د. عدلي الهواري
حكاية مئتي جنيه
لم تكن مصيبة فصل كاظم من العمل كافية. كان فصله قبل عامين من بلوغه سن التقاعد المبكر، وبعد ستة عشر عاما من العمل في وظيفة دخلها صار يكفيه، ويمكنه من مد يد العون إذا مر أحد أفراد عائلته في ضائقة مالية.
بعد أيام من صدمة القرار غير المتوقع، جاءته رسالة من مصلحة الضرائب تطالبه بثلاثة عشر ألف جنيه إسترليني. هذا مبلغ ضخم يصعب تسديده حتى لو كان لا يزال في عمله. وهو أيضا لا يصدق أنه يدين لمصلحة الضرائب بمبلغ كهذا، فدخله الرئيسي كان راتبه الشهري، الذي تقتطع منه أولا بأول نسبة لمصلحة الضرائب.
كان كاظم في الماضي يعد نماذج الضرائب بنفسه. ويرسلها في موعدها. نتيجة مشاكل في العمل قبل سنوات لم يرسل النموذج في عام 2000. من ذلك الحين بدأت مصلحة الضرائب ترسل له الرسائل والفواتير وتهدده بمصادرة الممتلكات. وفي كل مرة يتلقى تهديدا كان يقدم على خطوة تبطل التهديد، خاصة إرسال مبلغ من المال لمصلحة الضرائب. وأخيرا لجأ إلى محاسب ليتابع له شؤونه الضريبية، فأرسل له المحاسب نموذج توكيل ليوقع عليه ليمكن للمحاسب التعامل مع مصلحة الضرائب نيابة عنه.
بعد شهور قليلة من توكيل المحاسب جاءته رسالة تهديد أخرى، فاتصل بالمحاسب ليستوضح السبب، فتبين أن المحاسب نسي متابعة الموضوع.
زار كاظم المحاسب في مكتبه، وقدم له ما يريد من أوراق، وغادر المكتب مطمئنا اكثر من الماضي أن المحاسب سوف يتعامل مع مصلحة الضرائب ويرد على رسائلها، وسوف يتأكد من مدى دقة الحسابات، وما لمصلحة الضرائب وما عليها.
مرت أسابيع اطمأن بعدها فعلا أن مصلحة الضرائب قد كفت عن متابعة إرسال رسائل التهديد. وعزز شعوره بالاطمئنان أنه كان كتب رسالة لمصلحة الضرائب أبلغهم فيها أنه وكّـل محاسبا ليتابع شؤونه الضريبية. وذكّر المصلحة بأن في ملفه عندهم نسخة من رسالة تفويض المحاسب للتعامل مع أموره الضريبية. وأبلغهم أيضا أنه فُصل من العمل ولا يستطيع في مثل هذه الظروف أن يسدد مبلغا من هذا القبيل، إضافة إلى عدم اقتناعه بأنه مدين بهذا المبلغ.
قبل مرحلة المشاكل في العمل كان يقوم بكل أعماله بنفسه. هو الذي يملأ نموذج الضرائب. يدفع الفواتير في موعدها. يكتب ما يلزم من رسائل. كل الأوراق موجودة في ملفات، فيسهل إيجادها وإعادتها إليها. ولكن منذ تأزمت الأمور في العمل، زاد الوقت الذي خصصه كاظم لعملية الدفاع عن حقوقه وزملائه في العمل. وبدأت أوراق الدفاع عن الحقوق تتراكم. ومتابعة الدفاع عن الحقوق لم تبق له وقتا للقيام بالأعمال الروتينية. وصارت الأوراق أكواما هنا وهناك، ولم يبق مكان في الغرفة التي خصها مكتبا له. البحث عن أي ورقة صار عملية تضيع وقتا طويلا وقد لا تسفر عن إيجادها، فهي دائما في مكان مختلف عن الذي ظن أنه تركها فيها.
مرة أخرى جاءته رسالة من مصلحة الضرائب وتهدد بمصادرة ممتلكاته. استشاط غضبا من المحاسب ومن مصلحة الضرائب. اتصل بالمحاسب وسأله: "ماذا فعلت لي؟" فقال المحاسب إنه لا يزال ينتظر بعض المعلومات من بنك آبي ناشنال الذي أخذ منه القرض لشراء منزل قبل عشر سنوات.
اتصل بمصلحة الضرائب وسأل: "لماذا ترسلون لي هذه الرسائل وقد أبلغتكم أن لدي محاسبا مفوضا بمتابعة أموري الضريبية؟"
قالت له موظفة: "من المقرر أن يأتي احد لزيارتك غدا". شرح لها الوضع، فقالت إنه يمكن وقف الزيارة إذا تحدث المحاسب مع مصلحة الضرائب، أو إن أرسل الرسالة التي بعثها لمصلحة الضرائب من قبل.
لم يكن صعبا أن يجد الرسالة، فقد قرر منذ شهور أن يعيد قطار حياته الروتينية إلى سكته المعهودة، وأن يبدأ بترتيب الأوراق، خاصة المهمة من قبيل الأوراق اللازمة لحساب الضرائب والفواتير وشهادات الأسهم وما شابه ذلك من أوراق. ونجح إلى حد كبير في فعل ذلك. وقرر في هذا السياق أن يتابع شؤون حسابه في بنك آبي ناشنال خشية أن يتأخر في تسديد الدفعة الشهرية بعد توقف دخله. وطلب من البنك أن يتابع حسابه من خلال شبكة الإنترنت، فأرسلوا له ما يلزم من أرقام وكلمات سرية.
كان كاظم قد فتح حسابا في آبي ناشنال خصيصا لتسديد الدفعة الشهرية من القرض العقاري ودفعة التأمين الشهرية. وكان يحوّل لهذا الحساب من حسابه الرئيسي المبلغ الكافي لتسديد الدفعتين. واستمرت الأمور على هذا المنوال عشر سنوات. إن نظرت إلى كشف الحساب وجدت دفعة شهرية قادمة، واثنتين خارجتين. ويبقى مبلغ ضئيل يتراكم ببطء شديد.
عندما اطلع على حسابه عبر الإنترنت وجد أن لديه اكثر من مئتي جنيه بقليل، اكثر بجنيهين ونصف بالتحديد. اطمأن أن كل شيء على ما يرام، ووجد أن الاستمرار بهذا الترتيب سيظل حكيما، حتى رغم توقف دخول مبلغ شهري في حسابه الرئيسي.
عاد بعد أسبوعين أو نحو ذلك للاطلاع على تفاصيل حسابه، فوجد أن مبلغا مقداره مئتا جنيه قد سحب نقدا من حسابه، ولم يبق فيه إلا جنيهان ونصف جنيه. فكر قليلا إن كان سحب هذا المبلغ من قبل. تأكد من دفتر الشيكات أنه لم يكتب شيكا لنفسه أو لأحد بهذا المبلغ. كما أنه لا يذكر أنه سحب المبلغ نقدا باستخدام البطاقة البلاستيكية. ولا يذكر أنه دخل فرعا من فروع آبي ناشنال منذ انتظام تسديد الدفعات.
وعندما نظر إلى تاريخ السحب زاد يقينه بأنه لا علاقة له بسحب المبلغ. فهو في ذاك اليوم كان في مقر اتحاد الصحفيين في لندن لتقديم ما قد يطلب من معلومات عن قصية فصله من العمل لأعضاء اللجنة التنفيذية المجتمعين هناك.
اتصل هاتفيا بآبي ناشنال، فقال له الموظف على الطرف الآخر إن سحب نقد لا يمكن أن يتم إلا شخصيا أو باستخدام البطاقة البلاستيكية. ثم قال له: "نستطيع أن نحدد لك الفرع الذي سحب منه النقد". وبعد انتظار على الخط قليلا، قال له إن المبلغ سحب من فرع برنتوود.
لم يكن كاظم قد سمع ببرنتوود من قبل، ولا يعرف أين تقع بالضبط. كل ما يذكره أنه ذهب إلى مدينة بيرمنغهام بالسيارة، وتوقف مرة على الطريق ذهاب وإيابا. ولكن كان التوقف في محطة استراحة لا بنوك فيها. ولا يذكر أنه اشترى شيئا قيمته مئتا جنيهه، بل إن البنزين الذي ملأ به السيارة دفع ثمنه نقدا، وكان بعشرين جنيها.
قال له الموظف إن عليه أن يبلغ الشرطة، وهي ستعطيه رقما للقضية، وعليه أن يتصل بآبي ناشنال مرة أخرى ليعطيهم الرقم، وبعد ذلك يبدأ التحقيق في الموضوع.
بعد أن تأكد كاظم من عنوان أقرب مخفر للشرطة ذهب إليه لينفذ ما قاله له موظف آبي ناشنال. في مخفر الشرطة ثلاثة مقاعد حديدية خارج باب لا يفتح إلا بضغط الزر من الداخل. كان هناك شخص ينتظر. وهذا كان ينتظر أن يدخل بعد أن يخرج رجل وامرأة كانا في الداخل. بعد فترة من الانتظار خرج الرجل والمرأة -أم مع ابنها على ما يبدو- وسمح للشخص الآخر بأن يدخل. وبعد أن فرغ هذا من شأنه خرج، وسمح لكاظم بالدخول.
كان الشرطي بملابس مدنية، وبدأ كاظم يتحدث، ثم توقف عندما وجد الشرطي يتجه نحو مكتبه، فقال له الشرطي إنه يسمع ويمكن الاستمرار. شرح للشرطي الأمر: مئتا جنيه سحبتا من حسابه. اتصل بآبي ناشنال. قالوا له اذهب للشرطة وبلّغ عن الأمر لتحصل على رقم قضية. وها هو يفعل ما طلب منه. بدأ الشرطي بملء نموذج. وسأله إن كانت البطاقة البلاستيكية لا تزال معه، فرد بالإيجاب. قال الشرطي في هذه الحالة لن نصدر رقما. عليك أن تأخذ هذا النموذج إلى أحد فروع آبي ناشنال، وتطلب منهم أن يرسلوا لنا التفاصيل المتعلقة بسحب هذا المبلغ. ودون ذلك لن نحقق في الأمر. وأعطى الشرطي كاظم ورقة عليها العنوان الذي يجب إرسال المعلومات المطلوبة إليه.
في اليوم التالي ذهب كاظم بسيارته إلى الحي التجاري الأقرب لبيته. وأراد استغلال زيارته للحي للقيام بأكثر من عمل. وكان يريد في هذه الزيارة الذهاب إلى بنك آخر، هاليفاكس، للحصول على بديل لكتب حساب التوفير. فقد اقترب كثيرا من احتياجه لاستخدام المبلغ الذي ادخره. وكان البنكان يبعدان عن احدهما الآخر خطوات قليلة.
أوقف سيارته في مكان مخصص لوقوف السيارات مقابل مال. ووضع مبلغا يكفي لإيقاف سيارته ساعتين. ورأى أن ذلك افضل، ففي مرات سابقة كان يظن أن سحب مبلغ من البنك سيستغرق منه بضع دقائق، فيذهب إلى البنك فيجد آخرين يريدون خدمة، أو أن الخدمة بطيئة، فتنتهي الدقائق ويصبح عرضة لغرامة تساوي ثمانين جنيها. وفي كل المرات السابقة التي وضع فيها مالا لساعتين لم يمض في الحي التجاري اكثر من ساعة، بل أحيانا نصف ساعة.
أوقف السيارة مطمئنا أن لديه متسعا من الوقت للقيام بما يحتاج أن يفعله: الذهاب إلى آبي ناشنال لإكمال معاملة التحقيق في سحب المئتي جنيه، فالذهاب إلى بنك هاليفاكس للحصول على بديل لكتيب حساب التوفير، ثم الذهاب إلى مكتب البريد لشراء طابع لإرسال رسالة إلى بنك يطالبه بإعادة شهادة الأسهم التي لديه، لأن شركة أخرى اشترت الشركة التي استثمر فيها.
ذهب إلى آبي ناشنال أولا، فقالت له موظفة الاستقبال إن شخصين ينتظران، وسيأتي دوره بعد عشرين دقيقة. قال: "سأذهب قليلا وأعود". ذهب إلى هاليفاكس وطلب موعدا ليتمم إجراءات استبدال الكتيب. وجدت له الموظفة موعدا بعد ساعة وربع ساعة. قال في نفسه: بعد الانتهاء من مهمتي في آبي ناشنال سأذهب إلى البريد لأشتري طابعا وأرسل هذه الرسالة، ثم أتسكع في الحي التجاري إلى أن يحين موعد هاليفاكس.
عاد إلى آبي ناشنال لينتظر وهو مطمئن أن لديه موعدا مع هاليفاكس. كان اليوم حار جدا فآثر الانتظار في الفرع المكيف بدل أن يخرج ويتصبب عرقا أثناء انتقاله من مكان إلى آخر، ثم إن خدمات الزبائن تتم عادة خلال دقائق. بقي ينتظر. ومرت عشرون دقيقة. ومرت نصف ساعة. ومرت أربعون دقيقة. وكادت تمر ساعة، وعندئذ وقف شاب وشابة وسلما على الموظفة على ما فعلته.
موظفة الاستقبال كانت تعرف أن كاظم انتظر طويلا، فطلبت إليه أن ينتقل إلى الكرسي القريب من المكتب الذي شغر. كانت الموظفة تريد أن تلتقط أنفاسها بعد ساعة واكثر من خدمة هذين الزبونين. ولكن موظفة الاستقبال أشارت عليه بالجلوس. قال كاظم في نفسه: ربع ساعة قد تكفي. ويمكنني أن أتأخر خمس دقائق إن لزم الأمر، فهاليفاكس على بعد خطوات من هنا.
جاءت الموظفة إلى مكانها وقدمت نفسها. أنا بردجت. شرح لها الأمر. مئتا جنيه سحبتا من حسابي. اتصلت بآبي ناشنال. قالوا اذهب للشرطة. ذهبت. قالت الشرطة اذهب إلى فرع آبي ناشنال. ها قد أتيت إلى آبي ناشنال. نظرت إلى حسابه على شاشة الحاسوب، ولم تر المبلغ المسحوب من أول نظرة، فقال إنه مسحوب يوم الثامن عشر، فوجدته، وطبعت كشفا، وظللت المبلغ المسحوب باللون الأصفر ليصبح بارزا.
قالت له بردجت: "لدينا قسم خاص للتحقيق في هذه الأمور، و لا داعي للشرطة".
قال كاظم: "لو قيل لي ذلك من قبل لوفرت على نفسي مشوارا، ولما احتجت إلى الذهاب إلى الشرطة. لا يهمني من يحقق في الأمر".
"هل لديك تأمين على المنزل؟" سألت بردجت.
"نعم".
"وهل يغطي المبنى والمحتويات؟"
"أظن ذلك".
بحثت بردجت في حاسوبها عن حساب التأمين فوجدت أنه يغطي المبنى فقط. قالت: "لماذا لا تجعل التأمين يغطي المحتويات أيضا؟ من سيدفع قسط البيت إن أنت توقف عن العمل؟"
رد عليها قائلا: "سؤال جيد".
لم يرد أن يقول لها إنه مفصول من العمل منذ خمسة شهور. حديث سيجر حديثا، ولن يكفي الوقت لإنجاز المهمة التي أتى لإنجازها.
قالت بردجت: "سأطلب منك التوقيع على نموذج لرفع مستوى التأمين ليشمل المحتويات. سأرسل لك الأوراق وسيكون أمامك أسبوعان لتقرر".
"ولكن هذا يغير أولويات اجتماعنا. لقد حضرت هنا لمتابعة موضوع المئتي جنيه".
"نعم"، قالت بردجت، "سوف أنجز ذلك أيضا". وذهبت إلى مكان آخر لتحضر نموذجا. كان الساعة الرابعة والربع. قال لنفسه: إذا لم انجز مهتمي في آبي ناشنال، علي أن اذهب لأنجز مهمتي في هاليفاكس.
ذهب إلى الموعد في هاليفاكس، وبعد انتظار قصير اقتيد إلى غرفة صغيرة.
"هل لديك وثيقة هوية؟" سألته الموظفة.
أخرج لها بطاقته الصحفية التي عليها صورة، وتقبلها الشرطة كدليل على أن حاملها صحفي، ويسمح له بجمع الأخبار حيث يسمح للصحفيين بالاقتراب.
قالت الموظفة: "لا يمكنني قبول هذه الهوية".
"ولكن كيف وصورتي عليها والشرطة تقبلها؟"
قالت: "هل لديك وثيقة عليها عنوان؟"
فتح الرسالة وقال: "انظري شهادة الأسهم هذه عليها عنواني".
قالت: "هذه وثائق غير مقبولة".
"وما هي الوثائق المقبولة؟"
أعطته ورقة عليها قائمة بعناوين وثائق من قبيل فاتورة الهاتف والكهرباء ورخصة السواقة التي لا صورة عليها. وقالت له الموظفة تعال غدا. جمع أوراقه وخرج غاضبا وقال لا أريد أن أعود بالمرة.
عاد إلى آبي ناشنال، واقترب من مكتب بردجت وقال: "لقد عدت. هل لي أن انهي ما تم بدؤه؟"
قالت: "لقد أغلقت مكتبي. عليك أن تأتي غدا".
قال كاظم: "لا لن آتي غدا. لقد انتظرت طويلا اليوم".
وجلس قرب الاستقبال مصرا على أن تقدم له الخدمة المطلوبة.
جاءت له بردجت وقالت إنه الذي قرر الخروج من الفرع.
كان قد بلغ مرحلة الغليان. فقاطعها وقال إنه يريد أن يخدم لا أن تقدم له أوامر.
موظفة الاستقبال قالت إن أحدا سيأتي لخدمته. لم يستعجل أحد على المجيء. كانت الساعة الرابعة وأربعين دقيقة عندما خرجت موظفة أخرى. كان يعرف أن عليه أن يشرح الوضع من جديد، وأن خمس دقائق لن تكون كافية لإنجاز المعاملة. كان يجب أن يغادر الخامسة إلا الربع، اذا يتبقى عندئذ وقت يكفي للوصول إلى السيارة قبل أن ينتهي الوقت ويصبح عرضة للغرامة.
ألقى الورق على الطاولة وسأل الموظفة: "هل تعتقدين بأمانة أنه يمكنك إنهاء الأمر في خمس دقائق؟"
لم يعجب سؤاله الموظفة التي خرجت للمساعدة خلافا لرغبتها، فوقت انتهاء الدوام للموظفين اصبح أيضا وشيكا، فقالت: "لماذا تلقي الأوراق نحوي؟"
رد غاضبا: "ليس لدي ضدك أي شيء شخصي. أنا لا أعرفك".
زاده رد فعل الموظفة غضبا وقال: "هل تعتقدين بأمانة أنه يمكن إنهاء المعاملة في خمس دقائق؟"
وصاح: "هذه خدمة زبالة". وكرر قوله ثلاث مرات وخرج. وكانت الساعة الخامسة إلا ربعا.
عاد كاظم إلى البيت غاضبا. دائما يكره أن يسوق السيارة وهو غاضب. كلما يفعل ذلك يكاد يتعرض لحادث. عاد إلى البيت ولم ينجز شيئا من الأمور الثلاثة التي ظن أنها قد تنجز في ساعة على الأكثر. وأصابه صداع. دائما يحدث له ذلك عند ينشأ خلاف بينه وبين موظفين، فهو يدرك أن الموظفين أيضا عليهم ضغوط وبشر مثله لديهم همومهم. ولكن موظفي المؤسسات يتصرفون أحيانا بطريقة هدفها تفادي تقديم الخدمة، بدل البحث عن السبل لتقديمها.
فكر في الأمر، ورأى أنه سوف يغلق الحساب في آبي ناشنال. المؤسسة التي لا تقدم خدمة حسنة، لا تستحق أن يجعل الإنسان نفسه بين زبائنها.
اتصل بمكتب الشكاوى وشرح ما حدث له. فقيل له سنتصل بمدير الفرع. فقال لمحدثته ولكن لحد الآن لا تعرفين مع من تتحدثين. قالت كنت على وشك أن أسألك عن اسمك ورقم حسابك. فأعطاها المعلومات. وانتهت المكالمة.
بدأ بتأليف شكوى مكتوبة. ملأت شكواه صفحتين. ولم يحسم ما سيفعل بها: هل سيبقيها كسجل لما حدث أم يقدمها لمدير الفرع؟ هل تستحق بردجت أن يشكى عليها، وزميلتها الأخرى؟
قرر كاظم فيما بعد ألا يمسح لبردجت أو أي أحد في آبي ناشنال بأن يطفشه، وبالتي عدم إنجاز التحقيق في سحب المئتي جنيه. وقرر أنه سيذهب في اليوم التالي إلى فرع البنك لينجز المعاملة، ولن يهمه من سيفعل ذلك، وسيبلغ من سيقابله أنه لا يريد شراء تأمين إضافي، وسيطلب نماذج لتحويل دفع قسطي التأمين والبيت إلى حسابه الرئيسي تمهيدا لإغلاق حسابه في آبي ناشنال.
في اليوم التالي راجع نص الشكوى، ووقعها ووضع تاريخ اليوم عليها. حمل كل ما يلزم لإنجاز ما اخفق في إنجازه في اليوم السابق. ولكي يتفادى وضع السيارة في موقف محدد الوقت، قرر أن يذهب إلى كاراج مركز التسوق، فعندئذ لا يصبح مضطرا للقلق على انتهاء الوقت قبل انتهاء إنجاز مهامه.
وضع السيارة في الكاراج، وذهب إلى آبي ناشنال. سألته موظفة الاستقبال عن شأنه، فقال: "أريد أن انجز ما لم انجزه امس". قالت وفي نبرتها بعض القلق: "يا الهي! هناك أربعة ينتظرون. سأعمل لك موعدا، ويراك أحد فور مجيئك إلى الموعد".
قال كاظم: "لا مانع".
قالت: "الساعة الثالثة وربع. مناسب؟"
قال كاظم: "لا مانع. سأعود في ذلك الوقت، وهناك أمران آخران. أولا، أريد نماذج لتغيير الحساب الذي ادفع منه قسطي البيت والتأمين".
قالت: "اطلبهما من الشخص الذي ستقابله".
"الأمر الثاني"، قال كاظم، "أريدك أن تسلمي هذه الشكوى للمدير".
نظرت إلى الورق بقلق، ووجدت صفحتين، الأولى معنونة للمدير الذي لم يستطع كاظم تحديد اسمه من خلال موقع آبي ناشنال على الإنترنت أو في دليل الهاتف.
قالت: "سألصق الورقتين وأذهب إلى الطابق العلوي لأسلم الرسالة للمدير".
ذهب إلى هاليفاكس وطلب موعدا جديدا. قالت له الموظفة إن هناك موعدا الساعة الرابعة. خشي كاظم ألا تكفي نصف ساعة، فقال: "أريد موعدا بعد ذلك".
قالت الرابعة والربع فقبله، ولم تمانع الموظفة أن يتأخر حتى الرابعة والنصف أو أن يأتي قبل الرابعة والربع، فأحيانا قد يتوفر موظف ليقابله الزبائن قبل الموعد.
توجه من هاليفاكس إلى مكتب البريد وأرسل مغلفا آخر كان اعده للإرسال الليلة الماضية. وبعد أن وقف في الطابور بضع دقائق جاء دوره، وقال إنه يريد إرسال المغلف ببريد الدرجة الثانية، فقال الموظف إن الوزن ثقيل، ولا يمكن إرساله إلا بالدرجة الأولى فوافق.
خرج من مكتب البريد وألقى المغلف في صندوق الرسائل الأحمر، وتوجه إلى محل الهواتف الجوالة لينقل أرقام هاتفه القديم إلى الجديد.
امسك الموظف الهاتف الجديد ليخرج البطاقة الإلكترونية لتخزين الأرقام، وابدى إعجابه بالهاتف، وبدأ يضرب الأزرار على الحاسوب، وقال: "معذرة، إن الشبكة متوقفة ولا يمكن نقل الأرقام". واقترح عليه أن يذهب إلى فرع آخر ليس بعيدا.
توجه كاظم إلى الفرع الآخر، واتجه نحو موظف لا يخدم زبائن وقال إنه يريد نقل الأرقام إلى هاتفه الجديد. أمره الموظف بأن يخرج البطاقة من الجهاز. أغضبه تلقي الأمر، خاصة لأنه قبل قليل سلم الجهاز للموظف وقام هذا بإخراج البطاقة، وأعادها إلى الهاتف. كل شيء تم بود وأدب. حاول الموظف الجلف أن ينقل الأرقام، ولكن الشبكة عنده أيضا كانت متوقفة. أخذ كاظم جهازه وخرج ممتعضا من سوء الخدمة من الشخص، ومن الشبكة المتوقفة، فتوقفها عذر تلجأ له الشركات كثيرا.
ذهب إلى مقهى في مركز التسوق واشترى كوبا من القهوة وبدأ ينتظر حلول الساعة الثالثة والنصف. قرر أن يغادر المقهى الساعة الثالثة والخامسة والعشرين ليكون في فرع آبي ناشنال على الموعد المحدد. كان يود أن يشرب فنجان القهوة كاملا، ولكنه كان بطيئا بالشرب. لم يرشف أكثر من عشرة في المئة منه. وعندما حان الموعد، توجه نحو فرع البنك. كان أمامه اثنان يريدان أن يتحدثا مع موظفة الاستقبال. وكانت هناك موظفة أخرى تسأل عن كاظم، فرفع يده وقال هو أنا.
كانت موظفة سمراء جميلة حسنة الملبس. مدت يدها وقالت: "مرحبا سيد كاظم. أنا المديرة. لقد قرأت رسالتك".
اصطحبته إلى مكتب قريب وبدأت تعتذر له عما حدث في اليوم السابق. وحاولت في الوقت نفسه أن تشرح له أن ما قالته بردجت عن قسم التحقيق في البنك صحيح.
قال لمديرة البنك: "هوني الأمر علي أرجوك. قولي لي ماذا تريديني أن افعل؟ لقد اتبعت تعليمات آبي ناشنال عندما قالو لي اذهب إلى الشرطة. واتبعت تعليمات الشرطة عندما قالوا لي اذهب إلى آبي ناشنال".
شرح لها أن الأمر بدأ عندما رأى على كشف حسابه أن مبلغ مئتي جنيه قد سحب من حسابه، وأنه لم يكن الشخص الذي سحب المبلغ.
قالت مديرة الفرع: "أحيانا نخطئ عندما نكتب الأرقام. لعل الأمر كان كذلك عندما سحب المبلغ. ولم يكن المقصود أن يسحب من حسابك. دعنا نتأكد من الأمر".
قال كاظم: "هذا أمر معقول".
أمسكت مدير البنك الهاتف واتصلت بالفرع وعرفت عن نفسها وطلبت استيضاح الأمر، فطلب منها الانتظار قليلا.
أثناء الانتظار قال كاظم للمديرة إن الغريب في أمر المبلغ المسحوب أن من سحبه أبقى جنيهين ونصف جنيه في الحساب.
عادت الموظفة في الفرع الآخر إلى المديرة، وأكدت سحب سيدة مئتي جنيه، وكان المفترض أن يسحب المبلغ من حسابها، ولكن حدث خطا في تسجيل الرقم، وسحب من حساب كاظم، وسيتم تصحيح ما جرى.
شكر كاظم المديرة، وصافحها وغادر فرع آبي ناشنال بعد أقل من عشر دقائق.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
حكاية مئتي جنيه, زهرة يبرم/ الجزائر | 1 نيسان (أبريل) 2014 - 14:53 1
تلك هي مشاكل البيروقراطية التي ولدت مع نشوء الدول الحديثة في كل مكان، والتي لم تسلم منهاالدول الغربية ناهيك عن الدول العربية.
قصة شبيهة بالأحجية، إلا أني أحيي من هنا تلك الصورة الناصعة، صورةالموظفة السمراء الجميلة حسنة المظهر.. مديرة البنك..
حكاية مئتي جنيه, إبراهيم يوسف - لبنان | 1 نيسان (أبريل) 2014 - 18:23 2
الأخ الأستاذ عدلي الهواري
تاريخ الثقافة والآدآب في تركيا وكما أعتقد، ليس بأهميتة في الكثير من الدول التي تميزت بتراث أدبي مشهور، كالأدب الروسي والفرنسي وغيرهما.. ولكنني وقعت ذات مرة على مسرحية مترجمة لكاتب تركي، لا أذكر من يكون صاحبها، وحتى أنني لا أذكر عنوان المسرحية.. أما مضمونها فيتناول حالة رجل يشتغل في معمل لإحدى الدول المتقدمة في صناعتها. إنه واحد من أولئك العمال ممن يتحركون كالأدوات.
لا أبالغ وأنا أقول إن مضمون المسرحيَّة استفزَّني ووتَّرني ودفعني لكي أقذف بالكتاب بعيداً عني..!؟ أقول لك الحق اعتراني نفس الإحساس وأنا أقرأ حكايتك مع الجنيهات، وهذه قطعا قدرة على استدراج القارىء واستفزازه، ودليل على نجاح الحكاية. لعلني لو كنتُ مكان كاظم لصفعتُ جميع من قابلتهم ودخلت السجن..! ألم يكن السجن أرحم..؟