د. عدلي الهواري
الأدب والفن في الصراع الأيديولوجي والسياسي
من الأفلام التي اشتهرت كثيرا في العالم في أواسط الستينيات فيلم "دكتور جيفاغو"، وهو تجسيد سينمائي لرواية بالعنوان نفسه للشاعر والروائي الروسي بوريس باسترناك (Boris Pasternak). الرواية لم تنشر أولا في الاتحاد السوفييتي/روسيا. ومع ذلك نالت شهرة عالمية اسهم الفيلم في توسيع نطاقها.
كان للفيلم حظ إضافي من الاهتمام به في العالم العربي لأن دور البطل فيه أسند إلى الممثل المصري/اللبناني عمر الشريف، فزادت شهرته أضعافا بعد أن كان جسّد شخصية الشريف علي في فيلم "لورانس العرب" عام 1962. كلا الفيلمين من إخراج ديفيد لين، المخرج البريطاني.
سبب الإشارة إلى الفيلم/الرواية هو الكشف في الآونة الأخيرة عن تفاصيل استخدام الرواية في الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي في الفترة التي عرفت بالحرب الباردة، التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية وانتهت بانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية نشرت في 5 نيسان/أبريل 2014 مقالة للكاتبين بيتر فن وبترا كوفي (Peter Finn and Petra Couvée) استعرضا فيها تفاصيل تبني هذه الرواية الممنوعة من النشر في بلد المؤلف والإقدام على طبعها بالروسية ليتم تهريبها إلى الاتحاد السوفييتي (1).
في ضوء المقالة المذكور أعلاه، عندما يعيد الإنسان ترتيب تسلسل الأحداث سيجد أن شهرة هذا العمل الروائي لم تكن شهرة نابعة من قيمتها الأدبية وحسب، فمسار شهرتها ربما بدأ طبيعيا، عندما نشرها مترجمة إلى الإيطالية جانجاكومو فيلترينيلي (Giangiacomo Feltrinelli) عام 1957.
حسب ما تفصل المقالة، وجدت المخابرات البريطانية والأميركية في رواية "دكتور جيفاغو" سلاحا في الصراع الأيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي، فوضعت خططا لطبعها بالروسية، وتم توفير الطبعة الروسية في معرض عالمي أقيم في بلجيكا عام 1958.
ولعل صورة الاستخدام الأيديولوجي للرواية تتضح أكثر عندما يلاحظ المرء اتباع النشر بحصول الروائي على جائزة نوبل عام 1958، ثم تحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي عام 1965.
ولكن ما يجب قوله هو أن رواية "دكتور جيفاغو" ليست حالة وحيدة، فهي واحدة من أمثلة عديدة على توظيف الأدب والفن لأغراض سياسية وأيديولوجية، فهذه ظاهرة معروفة، واستخدمت كثيرا أثناء الحرب الباردة.
في سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أن العالم العربي شهد سجالا حول مجلة صدرت في عام 1962 اسمها "حوار" تولى رئاسة تحريرها الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ. وقد أخذ على المجلة أنها تتلقى تمويلا من «منظمة حرية الثقافة العالمية»، التي كانت بدورها تتلقى تمويلا من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وتعرضت "حوار" للانتقاد من جهات عدة، ومنعت من دخول مصر في عهد جمال عبد الناصر. وفي نهاية المطاف استقال توفيق الصايغ، وأغلقت المجلة في عام 1967.
تبقى هذه المقالة ناقصة إذا تجاهلت سؤالا يطرح نفسه: لماذا تنجح عملية توظيف رواية في إقلاق راحة نظام ولا تقدم أو تؤخر في نظام آخر؟
في رأيي أن النظام الذي يخشى النقد، حتى ضمن رواية أو عمل فني، يظن أنه يحمي نفسه، ولكنه في الحقيقة يظهر مواطن ضعفه، فيتم التركيز عليها إلى أن تنجح المحاولات. في المقابل، عندما يكون النقد ممارسة يومية شائعة، بشكل مباشر وليس في الأدب والفن وحدهما، يصبح النقد أمرا معتادا، فلا يؤدي إلى كبت المشاعر والسخط والاستياء وتراكم ذلك مع مرور الأيام، ويوفر حافزا لتصحيح القرارات والمسارات، بدل فرضها بالقوة إما لسوء فهم للأيديولوجيا، أو لخدمة مصالح الممسكين بالحكم ومن يدعمهم.
من نتائج كبت الحريات وعدم قبول النقد تراكم الامتعاض الشعبي، وبعد زمن يطول أو يقصر، يحدث الانفجار أو الانهيار، فالاستقرار المفروض بوسائل الإكراه أو شراء الذمم ينجح نجاحا مؤقتا. وخير دليل على ذلك ما حدث في أوروبا الشرقية في الثمانينيات، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي. وتكرر الدليل في العالم العربي قبل ثلاث سنوات، عندما اندلعت تحركات جماهيرية تطالب بالتغيير أو رحيل النظام، وحدث ذلك بعد أن ظن المسيطرون على السلطة أن كل شيء يسير حسب أهوائهم.
= = = =
(1)
Peter Finn and Petra Couvée, 2014, "During Cold War, CIA used ‘Doctor Zhivago’ as a tool to undermine Soviet Union", 5 April 2014.
الرابط:
http://www.washingtonpost.com/world/national-security/during-cold-war-cia-used-doctor-zhivago-as-a-tool-to-undermine-soviet-union/2014/04/05/2ef3d9c6-b9ee-11e3-9a05-c739f29ccb08_story.html
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
د.عدلي تحية طيبة موضوع في الصميم من معوقات النهضة في عالمنا العربي وفي الدول التي تعتقل فيها الأنظمة الديكتاتورية الكلمة وتشيع فيها ثقافة السياسة فمن مجد النظام فهو آمن الثقافة الحقة حرةوإنسانية الهوى والمثقف العضوي يتجاوز الأيديولوجياوآفاق الفن والإبداع أوسع من أفق السياسة.
أ / عدلى ..الفن والأدب نبض المجتمع وخير من يعبر عنه وعدم قبول الرأى الآخر أو النقد هو سر إكتظاظ المعتقلات ،السجون والمنافى بالكثير من أصحاب الفكر الحر وهو ذاته سر بقاء أنظمة لسنوات عديدة دون غيرها رغم إفلاسها عن تقديم أقل القليل لشعوبها ..دمت ودام عمق طرحك وموضوعاتك الراقية ..تحياتى