عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 8: 84-95 » العدد 95: 2014/05 » زهير بن أبي سُلمى: شاعر الحكمة والسلام

د. يسري عبد الغني عبد الله - مصر

زهير بن أبي سُلمى: شاعر الحكمة والسلام


زُهير بن أبي سُلمى من أعظم شعراء العصر الجاهلي، يقدمه كثير من مؤرخي الأدب العربي، هو وامرأ القيس والنابغة الذبياني، على سائر الشعراء الجاهليين.

وقد جعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، شاعر الشعراء، وعلل لذلك بأنه لا يتتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول ما لا يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما يكون فيه.

وسأل الخليفة معاوية بن أبي سفيان الأحنف بن قيس عن أشعر الشعراء، فقال: زُهير، قال: وكيف؟ قال: ألقى على المادحين فضول الكلام (أي أخذ لباب المديح، وترك للشعراء الآخرين نفايات الكلام).

وقال محمد بن سلام الجمحي صاحب كتاب (طبقات فحول الشعراء): من قدم زُهيرا احتج بأنه كان أحسنهم شعرا، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وأكثرهم أمثالا في شعره.

هو زهير بن ربيعة، من بني مزينة من مضر، كني أبوه بابنته سُلْمى، فقيل له: "أبو سُلْمى ربيعة". كما قيل زهير بن أبي سُلْمى. ترك والد زهير، ونفر من أسرته، قومهم بني مزينة، ونزلوا مكانا بنجد من أرض غطفان فأقاموا فيه. وفي غطفان ولد شاعرنا زُهير، وترعرع بين أقارب أبيه، وتربى على يد خاله بشامة بن الغدير، وكان سيدا غنيا، وشاعرا معروفا، ورجلا مقعدا، عرف في قومه بالحكمة وأصالة الرأي، ولم يكن لبشامة ولد فأحب زُهيرا، وعني به، ووجد فيه بديلا من الابن الذي حرمه.

وظل زُهير في رعاية بشامة، يتأدب على يده، ويفيد من خبرته، وتجربته، وشعره، حتى إذا حضر الموت بشامة جعل يقسم المال في أهل بيته، بينه وبين بني إخوته، فأتاه زُهير، فقال: يا خالاه! لو قسمت لي من مالك؟ فقال: والله يا بن أختي لقد قسمت لك أفضل من ذلك وأجزله، فقال: وما هو؟ قال: شعري ورثتنيه، ثم أعطاه من ماله.

وكان الشاعر أوس بن حجر، وهو من الشعراء المعدودين في العصر الجاهلي زوجا لأم زُهير، فجمعت الرابطة بينهما، ولزم زُهير أوسا، يحفظ شعره، ويرويه عنه. وبدأ نجم شاعرنا يلمع، وتفتحت قريحته عن لون من الشعر الجيد، استرعى أنظار غطفان، فقدرته لشعره، كما قدرت ما في طبيعته من جد، ووقار، وميل للخير، وسمو في الأخلاق، ونبل في التعامل مع الناس.

ومرت به حرب داحس والغبراء وعاش في أحداثها، ورأى ما تركت من صور البؤس في عبس وفي ذبيان، وما خلفت من فقر، ويتم، فراح يتلمس سبيل الخلاص من ويلاتها، وأرزائها، ووجد ذلك على يد هرم بن سنان، والحارس بن عوف، اللذين تداركا القبيلتين، وحملا عنهما ديات القتلى، وأعادا إليهما نعمة السلام، فهزه هذا الصنع الكريم، فأنشأ في مدحهما معلقته التي سنتحدث عنها في سطورنا القادمة، ثم أفاض في مدح هرم الذي غمره بالمال، وأجزل له العطاء. وعمر زُهير طويلا حتى قيل: إنه نيف على المائة، ومات قبيل الإسلام.

نستطيع في ضوء ما تقدم عن نشأة زُهير وحياته أن نتعرف شيئا من العوامل التي هيأت له سبل الإجادة في الشعر، وهي متعددة، فقد نشأ زُهير في بيت عريق من الشعر، حتى قال مؤرخو الأدب إنه لم يتصل الشعر في أهل بيت كما اتصل في بيت زُهير، فأبوه ربيعة، وأختاه سلمى والخنساء، و خاله بشامة، وابناه كعب وبُجير، وجميعهم من الشعراء المشهود لهم.

وتربى زُهير على يد بشامة، وتأثر به، ولعل شيئا من ميله إلى الأناة، والدعة، والحكمة، والهدوء، يرجع إلى هذه التربية. وكان زُهير راوية لأوس بن حجر، وأوس من الشعراء الذين عرفوا بجودة الوصف والتشبيه، والبراعة في تصوير بيئته، وربما كانت براعة شاعرنا راجعة إلى هذه الصلة.

وأكسبته حياته الطويلة خبرة، وتجربة ومعرفة بطبائع الناس، وقدرة على استخلاص الحقائق، كما كان لحياته في أخريات العصر الجاهلي، وهي فترة حية بما شاع فيها من ثقافة أدبية أثرت في إبداعه الفني، فقد انتفع بمحاولات من سبقوه في الأدب، وحاول أن يخلص شعره من كثير من العثرات التي كان يقع فيها غيره، كما تأثر بالثقافة الدينية التي شاعت على عهده، وجاء شعره ينم عن ذلك بما فيه من حكمة، ودعوة إلى السلام والخير.

وزُهير من الشعراء الذين دفعتهم أناتهم، ورويتهم، وحرصهم على الإجادة، إلى التأني في قول الشعر، وتنقيحه، وتخليصه مما قد يغض من جماله، حتى روي أنه كان يقضي في نظم القصيدة أربعة أشهر كاملة، وينقحها في أربعة، ثم يعرضها على أخصائه في أربعة، ولهذا تسمى مطولاته بالحوليات، وقد يكون في هذه الرواية شيء من المبالغة، ولكنها من غير شك، تدلنا على مبلغ عناية زُهير بالتأنق والإجادة في شعره.

كان لنشأة زُهير وبيئته، أثرها في شخصيته وشعره، فقد أنشأت منه رجلا متزنا، إيجابيا، مشاركا في أحداث مجتمعه، يسعى إلى أمنه وخيره وسلامه، يلاحظ، فيتأمل، ويفكر فيتروى، وتمر به الأحداث فيحاول أن يستخلص وجه العبرة والحكمة منها. كما جعلته ميالا إلى المسالمة والوئام، عازفا عن الشر والحرب، يشعر بشخصيته، ويحب أن يأخذ الناس برأيه في الخلق والاجتماع، وعن هذه الشخصية كان يصدر في شعره.

سميت بعض القصائد الطويلة الخالدة من تراث العصر الجاهلي المعلقات، لأنها، فيما يرويه المؤرخون، كانت تكتب وتعلق على أستار الكعبة، أو لأنها كانت تعلق بالقلوب والعقول لجودتها، ومن هذه المعلقات معلقة زهير بن أبي سُلمى المزني، والتي بدأها بقوله:

أمن أم أوفى دمنة لم تكــلم = = = بحومانة الدراج فالمتثـلم؟

وقد قالها زهير في مدح رجلين من سادات العرب، هما: هرم بن سنان، والحارث بن عوف، اللذان قاما بالصلح بين قبيلتي عبس وذبيان، بعد حرب داحس والغبراء التي استمرت بينهما زمنا طويلا، وخلفت وراءها كثيرا من صور البؤس واليتم والدمار.

وسبب هذه الحرب أنّ قيسا بن زهير سيد بني عبس كان له جواد اسمه (داحس)، وأنّ حمل بن بدر من ذبيان كانت له فرس تسمى (الغبراء)، وكان من عادة العرب في الجاهلية أنهم يعقدون للسباق حلقات يتراهنون فيها على الخيول الكريمة. وحدث أن تراهن قيس بن زهير، وحمل بن بدر على داحس والغبراء، وجاء وقت السباق، وخاف حمل أن يسبق داحس فرسه، فلجأ إلى حيلة دبرها مع بعض فتيان قومه، إذ أمرهم أن يكمنوا في طريق داحس، ويضربوا وجهه إذا جاء سابقا، وفعل الفتيان ما أمروا به، فسبقت الغبراء، وشاع الخبر، وانكشفت الحيلة، وعرفها قيس بن زهير، فغضب وغضبت لها عبس كلها، واتسعت هوة الخلاف بين القبيلتين حتى انتهت إلى هذه الحرب الطاحنة التي ظلت، فيما يقال، أربعين عاما، حتى تقدم هذان الرجلان، وهما من قبيلة ذبيان، فأصلحا بين القبيلتين، واحتملا ديات القتلى، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير.

وكان ذلك منهما صنعا كريما، هز زهير بن أبى سُلمى شاعر الحكمة والسلام، فأنشأ فيهما معلقته التي نسوق لك فيما يلي بعض أبياتها.

يقول زهير بن أبي سلمى:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم = = = بحومانة الدراج فالمتثلـــم؟

ودار لها بالرقمتين، كأنها = = = مراجيع وشم في نواشر معصم

بها العين والآرام يمشين خلفة = = = وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

وقفت بها من بعد عشرين حجة = = = فلأيا عرفت الدار بعد توهــم

فلما عرفت الدار قلت لربعها = = = ألا عم صباحا أيها الربع واسلم

بدأ زهير بن أبي سلمى معلقته شاردا حزينا على ما بقى من آثار ديار أم أوفى (زوجته الأولى) بالموضعين اللذين ذكرهما الشاعر (حومانة الدراج؛ والمتثلم) ويقال إن أحدهما قرب مدينة البصرة، والآخر قرب المدينة. وكان لأم أوفى منزلان بهما تتنقل بينهما، وقد اسودت هذه البقايا، وبدت صامتة لا ترد لسائل جوابا.

ودار زهير ببصره فيها، وقد عبثت بها الأيام، فلم تُبق منها إلا آثارا ضئيلة، كأنها سطور الوشم التي كانت تتزين النساء بدقه على أيديهن.

ورآها، بعد أن كانت عامرة بأهلها، وقد أصبحت مسرحا للبقر الوحشي وأسراب الظباء. هذه تقبل، وتلك تذهب، وأولادها ينهضن من مراقدهن هنا وهناك.

وكانت وقفته بها بعد فترة طويلة من الزمن، فحاول أن يتعرفها، واقتضاه ذلك أن يتأمل فيطيل التأمل، حتى عرفها بعد جهد ومعاناة؛ فلما عرفها عاودته ذكريات أم أوفى وأيامها الماضية، فحيا الدار، ودعا لها أن تسلم على أحداث الدهر، وتقلبات الزمان.

وإذا رجعنا إلى هذه المقطوعة من معلقة زهير وجدنا أن الشاعر قد أتى لنا في البيت الأول بأسلوب استفهامي يحمل معنى الدهشة والتحسر لهذه الدمنة الصامتة التي لا ترد جوابا. ونرى في البيت الثاني أنه أتى بتشبيه تمثيلِ للدار التي عبثت بها الرياح والأمطار، ولعبت بها يد الزمان، فلم تُبق فيها إلا آثارا من خطوط دقيقة، متوالية، تستقيم و تتعرج كالوشم في معاصم النساء.

أما البيت الثالث فيعرض منظرا من مناظر البادية، حيث نرى فيه البقر والظباء في حركة طبيعية حية، كأنما يحسها القارئ، ويراها بعينه. والبيت الأخير يصور الشاعر وقد رجع إلى نفسه، وعرف الدار بعد حيرة وتوهم، فغمرت نفسه الذكريات، وعاوده الحنين لأيامه الخوالي.

ونحب أن نشير هنا إلى أن زُهير وصف في شعره الأطلال، وارتحال الأحبة عنها، والناقة، والجواد، والصيد، والحرب و مآسيها، وغير ذلك مما أثار حسه وخاطره. وخير ما ساعده على الإجادة في الوصف ملاحظاته الواعية، ورقة حسه، وميله إلى التأمل فيما تقع عليه عينه، كما أن أهم ما يميز وصف زُهير التصوير الذي يجسم المعقول كأنه يحس.

لقد كان زُهير يتميز بالصدق العاطفي، وبراعة التصوير الحسي، وتحري الإصابة في الفكرة، ويظهر بشعره أثر الصقل، والصنعة الممعنة في التأني والتألق، كما تشيع فيه الحكم والأمثال، والمبادئ التي يمكن أن يعد بها زُهير شاعرا ذا مذهب اجتماعي.

= = = = =

المراجع

= أبو هلال العسكري، الصناعتين، تحقيق البجاوي و أبو الفضل إبراهيم، نشرة البابي الحلبي، القاهرة، 1952

= أحمد بن عبد ربه، العقد الفريد، الطبعة الأولى، القاهرة، 1331 هـ، وكذلك طبعة بولاق المصرية 1293 هـ

= ابن رشيق القيرواني، العمدة، الطبعة الأولى، القاهرة، 1952 ـ وكذلك طبعة محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، 1955

= ابن قتيبة، عيون الأخبار، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1930

= أبو حاتم السجستاني، المعمرون والوصايا، طبعة ليدن الهولندية، 1988 م

= أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني، طبعة ساسي وطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1940

= شكري الألوسي، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، القاهرة، 1332 هـ

= كارل نللنيو، تاريخ الآداب العربية، دار المعارف، القاهرة، 1940.

= جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، دار الهلال، القاهرة، 1957

= جورج غريب، الجاهلية، مطبعة الغريب، بيروت، 1970

= الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني، شرح المعلقات السبع، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده، القاهرة،1968

= خوري، زُهير بن أبي سُلمى، بيروت، 1962

= عبد الحميد الجندي، زُهير بن أبي سُلمى، طبعة وزارة الثقافة المصرية، القاهرة، بلا تاريخ

= علي الجندي، تاريخ الأدب الجاهلي، بيروت، 1966

= شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي في العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، 1960

= عمر فروخ، تاريخ الجاهلية، بيروت، 1964

= جواد علي، تاريخ العرب قبل الإسلام، المجمع العلمي العراقي، بغداد، بدون تاريخ

= زُهير بن أبي سُلمى، ديوان زُهير، تحقيق أحمد طلعت، بيروت، 1968

= كعب بن زُهير، ديوان كعب، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1950

= محمد بن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1955

D 25 نيسان (أبريل) 2014     A يسري عبد الله     C 0 تعليقات