق الدنيا


إبراهيم عبد القادر المازني: أديب يحمل صندوق الدنيا

ولد المازني في القاهرة عام 1889، من أسرة تنتمي إلى قبيلة بني مازن العربية، وكان والده قد درس بالأزهر الشريف حقبة من الزمن، ثم أكمل دراسته في العاصمة الفرنسية باريس، وعاد فاشتغل بالمحاماة الشرعية، وكان خاله من رجال الدين، وعلى الإجمال فقد نشأ في بيئة دينية، كان لها أثرها في حياته.

توفي والده وهو صبي، فذاق مرارة اليتم وشظف العيش، وازداد تعلقه بوالدته، ولم تقف به فاقة أسرته عن إتمام تعليمه، وقد التحق بكلية الطب بعد نيله الشهادة الثانوية، ولكنه لفرط حساسيته لم يستطع رؤية الدماء في درسه للجراحة، فانصرف عن الطب، والتحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها 1909.

اشتغل المازني في أول الأمر بالتدريس في المدارس الحكومية، ولكنه لم يطق التقيد بالوظيفة وتكاليفها، فاستقال في سنة 1913، بيد أنه لم يجد وسيلة للرزق حين ذاك إلا الاشتغال مرة أخرى في المدارس الخاصة أو الحرة حتى سنة 1918، حين ترك مهنة التدريس، واشتغل بالصحافة والأدب، وظل يعمل بها إلى أمن توفاه الله سنة 1949.

ألمت بأديبنا محن كثيرة في حياته، جسمها إحساسه المرهف، وكان لها أثر واضح في إبداعاته الأدبية : مات والده وهو بعد في سن الطفولة، وتزوج، ولكن زوجته توفيت، فتزوج بأخرى، رزق منها بثلاثة بنين وبنت، ولم يلبث الموت أن خطف ابنته وهي في عمر الزهر، فحزن عليها حزنا بالغا.

كان المازني ضئيل الجسم، قصير القامة، وأصيب بعرج لازمه بقية حياته، إذ كان يناول زوجته الأولى دواء من صندوق معلق على الحائط، فزلقت به السلم، فانكسرت ساقه، وخلفت هذه العاهة، ثم ماتت زوجته الثانية، وتركت له هؤلاء الصبية، يرعاهم وقلبه يفيض حزنا، ووجهت هذه المحن أدب المازني وجهة السخرية بالحياة، ومن في الحياة، وما في الحياة.

تعلم المازني بالمدارس المصرية، وقت أن كانت اللغة الإنجليزية هي لغة التدريس بها، ومن ثم كان يجيدها، ويقرأ بنهم شديد آثار أدبائها ونقادها، ويتأثر بطرقهم وأساليبهم، وكان يعجبه بصفة خاصة أدباء المدرسة الرومانسية والواقعية، وقد أعجبه من التراث العربي الجاحظ في كتبه المختلفة، وابن الرومي، والشريف الرضي، والمعري.

كان المازني شديد الاعتداد بنفسه وبأدبه، ولكنه كذلك شديد التواضع، كريما إلى حد الإسراف على الرغم من فقره، وعلى الرغم من شقائه المتصل في سبيل العيش، كان غني النفس، والمال في نظره وسيلة لا غاية.

واتصل المازني بالأحزاب السياسية التي كانت موجودة على الساحة على أيامه، ولكنه لم ينغمس في السياسة وضجيجها ومتاعبها، بل ظل مستقلا برأيه، وكان من أول الداعين إلى الوحدة العربية والاتحاد العربي، مما يدل على سعة أفقه، ووطنيته الراقية، وترفعه عن الخصام الحزبي المحلي الذي لا طائل منه.

آثاره الإبداعية

ابتدأ المازني حياته شاعرا، مجددا في الشعر، متأثرا بمقاييس الأدب الغربي بعامة والإنجليزي بخاصة، وكان هو، وعبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد يكونون مدرسة نقدية (جماعة الديوان)، وكان لها أثرها الواضح في اتجاهات شعرنا العربي الحديث، وقد أخرج المازني ديوانه الأول سنة 1914، وديوانه الثاني سنة 1917.

وكان لاشتغال المازني بالكتابة حقبة طويلة، منذ أن تخرج في مدرسة المعلمين، وابتدأ بنشر مقالاته بمجلة (البيان) التي كان يصدرها الشيخ عبد الرحمن البرقوقي، ثم تفرغه للصحافة بعد ذلك أثر في كثرة تراثه في فن المقالة على اختلاف أنواعها، وقد جمع مقالاته في مجموعات تحمل أسماء تدل على سخريته حتى من عصارة قلبه، وجهد عقله، مثل: (حصاد الهشيم)، و(قبض الريح)، و(خيوط العنكبوت)، و(صندوق الدنيا)، وهذه المقالات في الاجتماع، والأدب، والنقد، والفكاهة، ومعظمها يدور حول نفسه وأسرته، والحياة من حوله كما يراها هو.

وأولع بالقصة والأقصوصة، ومن آثاره في القصة: (إبراهيم الكاتب) يحكي فيها قصة حياته بأسلوبه الساخر، ثم (إبراهيم الثاني) تتمة للقصة الأولى، و(ثلاثة رجال وامرأة)، و(ميدو وشركاه)، و(عود على بدء).

ومن آثاره في الأقصوصة ما ضمنه كتبه (ع الماشي)، و(في الطريق)، و(أقاصيص)، ونحب أن نضيف هنا أن المازني كان متمكنا تمام التمكن من اللغتين العربية والإنجليزية، ولذلك يعد من أبرع المترجمين العرب في العصر الحديث من الإنجليزية إلى العربية، ونذكر من آثاره في الترجمة : (الكتاب الأبيض) وهو مجموعة مكاتبات بين اللورد اللنبي المندوب السامي البريطاني في مصر ووزارة الخارجية الإنجليزية، و( جريدة اللورد سفيل) عن الأديب الإنجليزي أوسكار وايلد، وقصة (ألن كوتر مين) عن رايدر هجرد، كما ترجم مسرحية (الشاردة) عن جالسورذي، ومسرحية (الوشايات) عن شريدان، و(التربية الطبيعية) أو (إميل القرن الثامن عشر) لروسو، كما ترجم رواية (آلة الزمان) لويلز، إلى آخر ما قام به من ترجمات مهمة أثرت الأدب العربي بوجه عام.

ومما سبق يتبين لنا عظم الجهد الذي بذله المازني في حياته، وضخامة إنتاجه وتنوعه من شعر، وقصة، وأقصوصة، ومقالة، وترجمة، مع تباينه في الموضوع.

نثره

كان المازني من كتاب المقالة المبرزين، وقد تطور فن المقالة لديه على مر الزمان، فكان أول أمره حينما كان يكتب في مجلة البيان يعنى أشد العناية بموضوعه، ويدرسه دراسة واعية، فيأتي زاخرا بالأفكار الجديدة العميقة، نتيجة قراءاته الكثيرة في الأدبين الغربي والعربي، ويعنى في الوقت نفسه بديباجته وانتقاء ألفاظه، وكأنه كان يكتب للخاصة.

وقد نعى محمد حسين هيكل على كتاب مجلة البيان اهتمامهم الزائد بالصياغة وتجويد العبارة، فرد عليه المازني مدافعا عن ذلك، ولكن أسلوبه تغير ومال إلى البساطة والسهولة نتيجة لاشتغاله بالصحافة وسرعة إنتاجه.

وكان المازني شديد الحساسية بفقر أمته، وما يعانيه أغلب أهل مصر من بؤس وفاقة وجهل، فأخذ يناضل بقلمه في سبيل هذه الجماهير، ومعظم مقالاته تدور حول نفسه، فيتكلم عن الماضي والحاضر، مصورا الحياة من حوله كما يراها، مبينا كيف تتطور التقاليد والعادات وألوان السلوك، وعلى الرغم من أن هذا لون من الأدب الذاتي إلا أن القارئ يجد فيه لذة، لأنه يرى فيه صورة مما يجري حوله، ولأن المازني يستطيع بدعابته وسخريته أن يجذب القارئ إليه حتى يفرغ من حديثه.

ولم يدع المازني شيئا في البيئة المصرية المحلية لم يتناوله بقلمه الساخر، حتى الأوهام، والأمثال، والخرافات، والفكاهات، والتفاؤل والتشاؤم، ووصفه للبيت المصري القديم، ومكان الحريم منه، ومجالس الرجال، وما كانوا يتمتعون به من سيطرة ونفوذ، وصور المدرسة المصرية، والأحياء الشعبية التي عاش فيها، وما طرأ عليها من تغيير، ورأيه في هذا التغيير، وصور مواكب الأعراس، وصندوق الدنيا، وغير ذلك من الموضوعات التي تعطي أدب المازني لونا محليا واضحا.

وخير مقالات المازني الأدبية ما اتصل بوصف خوالج نفسه، فقد كان بارعا في التعبير عن ذاته، وينسج من روحه أسلوبا شفافا، فلا يكتم شيئا من داخله، بل يكشف عن جميع خطراته وهواجسه، وكل ما يطوف به من تصورات وذكريات وأحلام، ولعل ما كتبه واصفا حالة من هذه الحالات النفسية بعد أن فقد ابنته وهي طفلة أكبر دليل على ذلك.

لقد كتب المازني بعاطفته الجياشة، وبأسلوبه الشفاف عن ابنته صفحات زاخرة بالمشعر الحية، وبالتفاصيل الدقيقة، وكل ما يخطر في النفس والذهن، وكتب مثلها في رثاء والدته، وعن بعض ذكريات شبابه كحبه الأول، في كل ذلك نراه يتوهم عالما من الأشباح والخيالات يحيط به، ويدور بينها وبينه الحديث.

وقد ذكرنا أن المازني كان من أوائل الذين دعوا إلى الوحدة العربية واتحاد بلادنا العربية، وذلك عن فهم وإيمان بأثر الوحدة في حياة العرب وقوتهم، مؤكدا على أنها ضرورة حتمية تفرضها الحقائق والوقائع.

السخرية والفكاهة

أما سخرية المازني وفكاهته ودعابته، فكانت تقوم على دعامة من التجسيم لنواحي الشذوذ، سواء في نفسه أو في غيره، وهو يرمي من وراء هذا إلى الإمتاع الفني بإشاعة المرح في أسلوبه، وتعليل هذه الروح الساخرة عندنا أنها لون من الاستخفاف وقلة الاكتراث بالحياة المعاشة نتيجة الكوارث والمصائب التي أنزلتها به، أضف إلى هذا روح الدعابة المصرية التي تظهر على مر العصور في كثير من الكتاب والشعراء، وقد كانت أصيلة لديه، فإنه درج منذ طفولته على حب الدعابة، يسري بها عن نفسه، ولا يضير أحدا ممن يمسه بدعابته؛ لأنه يلفها في ثوب من الظرف يجعلها مقبولة مؤدية للغاية التي يتوخاها.

أما قصص المازني، فلم تكن قصصا بالمعنى الفني للقصة التي تعلمنا قواعدها وأصولها في النقد الأدبي، تتوفر لها شروطها من حبكة، وعقدة، وعرض، وحل، وتسليط الأضواء على بطل القصة أو بطلتها، وتحليل صفات الشخصيات ونفسياتهم، ولكن قصصه بعامة وأقاصيصه بخاصة لم تكن سوى مقالات مطولة، وهذه عقيدتنا في إبداع المازني القصصي، خبرناها من خلال مطالعاتنا لإبداعاته القصصية، وهذا رأي خاص قد يخالفه الصواب.

هذا، ومعظم قصصه وأقاصيصه يدور حول نفسه، وما يحدث له في الحياة، وتتحول قصصه إلى ما يشبه الاعترافات الخاصة، مثل قصة (إبراهيم الكاتب)، وقصة (إبراهيم الثاني)، فهما تصوير لحياته الخاصة، وما يجري في ذهنه من ذكريات وتخيلات نفسية وتأملات عقلية.

صندوق الدنيا وأدب المازني الساخر

كتاب (صندوق الدنيا) للمازني، يضم 19 مقالا ومقدمة بديعة يشرح فيها سبب تسمية كتابه بـ (صندوق الدنيا)، فقد كان في طفولته مشدودا إلى صندوق خشبي يحمله رجل عجوز على كتفيه، ويدعو الناس والأطفال بخاصة إلى الاستمتاع بمشاهدة ما بداخله من أعاجيب الدنيا، مقابل ملاليم زهيدة. ومن تلك الأعاجيب صور متحركة لعنترة بن شداد، والزير سالم، وسيف بن ذي يزن، وربة الحسن والجمال، إلى آخر ما كان يستهوي أفئدة الكبار والصغار في ذلك الزمن الذي لم تكن قد ظهرت فيه السينما أو التليفزيون أو الكومبيوتر حيث صاروا أعجب صناديق الدنيا كلها.

وقد عُرف المازني بوصفه كاتبا ساخرا، فهو صاحب مدرسة في فن الكتابة الساخرة، صار لها تلاميذ يحافظون على تقاليدها ويجددون في أساليبها، ولا ينعدم وجه الشبه بين محتويات صندوق الدنيا ومحتويات كتاب المازني فقد جمع فيه صورا طريفة وساخرة من حياته وحياة معاصريه، ونماذج من المشكلات الأدبية والاجتماعية ووضعها في هذا الكتاب الذي يشبه صندوق ذلك العجوز الذي يطوف الحارات والميادين والأزقة.

وهو، أي المازني، يريد للقارئ أن يتوقف مع كتابه أو مع صندوقه ليستمتع بقراءة مشاهد مثيرة للتفكير أو للضحك من مواقف وأشخاص التقط لهم صورا بقلمه البارع الذي جعله واحدا من أهم كتاب النصف الأول من القرن العشرين في مصر العربية.

ومن الصعب في هذه السطور المحدودة المساحة، الحديث عن محتويات بعض مقالات هذا الكتاب الطريف، لذلك سأكتفي بالإشارة العابرة إلى واحدة منها بعنوان (الفروسية) وفيها يتحدث عن استضافة أحد أعيان الريف له، ولعدد من زملائه لقضاء يومين في ضيافته، وما أن غادروا القطار الذي أقلَّهم إلى أقرب مكان من منطقة الضيافة حتى فوجئوا بعدد من الخيل والبغال والحمير في انتظارهم لتنقلهم إلى ضيعة المضيف، وقد اختار المازني حمارا صغيرا ليمتطيه لكن المضيف (عزَّ عليه أن يركب حمارا) وجاءه بجواد أصيل، وأقسم عليه أن يمتطيه، تردد في البداية لكنه خضع في النهاية وامتطى الجواد، وحدث ما كان يتوقعه من زلازل ومسابقة للريح وخوف لا مزيد عليه واضطره بعد أن نجا إلى أن يمتطي حمارا صغيرا بطيئا، لم يكن ركوبه أقل إيلاما من الجواد رغم استسلامه وبطء حركته.

ومن دعاباته في أقاصيصه ما ذكره في كتابه (صندوق الدنيا) ومن أنه كان على ظهر حمار، يسير به فوق قنطرة:

"فلما توسطها الجحش بدا له أن يقف، وراقه منظر الماء، فأجال فيه عينيه برهة، ثم خطا إلى حافة الجسر، ولم يكن له حاجز، ومد عنقه إلى الماء، فظننت أنه قصير النظر، وأنه يفعل ذلك ليكون أقدر على رؤية خياله في الماء، واجتلاء طلعته البهية في صقاله، ولكنهم قالوا لي: إنه يريد أن يشرب، فنزلت عنه، وقلت له يا عزيزي: إن من دواعي أسفي أني مضطر أن أتركك إلى الماء وحدك، فإن ثيابي يفسدها الماء، وهي غالية إذا كانت حياتي رخيصة. ولكن بعد أن فكر قليلا غير رأيه، إما لأن الصورة التي طالعته في صفحة الماء كانت مضطربة مشوهة، وعجز الماء عن أداء ما فيها من جمال وروعة، أو لاعتبارات حمارية أخرى لم يكاشفني بها".

ولمناسبة الحديث عن المازني ودوره في تأسيس أدب ساخر معاصر، تجدر الإشارة إلى أن الأدب العربي القديم عرف أنماطا بديعة لهذا النوع من التعبير الذي ظهرت ملامحه في كل من الشعر والنثر. وكان الجاحظ إمام هذا النوع من الكتابة الساخرة النابضة بالمتعة والطرافة. وحين لم يكن الجاحظ يجد من يسخر منه فقد كان لا يتردد في أن يجعل من نفسه موضوعا للسخرية، وهو نفسه الذي روى حكاية المرأة التي ذهبت إلى الصائغ وطلبت منه أن ينقش لها خاتما عليه صورة للشيطان، وعندما احتار الصائغ من الطلب وأظهر عجزه عن تخيل صورة للشيطان لم تتردد في أن تحضر إليه الجاحظ بلحمه ودمه بوصفه أقرب الناس في المدينة إلى ملامح الشيطان كما تتصوره.

ويلاحظ أن المازني قد تتلمذ طويلا على كتابات الجاحظ الساخرة وكان على صلة وثيقة بأسلوبه ثم بطريقته في السخرية من نفسه، بل لقد مضى المازني إلى أبعد مما وصل إليه الجاحظ في نقد عيوبه والتندر من خلقته ومن التندر على المواقف التي يدّعي أنها وقعت له.

وهكذا استطاع المازني ببراعة وتلقائية أن يلفت الأنظار إلى أدبه وأن يكون واحدا من أحب الكتّاب إلى نفوس القراء في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. وهي فترة من أزهى فترات الأدب العربي المعاصر وما تزال الآثار الأدبية التي صدرت عنها مصدر إشعاع للأجيال التالية.

أسلوب المازني

لم يكن المازني في أخريات حياته، حينما كانت الصحافة تتطلب منه الإسراع في الكتابة، يحرص على اللفظ المنتقى، والأسلوب القوي، بل كان يعمد إلى السهولة والبساطة، مما دفعه إلى استخدام بعض الألفاظ العامية التي بليت من كثرة الاستعمال، ما دامت صحيحة في اللغة، وبخاصة تلك الألفاظ الشعبية، التي لها دلالة خاصة، وكذلك الأمثال الدارجة اعتقادا منه أن إدخال هذه التعبيرات والأمثال يكسب كلامه حيوية وقوة. فنراه أحيانا يقول: "فردت أن أدرك الترام، فعدوت فنهجت، وانقطع قلبي، واضطررت أن أقف لأستريح". ويقول: "في مثل هذه الليلة السعيدة لا يجوز أن نخرج من المولد بلا حمص". ويقول: "وكان ربما قعد على الطعام وهو سليم مبرأ، وفي ظنه أنه سيقش كل ما على المائدة من شدة الرغبة فيه والشهوة له".

وقد علل المازني لهذا الأسلوب بأن الموضع الجدي يسمو بنفسه، ويساعد الذي يتناوله، وليس الحال كذلك حين تعالج الفكاهة، وأنت حين تجد قد لا يشق عليك أن تحلّق، ولكنك حين تجنح إلى الفكاهة لا يعود من السهل أن تحافظ على الاستواء الواجب، وأن تتقي الهبوط، وتتجنب الإهاجة، وتكبح عواطفك، وترخي العنان لعقلك، وأن تشيع الجمال في موضوعك لتسد نقصه، وتملأ فراغه، وتعوض تفهمه.

ويؤكد المازني على أن غاية الفكاهة هي أقصى ما هو مقدور للإنسان، ويقصد بذلك التحرر من تأثير العواطف العنيفة، والقدرة على التأمل في سكون واطمئنان، والنظر إلى ما يقع، لا إلى القدر أو الحظ أو الاتفاق، ومنح الحماقات والسخافات والمتناقضات، ابتسامة رضية لا عبرة منحدرة، وكبح جماح الغضب عند شهود لؤم الإنسان ومعاناته.

وما سبق تعليل صحيح في جملته، ولكنه في رأينا الخاص أضر بأسلوب المازني، وبعد به كثيرا عن الأسلوب الأدبي الراقي الذي عاهدناه في جيل المازني، ولعل القارئ قد لاحظ أن تعليل المازني لهذا الأسلوب كتبه بأسلوب جاد، وفيه كثير من العمق ورصانة العبارة.

ومن خصائص أسلوب المازني الاستطراد على طريقة الجاحظ الذي أحبه وتأثر به، وكثرة استشهاده بأدب الغرب، وبخاصة في المرحلة الأولى من حياته الأدبية، وعنايته الزائدة بالتفاصيل في الوصف. ونرى المازني أحيانا يأتي بكلمات غريبة، في حين يجري أسلوبه سهلا، لا كلفة فيه، وذلك كقوله: "تخرج منديلا من المثبته تمسح بها جبينها" يريد الحقيبة. ويقول واصفا الطبيعة: "وهذه الطبيعة كانت منذ ساعة تبرق، وترعد، وتمطر، وتصخب، كأنما يكون فيها مائة ألف شيطان، ثم آضت كما ترين، الآن فقط فهمت ما كنت أقرأ في صبايا عن من مسخوا حجارة".

ومن خصائص أسلوبه : المبالغة، سواء أكان جادا أم هازلا، وقد وجدنا ذلك في معظم ما قرأنا للمازني. وكانت هذه أوضح خصائص أسلوبه التي جعلت له طابعا متميزا وبها صار نمطا خاصا في الكتابة العربية الحديثة.

= = = = =

المراجع

1 إبراهيم رضوان، شعراء العرب المعاصرون، الطبعة الأولى، القاهرة، 1958.

2 إبراهيم عبد القادر المازني، الشعر غايته ووسائطه، القاهرة، 1915.

3 إبراهيم عبد القادر المازني، ديوان المازني، المجلس الأعلى للفنون والآداب بجمهورية مصر العربية، القاهرة.

4 أحمد هيكل، تطور الأدب الحديث في مصر، الطبعة الأولى، دار المعارف، القاهرة، 1968.

5 أنور الجندي، المعارك الأدبية، دار الرسالة للطبع والنشر، القاهرة.

6 أنيس الخوري المقدسي، الاتجاهات الأدبية، الطبعة الثالثة، بيروت، 1963.

7 حبيب زحلاوي، أدباء معاصرون، القاهرة، 1935.

D 25 شباط (فبراير) 2014     A يسري عبد الله     C 0 تعليقات