إبراهيم قاسم يوسف - لبنان
ضاع في زحمة المدن الكبرى
في موقف للعموم في شارع الحمرا [بيروت]، ركن سيارته في ظلّ شجرة قريبة من المدخل، وأشار على زوجته أن تتصفح مجلّتها وتنتظره ريثما يعود. قطع الشارع وانعطف قليلا إلى اليسار، ثم دخل بخطى مطمئنّة إلى محل البرادعي [1] لبيع الأحذية، أجود وأغلى أصناف الأحذية في المدينة. كان قد تلقّى دعوة لحضور زفاف، وعليه أن يبدو في المناسبة بعد أيام بكامل أناقته. وهذا المحل نال شهرة واسعة في صناعة الأحذية، وله فروع في مختلف مدن المحافظات. في العاصمة أيضا له فرع آخر؛ يقع في أول كورنيش المزرعة لناحية البحر، ليس بعيدا كثيرا من الموقف حيث ركن سيّارته.
تجوّل طويلا على سجاد تغرق فيه القدمان، أمام رفوف الأحذية الرجّالية المعروضة على قواعدها اللامعة بإتقان، وموسيقى تنبعث هادئة في أرجاء مكان مكيّف معتدل المناخ. تحفّ به بائعة المحل، صبيّة أنيقة تفوح من ثيابها رائحة عطرة، وهو يعاين بيقظة واهتمام ونفس مرتاحة، أصناف الأحذية وأشكالها وألوانها وأسعارها.
توقف طويلا أمام حذاء تقليديّ أسود؛ "كلاسيك". صناعة يدويّة خالصة. كعبه منخفض يريح الظهر، واستدارة مقدمته الواسعة جميلة الشكل ومريحة لأصابع القدمين، وخياطة نعله اعتمدت القطب المخفيّة. حذاء أنيق بكل التفاصيل؛ ومتين لا تبليه سنوات قليلة. امتدحته البائعة التي تواكبه منذ وصوله، واقتنع أنّه يليق ببدلته الرماديّة التي اشتراها منذ أيام لمناسبة الفرح. أما صناعته فمن جلد "الشّڤرو" الإيطالي كما قالت، أجمل وأطرى الجلود وأكثرها مرونة وأناقة في صناعة الأحذية والمحافظ والأحزمة، ومختلف الحاجيات الجلدية الأخرى.
كان كلما تقدّم إلى رف جديد، سرعان ما يعود ليقارن ما رآه بالحذاء الأسود الكلاسيك. وقف للمرة الأخيرة يقلّبه بين يديه ويتأمله بدهشة الرجل الأنيق. لكنّ سعره كان الأغلى ويتجاوز نصف راتبه في الشهر. مع هذا فقد طلب من البائعة مقياس قدمه ليجرّبه، وردّت عليه تسأله أيّ اللونين يريد: الأسود "الكلاسيك" أم البصليّ المبتكر؟ وأجابها أنه يفضّل الأسود لبدلته الرمادية الجديدة.
أحضرت له المقياس المطلوب، وركعت قبالته وقد قلاها البحر كفرّوج محمّر أو "كطلميّة"[2] ساخنة خرجت للتوّ من التّنور. تكشف تنورتها "الميكرو" عن ساقين ناعمتين كالأبنوس، تثيران رغبة إبليس في النفوس التّقيّة، وهو يستريح باسترخاء على مقعد جلديّ وثير. فلم يحفل كثيرا بالذي رآه من الفتنة والإغراء، فهمّه كان محصورا في الحذاء.
هكذا ساعدته البائعة على انتعال الحذاء، ثم راح يجوب الصالة يتأمله في المرايا المنتشرة في زوايا المكان؛ مزهوا بما اختار. لاطف البائعة وحاول استدراجها ليساومها في سعر الحذاء، لكنها لم تبد استجابة لما يشاء وحسمت معه النقاش في التزام التسعيرة المعلنة، فأسعار المحل ثابتة لا تتغير ولا تقبل المساومة إلا في نهايات المواسم. إن شاء فلينتظر موعد" الأوكازيون" في نهاية الصيف، وهذه خلاصة الكلام. لكنّ العرس بات في مدى أيام، وعليه مهما غلا الثمن أن يحصل على الحذاء.
هكذا قبل الرجل على مضض بالسعر المرهق لميزانيّة الشهر. لكنّه طلب من البائعة أن تأذن له بإحدى فردتيّ الحذاء، ليريها لزوجته كي تشاركه الرأي بما اختار؛ معلّلا نفسه بجزء من راتب زوجته يساعده في تسديد ثمن الحذاء. زوجته التي تنتظره في السيارة، بسبب عجزها عن الوقوف أو المشي لوقت طويل، بعد عملية جراحيّة خضعت لها في عمودها الفقري منذ وقت قريب. أدارت البائعة الأمر في رأسها بسرعة البرق. فما عساه يفعل بفردة حذاء واحدة إذا ساءت نياته؟ ثم أبدت عن ترحيبها بالفكرة وأجابته إلى ما يرغب.
تردّد الرجل قليلا قبل أن يتجاوز باب المحل في الاتجاه إلى موقف السيارات، حينما لمعت في رأسه فكرة أخرى. لم لا يستأنس برأي زوجته في اللونين معا، فاللون البصليّ الفاتح جميل أيضا، ويليق بسترته "الكشمير" بلون حبّ الزيتون الداكن الأخضر. هو يعرف سلفا أن زوجته ستعترض على سعر الحذاء الواحد، فكيف بالحذاءين معا؟ لكن ما دام القرار لم يتّخذ فلم لا يجرب؟ ليس في الأمر ما يخسره.
هكذا عاد الرجل إلى الداخل يعلن عن رغبته الجديدة أمام البائعة، فزوجته ستتمكن من المشاركة والمفاضلة بين اللونين معا كما قال. وطلب إلى البائعة أن تحضر له من جديد، فردة الحذاء ذات اللون البصليّ المبتكر. حسبتها البائعة في ذهنها بدقة للمرة ألثانية، فوجدت ما طلبه الرجل منطقيا ومنصفا لا يثير الريبة ولا يدعو إلى القلق. ما دامت الفردتان مختلفتين في اللون ولا تصلحان إلاّ لذات القدم. هكذا استجابت البائعة لرغبته مرّة أخرى.
لكن الرجل لم يبدّد وقته في معاينة فردتيّ الحذاءين، ولا استأنس برأي زوحته في البصلي ولا الأسود كما أوحى لعاملة المحل، بل خفّ إلى سيارته وطار بها مع زوجته، فعبر بعض الشوارع في وقت يخلو عادة من المارة وزحمة السير، وكاد من فرط سرعته يدهس عجوزا تتوكأ على عصاها، وتجتاز الطريق من رصيف إلى رصيف، ووصل بعد عشر دقائق إلى تقاطع الروشة-المنارة في أول كورنيش المزرعة لناحية البحر.
ركن سيارته ليس بعيدا من المكان، وقبل أن يغادرها اشتكت له زوجته شدّة العطش؛ فوعدها بكوب من العصير في طريق العودة إلى البيت، ثم نصحها أن تتسلى بمطالعة المجلة أو تستمع إلى الراديو ريثما يعود. قطع المسافة القصيرة إلى محلّ البرادعي في الفرع الثاني على عجل، فاستقبلته وحفّت به موظفة أنيقة أخرى؛ ترتدي تنورة قصيرة تفوح من ثيابها رائحة عطرة، وتتكلم مع الزبائن لغة الهمس بصوت مغنّج مبحوح.
مثّل أمام البائعة ذات الدور الذي لعبه في المحلّ الأول، واختار هذه المرة للقدم الأخرى الفردتين المكملتين للحذاءين من نفس المقياس واللونين معا. ثم طلب إليها ما طلبه من البائعة في الفرع الأول: أن يشرك زوجته رأيها بما اختار. زوجته التي تنتظره في السيارة لعجزها عن المشي والوقوف طويلا، بسبب عملية جراحية أجريت لها منذ عهد قريب. والبائعة الجديدة استجابت لطلبه دون ما بحث ولا تدقيق.
هذه المرة خفّ مع زوجته عائدا إلى مسكنه في ضواحي المدينة بحذاءين أنيقين. الحذاء الأسود الكلاسيك للبدلة الرسميّة الرمادية يرتديها ليلة الفرح المنتظر، والبصليّ المبتكر للسّترة الكشمير بلون حبّ الزيتون الدّاكن الأخضر، يرتديها ليلة رأس السنة الجديدة.
مازح زوجته طوال الطريق سعيدا منبسط الأسارير، لاعتزازه بنفسه ونشوته البالغة ونجاحه، في خططه البارعة التي لا تخيب، واشترى لها من أطراف المدينة احتفاء بالمناسبة، كوبا كبيرا من البوظة فيه من طعم الفواكه ما يحلو ويطيب. راحت الزوجة تلتهمم البوظة، بينما راح يدندن لحنا مستهترا جذلا، يتحدث عن فظاظة الهواء يعبث بثوب صبيّة ويربكها أمام عيون المارّة في الطريق.
أفاق من نومه في اليوم التالي منشرح النفس مطمئن الخاطر، واثقا من قيافته في ليلة الفرح المنتظر ورأس السنة الجديدة،. ثمّ قصّ شعره المسترسل الطويل وأرسل شاربيه، وضاع في زحمة المدن الكبرى التي يقطنها الملايين.
= = = =
[1] لا وجود لمحل باسم البرادعي.
[2] الطّلميّة: نوع من خبز الصاج أو التنور (سريانية).
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي
12 مشاركة منتدى
ضاع في زحمة المدن الكبرى, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 26 نيسان (أبريل) 2014 - 12:50 1
أستاذ إبراهيم تحية طيبة قصتك الظريفة تلقي الضوء على تقنية الاحتيال ولا أدري لماذا ذكرتني ببعض شخصيات المقامات وأساليب ((الكدية))وهي الشحاذة أمثال الذي يضيعون في زحمةالمدن الكبرى كثيرون ولكن الأخطر منهم الذين يسرقون الفرح من عيوننا وقلوبنا وهم في دائرة الضوء .سلمت ودمت بخير
ضاع في زحمة المدن الكبرى, الهام | 26 نيسان (أبريل) 2014 - 19:41 2
السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته. بعد انقطاع عن التعليق ها أنذا أجد نفسي من جديد استمتع بالاطلاع على ما تقدمه المجلة من جميل الفن و الادب و ما تحفل به من جديد الثقافة
و انني لأجد المتعة ذاتها و التي افتقدتها طيلة هذه المدة من خلال قرائتي لروائع كتاباتك
تحياتي لك سيد ابراهيم قاسم
ضاع في زحمة المدن الكبرى, أشواق مليباري | 27 نيسان (أبريل) 2014 - 08:15 3
الأستاذ إبراهيم يوسف
بغض النظر عن ماحصل إن كان خطأ أو صوابا..فإن عينيّ تلتمعان إعجابا بالخطط المتقنة.
النص ممتع جدا، يشد الإنتباه ويفاجئ القارئ المسترخي في هدوء بنهاية سريعة وغير متوقعه.
شكرا جزيلا لك
تحيتي
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 نيسان (أبريل) 2014 - 15:07 4
السيدة إلهام
"ارجعي يا ألف ليلة نسمة العطر"
يشرفني ويسعدني حضورك من جديد
ستجدين بابي مشرعاً يرحب بقدومك حينما ترغبين.
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 نيسان (أبريل) 2014 - 15:08 5
هدى أبو غنيمة – الأردن
هذا ما يحدث ولو للضرورة
لكي تتوازن وتستقيم الأمور
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 29 نيسان (أبريل) 2014 - 07:43 6
أشواق مليباري – السعودية
لولا الملائكة والشياطين لتوقفت حركة الزمن
ولمعة العين ليست غباءً يا صديقتي
بل الفطنة في الفكر
وفي لمعة العين.
شكراُ لكِ - كوني دائما بخير.
ضاع في زحمة المدن الكبرى, هدى الكناني من العراق | 29 نيسان (أبريل) 2014 - 21:35 7
ابراهيم يوسف من لبنان
ياسيدي
مع كل نص تخطه اناملك، تسحبنا حروفه وضجيج كلماته الى قلب الحدث لنعيشه أو لنشارك به ولو كمتفرجين .
رايتني فاغرة فاهي امام ذلك الاصرار والعشق للظهور بكامل اناقته وتلك الطريقة المبتكرة التي فاقت حبه لأغراء حواء .
ضاع في المدن الكبرى ، إذا لم يكررها.
سؤالي هل العملية الكبرى التي اجرتها زوجته قضت على راتبه؟ حينها سيكون قد انصفها بالآيس الكريم الذي التهمته، وإن لم يكن من راتبه فياللمكر والبخل !
امتعتنا وفاجئتنا بلون مغاير لنصوصك المتجددة دوما، سلمت أناملك
هدى الكناني من العراق
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إيمان يونس - مصر | 30 نيسان (أبريل) 2014 - 06:59 8
أ/ إبراهيم ...لك أسلوب رشيق ومحكم والقصة على بساطة فكرتها هى تعبر عن جزء من الكل الذى يحدث بزحمة المدن الكبرى ...تحياتى وتقديرى
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 30 نيسان (أبريل) 2014 - 14:27 9
إيمان يونس
القصة يا سيدتي في جانب
والدين أو الفلسفة في جانب آخر
والعلم والتاريخ والشعر وكل الفنون الأخرى
في جوانب مختلفة
أنت محقة يا سيدتي..؟ حينما تقرنين القصة ببساطة الفكرة.
كل الشكر لك
ضاع في زحمة المدن الكبرى, مريم-القدس | 2 أيار (مايو) 2014 - 12:31 10
ضاع في زحمة المدن الكبرى : استطاع أن يفاجئني ، والمفاجأة في القصص القصيرة هي العنصر الأهم الذي يتوقف عليه بناء الموضوع ونجاحه . عدا عن الكلمة الواضحة المقولبة المنحوتة بعناية لتأخذ مكانها في النص دو أن تتجاوز أو تتعدى على غيرها.
يجري سياق الحوادث بشكل منظم ، بعيدا عن الالتباس فلم يقع النقل في الفوضى أو الفراغ ، وحينما تبدأ بقراءة النص؟ تجد نفسك مندفعا لمعرفة التفاصيل الباقية ، ومعجبا بشخصية حرامي الأحذية الأنيق لكأنه ممثل يلعب دورا في غاية الإتقان .
ضاع في زحمة المدن الكبرى, مهند فوده-مصر | 3 أيار (مايو) 2014 - 14:20 11
اجمل ما في قصصك استاذنا الكبير هو الوصف الدقيق .. وخاصة الاماكن .. تجعلنا نرى ما توصفه لنا باعيننا ..وكاننا نراها دون ان نزورها قط .. اعتقد ان البطل لم يكن سارقا مع سبق الاصرار.. فالفكرة جاءت له وليدة اللحظة .. ولكنها لا تشفع له .. ورغم إعجابي بدهائه ..
سئلت نفسي هل هناك محل اسمه البرادعي بالفعل؟ .. ووجدت تجيب على سؤالي ذاك في نهاية نصك .. دام قلمك لنا استاذ ابراهيم
ضاع في زحمة المدن الكبرى, إبراهيم يوسف - لبنان | 4 أيار (مايو) 2014 - 08:21 12
مهند فوده – مصر
أنا ممنون لك يا صديقي وأنت تدعوني بالكبير. هذا لطف منك ولياقة ومن سجايا الاخوة المصريين.. علاوة عن محبتهم وخفة ظلهم وسرعة خاطرهم. لعل الأناقة وحب الظهور والحرص على المال.. هو ما دفعه إلى هذه البدعة التي لم يخطط لها كما تقول، وهي استهانة بالأمانة بلا ريب.
لا أعتقد وفي حدود معرفتي محلا باسم البرادعي. ربما كانت تسمية مشابهة لمحل آخر أطلق على نفسه تسمية
أجنبية بحتة Le sellier وتعني السروجي أو البرادعي.
شكرا على لطفك وحضورك الكريم