مليكة سعدي - الجزائر
الآخر في الرّواية الفلسطينيّة
تعتبر روايات "المتشائل" و"الصبار" و"عباد الشمس" روايات أرض بامتياز، إذ نجد في كل منها تجلية لعنصر الأرض كأهم مكون للصراع بين الأنا الفلسطيني والآخر الإسرائيلي، وإن كان الأمر دائما قصة غالب ومغلوب، وسالب ومسلوب. "الغالب كتب حكايته ونسي الأرض. أما المغلوب فكتب حكاية الأرض ونسي حكايته"[1]، وبالأحرى حكاية الأرض هي حكايته نفسها.
في الكتاب الأول من "المتشائل" والموسوم بـ "يعاد" نجد إذكاء للذاكرة الفلسطينية وتأكيدا على التجذّر في الوطن في مواجهة أحداث الاقتلاع ووحشية إجراءات الاستيطان الصهيوني.
الآخر والمكان
ولأن المكان فعل وجود، وفعل وعي الهوية، فإن الآخر يعمل على اكتساح مكان الأنا سعيا إلى حرمانه من مبرّر الوجود وزعزعة لوعي الهويّة لدية من جهة، وللانغراس فيه من جهة ثانية. ونجد في "المتشائل" إشارة فاضحة لعقيدة الهدم التي يعتنقها الآخر، وقرابين القرى الفلسطينية التي يقدّمها، من ذلك استماع المتشائل إلى المطرودين عسفا وإرهابا وهم ينتسبون في إصرار إلى قراهم التي طمست: "نحن من الكويكات، لم يبق فيها حجر على حجر، سوى القبور"؛ "نحن هنا من عمقا، ولقد حرثوها ودلقوا زيتها"؛ "نحن هنا من البروّة، لقد طردونا وهدموها"[2]، فالفاعل المتمثل في الضمير المستتر في كلّ أفعال الهدم والخراب يعود على الآخر ويحيل إليه.
تلحّ الرواية على تعداد الأماكن التي أراد الآخر محوها: الرويس، الحدثة، الدامون، المزرعة، شعب، معيار، وعرة السريس، الزيب، البصة، الكابري، أقرت[3]،وهي القرى التي انتسبت إليها أصوات اللاجئين في جامع الجزار.
ويأتي ذكر أسماء قرى عربيّة هدمت وانقرضت في موضع آخر: الطيرة، الطنطورة، عين غزال، أجزم، عين حوض، أم الزينات[4]، فكأننا نجد في الرواية خريطة للأماكن التي عمل الآخر على محوها من الخريطة، ونجد إلى جانب ذلك إصرارا على الانتماء إليها على الرغم من هدمها، "ثم عادت الأصوات تنتسب في عناد، مع أن قراها كما فهمت قد درستها العسكر"[5]. وتستمر أصوات المهجرين من أماكنهم في الانتساب إليها، وكأن الرواية تقدم إحصاء للقرى التي طمسها الآخر تأكيدا على بقائها وحفظا لها في الذاكرة الجماعية التي تعد هوية مقاومة للاستلاب، ويطعّم السارد الفكرة بقصيدة للشاعر الجليلي توفيق زياد تؤكد الحفاظ على ذاكرة المكان المسلوب.
ونجد في "الصّبّار" إشارة، وإن كانت سريعة، إلى المجازر التي ارتكبها الآخر الصهيوني: "أنسيتم بحر البقر ودير ياسين وقبية؟"[6]، فهذه صرخة تذكير واستنكار تطلقها إحدى الشخصيات في هذه الرّواية، وفي المتشائل تترافد الأسماء عالية معلنة عن وجود مأساوي، فقد ضاع الموضوع وبقي اسمه منتظرا زمنا لاحقا يعطف الاسم على موضوعه الغائب[7]. وبقاء الاسم هو شاهد بائس على المكان وبريق أمل خافت في استرجاعه، فهو وسيلة من وسائل مقاومة الأنا للاستلاب.
ويريد السّارد في "المتشائل" أن يعطي المكان الفلسطيني بعده التاريخي والإنساني بوصفه بطلا منتفضا في وجه الآخر الصهيوني، فالمكان يكتسب دلالته من خلال ساكنه والعلاقة الحميمة التي تنشأ بينهما، ولذلك فإن "اقتلاع الإنسان من مكانه قسرا، يعني تجريده من كيانه وخصوصيته فتتولّد عنده انشراخات عميقة وانفعالات حادة، تشوّه حاسّة المكان وتحدث اختلالات تنعكس على إيقاع العلاقة المكانية"[8]. فالمكان هو وجود الإنسان، والاستيلاء عليه هو تهديد بالغياب والعدم.
وقد يكشف التباين بين بريق الحلم وقتام الواقع عن الشخصية وموقفها المزدوج تجاه المكان، أي بين عشق المكان وتملّكه من جهة، والإحساس بضياعه من جهة أخرى. إنها مفارقة صارخة، وتراجيديا غرائبية، حيث المكان رحب لمغتصبيه، وضيّق بل مسلوب من أهله وعاشقيه؛ واقعة عجيبة لا تحتاج إلى حيل فنية، تكاد أن تكون أسطورة محلّية فيها من الفرادة ما يجعلها سيمفونية حزن إنسانية، تعجز كل مفردات الظلم والاضطهاد التاريخي عن استيعابها[9]. وتتجلّى هذه الإشكاليّة في أغلب الرّوايات الفلسطينيّة بتكرارات وتنويعات مختلفة.
لعلّ هذه المفارقة العجيبة جعلت البقاء على أرض الوطن عجيبا وضربا من السحر، فالبقاء في المكان حضور يواجه كل أسباب الغياب المسلطة من الآخر ومقاومة تتحدى مخططات الآخر، ولذلك يقول المتشائل عن بقائه في مكانه الذي سلبه الآخر ونسبه إلى نفسه: "ما أنا بساحر هندي، بل مجرد عربي بقي سحرا في إسرائيل[10] والبقاء سحرا " هو البقاء بمعجزة، وهو البحث عن معجزة أخرى تصون البقاء الغريب، وفي المعجزة المرغوبة ما يوقظ ضحكا مرّ المذاق، ذلك أن غايتها إبقاء إنسان في أرض كانت له لا أكثر"[11]. وهو فعلا معجزة تكذّب توقّعات الآخر الذي سلّط على الأنا كلّ أنواع الاضطهاد لهجر مكانه.
وفي خضم كابوس انتزاع فلسطين من بنيها، لا يعني البطل المتشائل إلا ضرورة البقاء وحدها، وفي ذلك تأكيد على اتصال الأنا بمكانه وارتباطه به، وإن لم يشعر الآخر بأنه هنا فيه، فسعيد الذي فضّل أن يبقى على أرضه وإن على خازوق بلا رأس، قد بقي فيها في أي مكان منها، لذلك يسأل الراوي في آخر جملة في النص "فكيف ستعثرون عليه، يا سادة يا كرام دون أن تتعثّروا به؟!"[12] فهو في كلّ شبر من أرض الوطن، وفي كلّ ذرّة من ترابها.
ويصرّ الفلسطيني على التمسّك بمكانه على الرّغم من اكتساح الآخر له، وإن كان المكان الوحيد الذي بقي له هو خازوق في أرض الهنا، فهو أهون عليه من الانفصال عنها، وربما تكون نهاية البطل المتشائل على خازوق هي تأكيد على ضرورة بقاء الأنا في مكانه على الرّغم مما يكتنف ذلك البقاء من أسباب الفناء، ولذلك قال ايميل حبيبي "إننا نفضّل رأس خازوق فوق تراب الوطن على رحابة الغربة كلها، فقد وجدناها كلها، خرابا وفراشا أشبه بفراش فقير هندي: رؤوس مسامير أو خوازيق صغيرة وكبيرة على قدر المقام"[13].
ويتردّد موضوع البقاء في المكان بعد احتلاله في روايتيّ "الصبار" و"عباد الشمس"، ففي "الصبار" يعود أسامة الكرمي بعد هجرة دامت خمس سنوات طاف فيها البلاد العربية الأخرى ليكتشف أن لا مكان له إلا أرضه، وكذلك زهدي الذي طلب العمل والأمان في السعودية والكويت، ولم يجدهما ففضّل العودة للعمل في إسرائيل، فهو بذلك يضمن على الأقل اتصالا بمكانه، وفي "عباد الشمس"، يعود أبو الفوارس خرّيج المعتقل إلى وطنه، بعد أن لفظته البلدان العربية لتتلقّفه بلده، ويقول عن تجربة الانفصال عن الأرض، "كنت أحد المتسلّلين عبر النهر، كنا بالمئات، ارتميت على الأرض أشمشمها وحلفت أن لا أهرب بعد الآن ولو حكموني بدل المؤبّد عشرة"[14]، فالبقاء في الوطن وإن في سجن أفضل من هجره لبلدان أخرى.
وتطرح قضية الاستيطان واستغلال اليد العاملة الفلسطينية في رواية "المتشائل" التي تبيّن موقف الكاتب الاحتجاجي من دولة إسرائيل ومظالمها ضد عرب فلسطين، وتصويره الساخر لعنصرية المجتمع اليهودي وانغلاقه وتذرّعه بالخرافة[15].
وتكشف رواية "المتشائل" عن أسطورة أرض الميعاد واليهودي الضحية، إذ تكشف القناع عن جلّاد يتبنى ثقافة الإقصاء والتهميش ويجرّب كل أساليب القمع والإبادة اتجاه غيره الفلسطيني، فالمتشائل هو "العين الفنّية التي عبرها تنكشف أمام القارئ عنصرية النظام، بشراسة ووحشية وعنصرية التركيبة الإسرائيلية المدجّجة بالسلاح والخرافة. وعبر هذه العين الفنية تتبدّى نازية المتدثّرين بجلود ضحايا النازية، وينفضح التوظيف الأيديولوجي للخرافات والأساطير في تبرير التقتيل والتشريد والسلب والنهب والاستيلاء على بيوت المشرّدين وعلى الأرض التي كتبها إله يهود زماننا هذا"[16].
وتتجلى ظاهرة مصادرة الأراضي الفلسطينية مع مصادر المياه وتحويلها إلى مستوطنات إسرائيلية بشدّة في "عباد الشمس"، فبعد أن سحب العمال من الأراضي الزراعية وجذبوا إلى مصانع إسرائيل في "الصّبار" ليتركوا الأرض تجدب؛ يتم الاستيلاء رسميا على هذه الأراضي في "عباد الشمس".
ويصمد الأنا في وجه الدّمار وحملات الاقتلاع والفناء التي يشنّها الآخر عليه فيعبّر المتشائل عن ذلك بكل تفاؤل: "فآمنت بأن هذا الشعب لا يفنى"[17]. وفي "عباد الشمس" تظهر فطرة حفظ النوع والتكاثر في الجانب الفلسطيني وسيلة بقاء وخلود ومقاومة، ويقول القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد) عن النمو السكاني الفلسطيني: "وحيث يمتلك جيشنا هذا كل أسلحة الدمار الشاملة، القنبلة الديمغرافية المتفجرة، والحجارة السجيل"[18] فهو شعب باق لا يفنى ولا يهزم.
وإذا كان السجن أكثر الأماكن التي يشعر فيها الآخر بتفوقه، بحيث يجعله وسيلة لعقاب الفلسطيني أو لشل حركته وقمعه، فإنه يظهر بدلالات إيجابية تتولّد في النص الرّوائي، فسعيد المتشائل يقول عن سعيد المعتقل ذي العباءة الأرجوانية: "جعلني أرى الزنزانة جنّة وقضبان الكوّة جسرا نحو القمر"[19].
والرؤية الإيجابية نفسها، بل ربما أكثر إشراقا منها للسّجن باعتباره مكانا، نجدها في "الصبار" و"عباد الشمس"، فهو مدرسة علم ومدرسة حياة وولادة جديدة، أوهي الولادة الوحيدة الشرعية في حياة الإنسان الفلسطيني، كما عبّر أبو الفوارس مخاطبا أبا العز في عباد الشمس: " قل الداخل مولود والخارج مفقود"[20].
ولأن وعي الإنسان بذاته وبغيره مرتبط بوعيه للمكان والزمان الذين يعيش فيهما، سنبحث عن علاقة الأنا الفلسطيني بزمنه في ظل الآخر الصهيوني كما تجلّى في "المتشائل" وفي روايتيّ سحر خليفة.
الزمن والآخر
يبدو تاريخ النكبة الأولى عام 1948 بؤرة الزمن في رواية "المتشائل" لأنه يتعلق بانغراس الآخر في أرض الأنا واختراقه لمكانه وزمانه، ونجد تاريخ قيام الدولة تحديدا زمنيا ترتد إليه أغلب الأفعال الصادرة عن الأنا، كالهجرة والانفصال عن مكانه أو العودة والاتصال به من جديد: "ترك قريته عام 1948 مع قوافل النازحين بلا قوافل، إلى بلاد العرب الواسعة، ثم تسلل عائدا إلى قريته بعد قيام الدولة"[21].
وكذلك في ثنائيّة "الصبار" و"عباد الشمس" نجد سنتيّ الاحتلال 1948 واحتلال الضفة الغربية 1967 بؤرتين للزمن، تنطلق أو ترتد أو تقاس بالرّجوع إليهما أغلب التحديدات الزمنية المذكورة، سواء الدّقيقة أو المطلقة، فالأدب الفلسطيني المعاصر انطلق من النكبة ولم يطرح عليها أسئلته حتى الآن[22].
ورواية المتشائل خاصة "تؤرخ لتفاعلات حرب 1948 النحس الأول، حسب تعبير حبيبي، في العرب الباقية داخل فلسطين المحتلة... ثم لتفاعلات حرب 1967 النحس الثاني بين العرب الباقية وعرب الأراضي العربية المحتلة حديثا"[23].
وقد أبدى الكاتب في المتشائل كفاءة واضحة في مقاربة "تناقضات الواقع الفلسطيني الذي بدا، معه هزيمة حزيران خاصة، مثخنا بالمفارقات على أكثر من مستوى"[24] ولذلك "يحتفظ ايميل بوحدة المكان والزمان ظاهريا ويضرب الواقع المصادر الوحدة فيظهر شرخها عاريا ... شيء ما في زمن الاحتلال يهرب من الذاكرة ويؤرّق القلب ويهزّ ذات الفلسطيني عميقا"[25].
ويرتدّ السارد بحكاياته في المتشائل إلى أحداث تسكن في الذاكرة القومية محدّدا أزمنتها بطريقة توثيقية، وكأنه بذلك يقاوم النسيان، وايميل في أغلب أدبه خاصة منه المتشائل، يبدأ بذاكرة تناهض النسيان، ولا يصد النسيان إلا من احتفظ بالذاكرة، وكما للذاكرة مسالكها النّيرة، فإن للنسيان دروبا تحفّها الظلال[26].
ومن التحديدات الزمنية الدقيقة المرتبطة بتاريخ المكان نذكر "ثم عاد الصليبيون فحاصروا عكا مدة سنتين كاملتين، من آب 1189 حتى تموز 1191"[27]، ولا نجد مثل هذه التحديدات الزمنية الدقيقة التاريخية التوثيقية في روايتيّ "الصبار" و"عباد الشمس" لكننا نجد إشارات تدل على الآخر الذي يعمل على تذييت الزمن والتحكم في زمن غيره، بحيث يتحوّل الزمن بالنسبة للأنا الفلسطيني إلى آخر يثير في غيريّته المعقدة رهابا وقلقا.
وبين زمن قبل الاحتلال وبعده، يصبح الزمن الحاضر آخرا، فلنتأمل ذلك مع هذا المقطع من الرواية: "البهو الذي كان محاطا بأصص الياسمين والريحان أصبح مرتعا للجراذين والبزاق، والكوات الزجاجية التي تزين السقف بشعاع فضائي أين منها قناديل الجنة، أضحت الآن مزارع أعشاب الرطوبة وخيوط العنكبوت، وجحافل هوام لا تنفك تذكر بسمات الوضع الحاضر"[28]، فقد عاث الآخر الإسرائيلي فسادا في مكان الأنا الفلسطيني ونفث من غيريّته في زمنه الحاضر الذي أصبح آخرا كريها إذا قورن بالزمن الماضي بما فيه من جمال حميمية.
وقد ابتعد زمن الاحتلال عما ألفه الأنا، فقد ألفته واكتسب آخرية، بحيث يصبح الزمن الحاضر بالنسبة للأنا الفلسطيني مساويا للآخر المحتل "ماذا فعل بنا الزمن والاحتلال؟"[29].
وهذا ما يجعل شخصيات الروايات الفلسطينية تقيم المقارنات المثيرة للشجن بين زمن ماض كان لها وحاضر صار لغيرها و"نلاحظ في الذات الفلسطينية ارتدادها المستمر إلى الماضي في تداعيات جميلة، تمجّد الأمس الذي انطوى على المجد والعزّة، وتندب واقعا أضحى التنائي عنه حلما، وقصور الحلم عن المستقبل يعيده إلى الماضي"[30].
وكان المتشائل يرجع إلى الماضي صانعا زمنه الذاتي في مستوى الحكاية الأول والثاني "وتصدر عن المستويين شخصية سعيد المتعالق زمنها مع الزمن الصهيوني في مستوى معين، والحاملة لزمنها الخاص المرتد بعيدا إلى الوراء في مستوى آخر"[31]. والكاتب في المتشائل "ينفذ إلى جوهر العلاقة بين المستعمر والمستعمر متخذا من الحاضر بؤرة ذهبية تعيد كتابة الحكاية في شكل رواية، أوخالقا رواية من تظافر الحكايات المنهدمة"[32].
وقد فتحت رواية المتشائل نصّها على الذاكرة التاريخية والقومية بصورة أصبح المتشائل معها نموذجا استعاريا لا للوضع الفلسطيني بل للوضع العربي ككل، ونمطا لا للإنسان الفلسطيني وحده وإنما للإنسان العربي الذي استحكمت من حوله حلقات الزمن الرديء. "ويقدم ايميل في تجريده الفني، وهو تجريد محدّد، عملا أدبيا يقدّم الواقع وأسئلته، أو يقدم واقعين، إن صح القول: أولهما يحيي المأساة ومسارها، وثانيهما يسأل المأساة ويسائلها"[33].
ويستظهر اليومي المعيش في تفاصيله والتفاصيل اليومية تظهر الأمس والغد وما بينهما، وتخبر عن ضحية تواجه جلادها وتظل ضحية. وتبقى الذات الفلسطينية تعلق ما لحقها من سوء بسبب الآخر المحتل على مشجب الزمن، وتطبع أي تاريخ متصل بالآخر بطابع الآخرية وتحمله مسؤولية ما أصابها من الآخر الفعلي كما نجد ذلك في "عباد الشمس": "حزيران أتانا بجرافات لها أشداق جهنمية تلتهم الأرض والصخر والشجر والبشر"[34].
ويكون للزمن النفسي سلطة تفوق الزمن الفعلي وثقلا يكون أكثر وطأة منه حينما يتصل الأمر بزمن الصدام مع الآخر "سنو الهزيمة ليست كسني النصر، سنة الهزيمة بمئة"[35]، ذلك أن كل أمة من الأمم، وكل فرد من الأفراد له منظوره الزمني الخاص.
وتصيب شخصيات "عباد الشمس" خاصة النسائية منها حالة رهاب من الزمن، فهي تشعر بسرعته، وتخاف منها، وتتساوى في هذه الحالة الشخصية المثقفة مع الشعبية، فرفيف الصحفية تقول: "أحس بالشيخوخة منذ الآن، على أبواب الثلاثين وما زلت ألهث، سيسبقني القطار وما زلت ألهث، وأصبح امرأة بشيب وتجاعيد"[36].
فالزمن يبدو في نظر هذه الشخصيات مضاعف الآخرية، فهي تخافه، وتعاديه بدل التعايش والتصالح معه، ويقترن رهاب الزمن عند الشخصيات النسائية بالخوف من الشيخوخة المبكرة والمستقبل المجهول والوحدة المنتظرة، فسعدية مثلا تذكر نوار بسلطة الزمن "أنت اليوم عمرك 25 وفي عز شبابك، لكن بالنسبة لنا إحنا النسوان، السنة الجاية غير عن الرايحة"[37].
فإذا كان الزمن عدو المرأة في المكان الحر الآمن، فإن الزمن يكون عدوا لدودا لها في المكان المحتل المغتصب، فذلك التأثير السلبي في الشخصيات يكون مضاعفا في ظل الآخر، ويصير الزمن مساويا للآخر المحتل.
وفي ظروف اغتصاب المكان وصهينة الزمن واستلاب الهوية وعبرنة اللغة، نجد الكاتب الفلسطيني قد اختار لغة خاصة مقاومة، هذا ما سنبينه في المبحث التالي.
[ينشر في العدد القادم، 96، حزيران/يونيو 2014].
= = = = =
الإحالات:
[2] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، منظمة التحرير الفلسطينية، دائرة الإعلام والثقافة، 1980، ص73.
[3] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية، ص 73-74.
[4] ايميل حبيبي، المصدر نفسه، ص93.
[5] المصدر نفسه، ص 93.
[6] سحر خليفة، الصبار، ط2، منشورات دار الأدب، بيروت 1999، ص94.
[7] فيصل دراج، نظرية الرواية، والرواية العربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1999، ص 226.
[8] فرحان اليحيى، ذاكرة المكان في أقاصيص نافذة على جدار قبرن مجلة الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب بدمشق، العدد 402، تشرين الأول 2004.
[9] فرحان اليحيى، المرجع نفسه.
[10] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية، ص160.
[11] فيصل دراج، نظرية الرواية والرواية العربية، ص 210.
[12] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية.. ص 198.
[13] ايميل حبيبي، افتتاحية مجلة مشارف، العدد الأول، حيفا، آب/أغسطس 1995.
[14] سحر خليفة، عباد الشمس، ط3، دار الآداب، بيروت 1987، ص222.
[15] محمد دكروب، ايميل حبيبي والمتشائل، من الحياة والسياسة إلى الرواية ومن الرواية إلى الساحة السياسية، مجلة الطريق، العدد الثالث، ص1996، ص161.
[16] محمد دكروب، المرجع نفسه، ص 163.
[17] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية، ص127.
[18] محمد حمزة، أبو جهاد، منشورات مجلة الوحدة، أبريل 1989، ص97.
[19] ايميل حبيبي، الوقائع الغريبة، ص190.
[20] سحر خليفة، عباد الشمس، ص217.
[21] ايميل حبيبي، الوقائع الغريبة، ص186.
[22] إلياس خوري، الأخطاء والأضداد، ص153.
[23] محمد دكروب، ايميل حبيبي والمتشائل، ص 161.
[24] نضال الصالح، نشيد الزيتون قضية الأرض في الرواية العربية الفلسطينية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق.
[25] فيصل دراج، الرواية الفلسطينية وسطوة المجرد، مجلة الفكر الديمقراطي، العدد 1989، 05، ص 137.
[26] المرجع نفسه، ص 137.
[27] ايميل حبيبي، الوقائع الغربية، ص76.
[28] سحر خليفة، عباد الشمس، ص155.
[29] المصدر نفسه، ص40.
[30] أمل زين الدين، جوزيف باسل، تطور الوعي في نماذج قصصية فلسطينية، دار الحداثة، بيروت 1980، ص202.
[31] فيصل دراج، نظرية الرواية، مرجع سابق، ص 208.
[32] المرجع نفسه، ص211.
[33] فيصل دراج، الرواية الفلسطينية وسطوة المجرد، ص138.
[34] سحر خليفة، عباد الشمس، ص 20.
[35] المصدر نفسه، ص 18.
[36] المصدر نفسه، ص 54-55.
[37] المصدر نفسه، ص 28.
◄ مليكة سعدي
▼ موضوعاتي