الطيب عطاوي – الجزائر
القراءة ودورها في العملية التربوية
من المسلم به أن التعلم عملية اكتساب يتلقاها الطفل منذ الصغر، بدءاً من الوسط العائلي ومروراً بالمدرسة إلى أن تكتمل لديه بصورة واضحة في مرحلة من مراحل نموه.
وإذا سلمنا بأن اللغة تدخل في مختلف العمليات التربوية فذلك يعني أننا نتحدث عن جانبين؛ جانب نطقي وجانب سمعي. وعليه فعملية التعلم لابد لها من طرفين مهمين هما: المعلم والمتعلم.
ولا بد في العملية التربوية من التركيز على المتعلم وما يحتاج إليه؛ ففي هذه المرحلة من مراحل التعلم يكون منقوصاً من عدة أشياء في الجانب اللغوي، لذلك لزاماً على المعلم أن يراعي ذلك ويهتم بكيفية لفظ الحروف الصحيحة والكلمات والعبارات؛ لأن العلاقة بين الألفاظ والبُـنى ومدلولاتها تجعل المتعلم يسرع في التحكم في هذه اللغة بكيفية عجيبة.
وكل هذا مرتبط بفعل القراءة؛ إذ هو المعول عليه أثناء عملية التعلم؛ خاصة في المدرسة بحيث لا يمكن للتلميذ أن يتعلم أية مادة دون إلمامه بقواعد القراءة في بدايتها.
واللسانيات التطبيقية قد اعتنت بهذا الجانب باعتباره يخضع لطرفين اثنين تتوسطهما الأداة:
المتكلم ------> الأداة -----> السامع
إن القراءة هي المفتاح الفاتح لأبواب المعرفة؛ فالحروف والكلمات والعبارات والجمل والفقرات والنصوص ذات علاقة بنـُظـُم الكلام، ولا يمكن لها الخروج عن الإطار العام للغة باعتبار هذه الأخيرة، كما نعتها دي سوسير، المخزون الاجتماعي للأمة.
أولا: القراءة ودورها في الوسط المدرسي
=أ= ماهيتها
إن القراءة عمل يقوم به الفرد لكشف ما في خبايا الخطاب المكتوب من رموز وأشكال لفهم فحواه، فهي بهذا "فعل يتطلب جهداً ذهنياً ندركه بصعوبة، يجب أن نلاحظ بواسطة النظر أشكالاً مكتوبة ونستوعبها ثم نحوِّل هذه المرئيات إلى حركات آلية بمساعدة الأعضاء التي نستعين بها للكلام"(1).
إذن القراءة اليوم قد أخذت مجالا واسعاً خارج المدرسة في شتى العلوم فإن الفضل كل الفضل يرجع إلى المؤسسات التعليمية؛ حيث ينطلق الطفل منها كمرحلة أولية (المرحلة الابتدائية).
إذن كيف يتعلم الطفل القراءة؟
=ب= شروط تعلمها:
للقراءة شروط يجب أن تتحقق كي يجد الفعل القرائي مبتغاه لدى المتعلم، وتتمثل في:
1= النضج العضوي: ويتمثل في سلامة أعضاء النطق؛ فعند نضجها يستطيع الطفل أن يميز بين الحروف والأصوات (سلامة البصر؛ سلامة السمع؛ سلامة النطق) لأن هذه الأعضاء تسهم بشكل كبير في تأدية هذا الفعل دوره المخوَّل له في عملية التبليغ والتواصل مع الآخرين.
2= الإدراك الحركي: ويتمثل في تتبع الحروف أثناء عملية القراءة، ويدخل فيها العين والأذن واللسان. يقول آلان (1868-1951): "أقول القراءة بالعينين. وهذا يعني أنه يجب أن نسعى أولا إلى القراءة السريعة، ثم نتجاوزها، لكن تلامذتنا يتلعثمون بقراءتهم، يحسنون الإنصات والتلاوة غيباً أكثر من القراءة"(2).
3= الإدراك اللغوي: ويتمثل في معرفة الطفل أن اللغة التي يقرأ بها ما هي إلا رموز (3) تنوب عن غيرها من الأصوات وتترجم إلى مفاهيم، وقد تكلم في هذا الأمر كثيراً دي سوسير (1857-1913) عندما وصف اللغة بأنها ذات وجهين لعملة واحدة: مفهوم (concept) وصورة سمعية (image acoustique). ويدخل في هذا الجانب مدى تخزين الطفل لعدد من المفردات، فكلما كان التخزين أكثر كانت عملية القراءة أسهل.
4= الإدراك العقلي: إن النضج العضوي في القراءة لا يكفي وحده؛ بل لابد من مستوى عقلي معين، لذلك فسن السادسة التي يدخل فيها الطفل إلى المدرسة تعتبر السن الأمثل في تعلم الفعل القرائي؛ على عكس ما يُروَّج له قبل هذه السن[*].
5= الجانب الاجتماعي: ويقصد به الوسط العائلي، فمن خلال مجموعة من الملاحظات التي أجريت تبيَّن أن العائلة التي لا يكون لدى أفرادها ميولا للمطالعة فإن أطفالهم يجدون صعوبة في تعلم القراءة عند دخولهم المدرسة؛ على عكس الآباء الذين يحبِّبون الفعل القرائي في منازلهم(4).
=ج= مراحلها:
إن فعل القراءة وما يتبعه من شروط، وقدرة على الفهم لا يسير هكذا عشوائياً في نفس القارئ؛ بل هناك سيرورة لمجموعة من المراحل تتوافق فيما بينها حتى تشكل دورة تواصلية بالنسبة لهذا الفعل؛ وتتمثل في ثلاث مراحل هي:
1= مرحلة التمثل: إن القارئ وهو في حجرة الدرس يكون في مجابهة أمام الموضوع؛ أي:
النص المقروء (الموضوع) -------> القارئ (الذات)
ومرحلة التمثل في هذه الحالة "تعني أن تتحرك الذات صوب الموضوع من خلال مطالب الذات وأغراضها، و خصائص الموضوع، بتحديد شكله الظاهر في الصفحات المكتوبة"(5).
وبعبارة أخرى ينبغي على القارئ أن يركز كل التركيز على البنية الظاهرة للنص المكتوب من حيث أربعة مظاهر(6): البنى الصرفية في الموضوع؛ تقسيم جمل الموضوع والوعي بحدود كل جملة؛ مراعاة علامات الترقيم في النص؛ مراعاة نظام الفقرات في النص.
2= مرحلة التلاؤم: في هذه المرحلة يربط القارئ بين شكل المقروء ودلالته في الذهن، فكل كلمة داخل النص تؤدي وظيفتين: (أ) التعريف بماهية الشيء: لكل لفظة معنى خاص بها؛ (ب) التعبير: هناك كلمات وألفاظ تحمل إلى جانب معناها الأصلي شحنة من المعاني الثانوية (7)؛ وعلى القارئ أن يكون على دراية بها وذلك انطلاقاً من سياق الكلام، إلا أن هذا المعنى المرتكز في ذهن القارئ قد يختلف من قارئ إلى آخر، فليس كل القرَّاء في مستوى واحد؛ لأن فيهم المتفوِّق، وفيهم المتوسط، كما فيهم الضعيف.
لذلك كثيراً ما نجد بعض القرَّاء في هذه المرحلة يعانون من عسر في القراءة، وهذه معضلة بقيت آثارها تابعة له منذ الطفولة؛ وإذا بقي على هذه الحال فإن الفعل القرائي يكون ناقصاً، وبالتالي ينعكس هذا النقص على عملية التبليغ بصفة عامة.
وقد أثبتت التجارب أن القارئ الذي يتحكم في جوانب القراءة يكون أكثر حظاً من غيره في فهم المقروء واستيعابه.
3= مرحلة التكيف والتوازن: وهي المرحلة الأخيرة من مراحل القراءة تأتي نتيجة تكامل المرحلتين السابقتين كمرحلة تقويم ومتابعة عن طريق دفع القارئ بالإجابة عن بعض مكنونات النص المقروء وذلك لمعرفة ما إذا حقق الفعل القرائي أهميته وأهدافه أم لا.
=د= طرق تعلمها:
إن المعلم في هذه المرحلة ينهج في تعليمه للقراءة عدة طرق، أحياناً تأتي ثمارها وأحيانا أخرى تكون ناقصة، وكل ذلك يتوقف على مدى اهتمام المعلم بهذا النشاط وخبرته الفنية، ومن بين هذه الطرق وأشهرها:
1= طريقة التسمية القديمة: وتتمثل في إدراج الأحرف العربية (28 حرفاً) في أول الكتاب أو على اللوح مجتمعة ومرتبة، ويقرأها التلميذ هكذا: أ؛ ب؛ ت ... (تـُقـرأ: ألف؛ باء؛ تاء ...).
غير أن هذه الطريقة فيها نوع من الصعوبة "لأن الولد رغم قلة إدراكه يعجب من هذا التناقض الغريب في التسمية، ويتساءل كيف يمكن أن تؤلف أحرف: واو؛ قاف؛ فاء، كلمة واحدة تدعى (وقف)"(8) وعلى الرغم من ذلك إلا أنها تسهـِّـل عملية الإملاء.
2= طريقة التسمية الحديثة: وهي تختلف عن السابقة كون الحرف يُنطق حسب الصوت الذي يحدثه مع الحركات الثلاثة (الفتحة، الضمة، الكسرة) أو مع أصوات اللين الثلاثة (ا، و، ي) بهذا الشكل: تَ ـ تُ ـ تِ؛ أو تا ـ تو ـ تي ... إلى آخره.
إن هذه الطريقة أحسن من سابقتها كونها تسهل تأليف الكلمات، وتعوِّد التلاميذ القراءة حسب قيمة الأحرف الصوتية، إلى آخره.
3= الطريقة الصوتية: تتمثل في ذكر الصوت الذي يحدثه الحرف لمدة طويلة في انتظار وضع الحركة عليه هكذا: فففففَ ـــ سسسسسُ ـــ زززززِ
لكن المشكل يكمن في أن الحروف العربية ليست كلها تتمتع بهذه الصفة، فهناك أحرف خرساء؛ مثل: أ؛ ب؛ ت؛ د؛ ط؛ ض...
4= الطريقة الإجمالية: وتتمثل في فصل مقاطع الكلمة، ولفظ كل مقطع على حدا هكذا:
فـَ...رَا...شَ...ةٌ؛ عَـنـْ...كَـ...بُو...تٌ؛ مُسْـ...تَ...طِيـ...لٌ.
ومن الأحسن إرفاق الكلمات بصور فوقها أو بجانبها تسهيلا لقراءتها.
إن المعلم يجب عليه الانتباه إلى وظيفة الكتاب المدرسي كذلك، فهذا الأخير لا بد أن يكون مقسَّماً إلى حروف حسب ترتيبها الألفبائي، وأن يتعرف مع التلاميذ في كل حصة على حرف جديد تدور حوله القراءة ويسلط الضوء عليه أكثر.
=هـ= وسائل تدريسها:
إن الوسائل المستعملة في تدريس القراءة كثيرة ومتعددة، ولعل أشهرها تداولا في مدارسنا ثلاث؛ وهي:
1= وسيلة الإشارات: وتتمثل في ربط كل حرف بإشارة معينة تسهل على المتعلم التعرف على حقيقة الحرف بسرعة، فمثلا عند تعليم حرف (الحاء) يحرك المعلم يده بصورة متعرِّجة كأنه يدل على سير الحية. وعند تعليمه حرف (العين) يعقد بين السبابة والإبهام كأنه يدل على جارحة العين. وهي وسيلة مفيدة للتلاميذ وتبعث الحيوية والنشاط داخل القسم.
2= وسيلة الصور: وهي الأوسع انتشاراً في الكتب المدرسية، حيث ترفق الصورة في أعلى الحرف لتذكـِّر التلميذ بالحرف المقصود، فمثلا صورة سيارة تذكره بحرف (السين) وصورة قلم تذكره بحرف (القاف)، وصورة طاولة تذكره بحرف (الطاء).
3= وسيلة الأحرف المتحركة: وتتمثل في طبع الحروف الهجائية في مربعات صغيرة وتوضع داخل علبة، وعندما يطلب المعلم من التلاميذ تأليف مقطع أو كلمة يقومون بجمع الحروف اللازمة لذلك.
إن هذه الوسيلة توسع مجال إدراك التلميذ للأحرف، ومن ثم للقراءة؛ إذ باستطاعته أن يؤلف عدداً كبيراً من الكلمات ربما لا يحيط الكتاب المدرسي بها كلها.
=و= أنـــــواعــها:
من الملاحظ في وحدات الكتاب المدرسي أن المعلم في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة يأمر التلاميذ بأصناف من القراءة؛ ومن أهمها:
1= القراءة العادية: وهي التي تبيِّن أن التلميذ يعرف نقل الرموز الصوتية بكل اطمئنان وثقة، ويقرأ الكلمات دون تلعثم، وأن يعي مواطن الوقف.
2= القراءة المعبِّرة: وهي أدق وأوسع من الأولى، وتتسم بمراعاة الفهم بدقة.
3= القراءة الصامتة: وهذا النوع من القراءات مهم جداً بالنسبة للتلاميذ؛ كونه يعمِّق الفهم في أكثر الأحيان، ويدرك المتعلم دلالة الكلمات والمفاهيم اللغوية الواردة في النص.
4= القراءة المشروحة: إن هذا النوع كما هو معمول به في المدارس يمر عبر مراحل؛ وهي:
تمهيد؛ قراءة صامتة من قبل التلاميذ؛ قراءة مثالية من قبل المعلم وتلميذ أو تلميذين؛ شرح المفردات قاموسياً؛ تطبيق أسئلة الكتاب حول دراسة القراءة كتابة.
وما دامت القراءة عملية تفاعلية فإن المربين يرون أن فاعليتها تكمن في مزج مهارات فك الرموز والفهم مع خلفية معرفية، وإدراك للعلاقات التبادلية بين العناصر في الكتاب، غير أن هذا الأمر مهما كان جدياً إلا أنه يلاحظ في مدارسنا عامة أن هناك طائفة من التلاميذ لا زالت تتعثر في عملية الفعل القرائي في الكتاب؛ مما ينجر عنه أخطاء متنوعة.
=ز= الأخطاء المرتكبة في القراءة:
1= أخطاء نحوية: وتتمثل في عدم احترام الشكل الصحيح لأواخر الكلمات من الناحية الإعرابية؛ على الرغم من أنها مُشكـَّـلة؛ مثل جر المرفوع (جاء الولدِ) ونصب المجزوم (لم يذهبَ).
2= أخطاء تغيّر الحركات: وتتمثل في استبدال حركة مكان أخرى؛ مثل:
آمَــنَ -------> آمِـــنَ؛ الرَّكــب -------> الرِّكــب.
3= أخطاء حذف الحروف: مثل: الاستعمار -------> الاستمار.
4= أخطاء تعويض حرف بحرف آخر: مثل: يصارع -------> يضارع.
5= أخطاء تغيير بنية الكلمة: وتتمثل في تغيير حرف مكان آخر، فيقدم ما تأخر ويؤخر ما تقدم؛ مثل:
العاملين -------> العالمين.
إضافة إلى أخطاء أخرى كأخطاء الإعادة، والتوقف، والتقطيع(9).
=ح= أهمية القراءة:
مما لا شك فيه أن القراءة أصبحت ضرورة مهمة للفرد المتعلم حتى يتمكن من الاتصال بغيـره، بـل إنها أبعد من ذلك، كونها تساعد على تعلم المواد الأخرى كالحساب والجغرافيـا والعلوم، إلى آخره. وهي غاية ووسيلة في آن واحد، إذ تظهر أهميتها في تكيّف المتعلم في محيطه المدرسي ومجتمعه، وكذا وعيه بما يجري حوله بواسطة الكتب وغيرها من كتب المطالعة، وكيف لا ونحن نعلم أن أول كلمة نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلّم هي: "اقرأ"، فالإنسان الذي يحسن القراءة يتمكن من تطوير خبراته وتجاربه وثقافته في ميادين متعددة وتعزيزها عكس الذي لا يتقنها.
وإنه لمن نافلة الكلام القول إنّ القراءة هي مفتاح العلوم، واكتسابها يحتاج إلى تقنيات تبدأ من الصغر وتنمو مع المتعلم تدريجياً؛ فـ "أن نكتب وأن نحسب، هذا يكتسب بسرعة، أن نقرأ، هذا هو الصعب، أعني بذلك قراءة مريحة حية دون جهد بطريقة تنصرف معها النفس عن الحروف للاهتمام بالمعنى"(10).
وللقراءة أهمية كبرى تعود بالفائدة على الفرد والمجتمع معاً، وهي (11): التعرف على التراث الاجتماعي لمجتمعه؛ صقل وجدانه وتنمية فكره، وفهم أفكار الناس وآرائهم؛ إثراء رصيده اللغوي؛ اعتزازه بلغته، وذلك باعتبارها مقوِّم أساسي في بناء شخصيته؛ وتعد وسيلة اتصال مع غيره مهما بعدت المسافات؛ تعد أهم وسيلة للحصول على المعرفة؛ تحقيق التواصل بين أفراد المجتمع، وذلك بالوقوف على أفكار الآخرين واتجاهاتهم؛ تعرِّف الأفراد على التراث الثقافي للمجتمعات؛ وسيلة اتصال وربط بين المجتمعات، وتبادل الأفكار والرؤى.
ثانيا: القراءة والفهم:
يوجد الكثير من تلاميذ هذه المرحلة (المرحلة الابتدائية) يقرأون ولا يعون ما يقرأونه؛ لذلك كان عنصر الفهم ضرورياً بالنسبة للتلميذ حتى يتعوَّد على المطالعة وتنمية فكره واستقامة لسانه. يقول علي تعوينات، أحد علماء التربية: "إن الذي يقرأ ولا يفهم لا يعتبر من القارئين وإنما تدربَ على آليات القراءة واستعملها لا أكثر من ذلك"(12).
وإنه من واجب المعلم على التلاميذ أن يوجههم إلى ما يقرأون، وألا يكتفي في درس القراءة بمتابعتهم في حسن استخدام وقراءة اللفظ فحسب؛ بل لابد عليه كذلك أن يوضح لهم معنى الكلمة ومدلولها، ثم ربطها مع بقية الكلمات وما تفيده في أداء المعاني حتى يتكوَّن عندهم زاد معرفي.
ولسوء الحظ هذا ما تشهده الكثير من مدارسنا؛ إذ يُقرأ على الكثيرين ما لا يفهمونه، والخطر يزداد أكثر عند تعلم لغة ثانية، فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر كتاب القراءة القديم للسنة الرابعة أساسي في الجزائر (لغة فرنسية) نجد فيه نصوصاً يتمرَّن التلميذ على قراءتها دون أن يعيَ مفهومها؛ وهذا نابع عن جهل المربي كونه لا يشرح لهم ما يقرأون.
والطفل في هذه المرحلة عليك أن توضح له المعنى باللغة الأم حتى يدرك معناها جيداً ولا ينساها، فكيف بنا نشرح له المعنى باللغة ذاتها وهو بعد لمَّا يتقن تعلم الحروف؟
وهذا أمر لابد من مراجعته، سواء كانت تمس اللغة الأم أو اللغة الثانية؛ إذ إن "هناك كثيرا من الأطفال المبتدئين في تعلم القراءة، في سن السادسة والسابعة يتميز الطفل بالقدرة على الحفظ السريع، والذين يوهمون معلميهم بأنهم يعرفون الحروف وقراءتها ... إلا أن الحقيقة ليست كذلك تماماً ... وبالتالي يفتح كتابه أمام زملائه أو والديه أو المعلم ويبدأ في سرد النص كأنه عبقري، ولكنه في الحقيقة لا يدرك مما يقرأ معناه"(13).
ومن جهة أخرى نوع المقروءات التي تُطرح للقراءة قد تعرقل في حد ذاتها سير عملية الفهم؛ إذ نجد العديد من أطفالنا لا يعـون ما يقرأون نتيجة نوع النصــوص المقـــدمة لهم، لأن "إجــبــار الطفل على مقـروءات بذاتها أخطر ما في تعليم القــراءة، ويكفيه أن يحفظ ما أمــــامه ليثبت لنا أنه متطـــابق معنا، في حـين أنه ساخط علينا"(14)، وبذلك فنوعية النصوص أمر مهم في العملية التربوية؛ كون هذه القراءة التي ينشأ على تعليمها الصغار ستترك أثراً في نفسياتهم، كما أنها تساعدهم على فهم ما يجري حولهم، فالنصوص المفيدة هي تلكم التي يجدون فيها راحتهم، وتتداولها ألسنتهم مع بعضهم البعض مهما تقدم بهم العمر.
وإنه لزاماً على كل واحد من مكان عمله أن يتساءل عن فحوى ما تقدمه نصوص القراءة للتلاميذ، والهدف من ورائها، وهل هي خادمة لتطلعات النشء في أي مرحلة كانت أم لا؟ وهل تتماشى وآفاقهم وثقافتهم؟ وهل تخدم أذواقهم؟
ثالثا: القراءة في المرحلة الثانوية:
يختلف الفعل القرائي في هذه المرحلة عن سابقه في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة كونه يأخذ مجرى آخر حسب طبيعة سن المتعلم ومستواه وقدراته الفكرية وما شابهها؛ فالمتعلم في هذه المرحلة يكون أمام نصوص جديدة ومختلفة كل الاختلاف عن تلكم النصوص التي تعرَّف عليها في المرحلتين السابقتين.
وإذا كانت نصوص المرحلة الابتدائية في معظمها يغلب عليها الطابع السردي فإن نصوص هذه المرحلة مقتبسة من أمَّات الكتب، ومعظمها قيل شفهياً في فـتـــرة من الفترات السالفة عبر الحقــب التاريخـيــــة؛ إذ كان للخطاب الشفهي ميزة عظمى إلى غاية ظهور الكتابة. ويشكل الخطاب الشفهي دوراً هاماً في التواصل بين فردين نظراً للسهولة التي يجدها الاثنان في التفاهم، باعتبار القناة بينهما غير مشوَّشة (وجهاً لوجه).
غير أن الكثير من هذا الخطاب يضيع عبر الأزمان والحقب التاريخية، لأنه لا أحد يتصور ما الذي كان يفكر فيه أولئك الذين عاشـوا قبلنا في هذه الحالة، ومن هنا كان لزاما أن يتولد خطاب آخر هو من صلب الخطاب الشفهي ألا وهو الخطاب المكتوب.
وتطور الكتابة هذا هو الذي أسهم بالفعل في الحفاظ على بعض الكلام الذي كان يدور في أذهان الأقدمين وما يربطهم من نظام لغوي وثقافة وعادات وتقاليد تجسدت برؤية واضحة في هذا الخطاب المكتوب. لذلك يمكن القول إنّ الكتابة قد حافظت لنا على جزء مهم من خطابات الأوائل واتصالاتهم مع بعضهم البعض، ولولاها لضــاع الكثـير من هذه الثقافات والعلوم، إلى آخره.
كما إنها تعتبر خاصية من خواص الإنسان التي تميزه عن الحيوان؛ إذ "تطلع على ما في الضمائر و تتأدى بها الأغراض إلى البلد البعيد فتقضى الحاجات، وقد دفعت مؤونة المباشرة لها، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين، وما كتبوه في علومهم وأخبارهم"(15).
وبناءً على هذا كله فإن الخطابات التي تحفظها الكتب المدرسية في مستويات التعليم الثانوي وغيرها ما هي إلا خطابات مقتبسة من أمَّات الكتب ومخــتـــارة من دواوين الشعراء، ووُضِــعـت حسب سِنِّ المتعلم ومهاراته في التفاعل مع الخطاب، هذه المهارات التي تسهم في بناء شخصية المتلقي (التلميذ) وتكيِّفه بمحيطه الاجتماعي، وعلى رأسها مهارة "القراءة" التي تعد منطلقاً هاماً يمكن الاعتماد عليه في فهم الخطاب.
إضافة إلى ذلك فإن القارئ في هذه المرحلة لا بد أن تكون لديه حصيلة لغوية من المكتسبات القبْلية حتى يتفاعل بشكل جيد مع المقروء؛ كأن يحسن مثلاً قراءة الأساليب التعبيرية المختلفة الواردة في الكتاب وخاصة الشعر مثل (الاستفهام، النفي، الدعاء...) أو أن يدرك دلالة الكلمات والمفاهيم والمفردات اللغوية الواردة في النص المقروء أو يستخدم قواعد نحوية استخداماً صحيحاً مراعياً الربط والانسجام بين الكلمات والجمل. لذلك كثيراً ما نجد بعض القــــرَّاء في هذه المرحلة يعانون من عسر في القراءة، وهذه معضـلة بقيت آثـــارها تابعة له منذ الطــفـــولة؛ وإذا بقي على هذه الحال فإن الفعل القرائي يكون ناقصاً، وبالتالي ينعكس هذا النقص على عملية التبليغ بصفة عامة.
وقد أثبتت التجارب أن القارئ الذي يتحكم في جوانب القراءة يكون أكثر حظاً من غيره في فهم المقروء واستيعابه.
رابعا: القارئ والمقروء:
قبل الخوض في هذه المسألة نشير إلى نقطة مهمة، وهي إن القارئ يختلف باختلاف الثقافة والتفكير، وإن هناك أنواعاً من القرَّاء، وإن المقصود بالقارئ، في هذا الموضع، هو ذلك التلميذ الذي يمارس فعل القراءة في قسمه أمام أستاذه وبحضور زملائه، وربما تعدى ذلك حتى في البيت.
وليس المقصود به هنا ذلك القارئ الذي تعدّى حدود القراءة ليصل بها إلى التأويل وإنتاجية المعاني اعتماداً على معارف منهجية تخوِّل له التصرف في الخطاب بنظريات قرائية عالية المستوى تمتزج بسمات النقد أمثال قرَّاء كبار كالعقاد أو طه حسين وغيرهما.
ويختلف مستوى القرَّاء في القسم الواحد باختلاف التفوق والتحصيل المعرفي ونظرة كل واحد للمقروء فليس شرطاً أن ما يراه تلميذ قارئ في نص ما يراه آخر في القسم ذاته أو في المستوى ذاته. غير أنه لا يمكن الجزم أن كل التلاميذ ليس لهم ذوق أدبي يمكـِّنهم من الولوج في خبايا النص، لذلك نجد منهم من يقرأ بوجدانه، ومنهم من يمر على المقروء مرور الكرام دون تمعن و إدراك لفحواه، ولا ما يحمله من شحنات ثقافية ونفسية تركها المبدع في نصه.
فالقارئ الجاد عليه أن يتفاعل مع المقروء بدءاً بفك رموزه وأشكاله فمروراً بدلالة الكلمات التي استنطقها من ظاهر اللفظ إلى تركيبها والربط فيما بينها، وبالتالي الوصول إلى فحوى الخطاب ومضامينه، وهذا التفاعل نابع من كنه اللغة، فهي التي يستقبلها القارئ، فيعيد تنظيمها في أنساق ودلالات تبعاً لطاقته وقدرته على فهم علاقات النص، إنها تؤلف أسلوبه أي ذلك النظام اللغوي المنطلق من نفسية المبدع.
إن مثل هذا القارئ هو الذي يستنطق المقروء ويحدد أفكاره ليصل من خلال ألفاظه إلى معانيه ويجسدها في كتاباته فيما بعد، فهو حي بقراءته شغوفاً بها، تساعده في ذلك كثرة مطالعته للكتب العلمية والأدبية على حد سواء، لا يتوانى في اقتناء أي أثر أدبي يعود بالفائدة على مستواه القرائي. لذلك تجده متفوقاً حتى في المهارات الأخرى المكمِّلة لمهارة القراءة كمهارة الكتابة والمحادثة وغيرها.
إن القارئ في عمومه، داخل القسم، يجد نفسه أمام خطابات متعددة، مختلفة في الزمان والمكان، ومتفاوتة في التفكير والثقافة من عصر لآخر، ومن مبدع لآخر حسب التوزيع المقسَّم داخل الكتاب المدرسي؛ لذلك تتعدد قراءاته وتختلف من خطاب لآخر انطلاقاً من مبدع الخطاب الذي يصوِّر عصره فكرياً وروحياً إلى جوهر المقروء وما يحمله من شحنات دلالية وفنية وثقافية.
وما دام القارئ يسلط فعله على المقروء فهو يتواصل معه بغية التأثير فيه (تأثير المبدع في القارئ) والتفاهم معه في الكثير من النقاط والرُؤى. غير أن عنصر التفاهم والتأثير لا يحدث في كل الأحوال، فهناك حالات يصل عندها القارئ إلى "اللاتفاهم"؛ إذن "ليس هناك ما يضمن لنا دائماً أن مقاصد التسنين ستدرك عند كل المخاطبين (القرَّاء) بشكل واحد في جميع الظروف والأحوال. هذا لا يعـــني أنه لا يمـكــن إجراء تواصل ذي فائدة حول البنى النصية الإخبارية وحمولتها المضمونية. إلا أن هناك مشاكل تطرأ أحياناً في هذا التواصل تجعله لا يبلغ دائماً مداه إلى درجة أن هناك احتمالاً قوياً لحصول مستوى ما من اللاتفاهم"(16).
إن القارئ في هذه المرحلة من التعليم (المرحلة الثانوية) يتصف بميزات تميِّزه عن غيره من قرَّاء المرحلتين الابتدائية والإكمالية، فهو عند وصوله هذه المرحلة يأتي وقد تزوَّد بأفكـار وأداء أصواتي وسلامة لغوية تعطيه دفعاً آخر للاستمرار، كأن يدرك الكثير من المفاهيم النحوية والصرفية اللازمة له لتوظيفها في أحاديثه وكتاباته، وأن تكون لديه انطباعاته الخاصة حول المقروء، وكذا إدراكه لدلالة الكلمات والمفاهيم والمفردات اللغوية الواردة في الخطــاب المقــروء، إضافة إلى تطبيقه لمــهارات القــراءة الجهرية وممارستها بطلاقة، مما ينعكس على لغة الحديث واستخدامها استخداماً جيداً في التواصل مع أستاذه وزملائه، هذا دون نســــيان إدراكه لمفـاهيم الإملاء في أغلب الأحيان وكذا علامات الترقيم، إلى آخره.
وبذلك "فإن على المتعلم إقامة علاقة تفاعلية بينه وبين النص المقروء؛ لأن المتعلم القارئ عندما يقرأ فإنه يكون في الحقيقة مشاركاً في إنتاج النص وبنائه من جديد حسب تصوراته ومكتسباته السابقة، وفي هذه الحال يصبح المتعلم منتجاً للنص المقروء من خلال تبني معطياته وأطروحاته"(17)، وذلك بما يتماشى وقدرات كل قارئ حسب السن والإدراك العقلي والمعرفي.
ومما تمكن الإشارة إليه هو أن هذه الميزات وغيرها قد لا تتحقق كلها عند دخول المتعلم إلى المرحلة الثانوية، فليس كل القرَّاء على درجة واحدة من الوعي اللغوي وذلك نتيجة أسباب متعددة، وما مرت به المدرسة الجزائرية عامة وقطاع التعليم خاصة. لهذا هناك تفاوت بين المتعلمين، مما يدفعنا إلى القول إنه علينا التفريق بين أربعة قرَّاء في هذه المرحلة وهم: القارئ المتفوِّق؛ القارئ الجيِّد؛ القارئ المتوسط؛ القارئ الضعيف.
= = = = =
الهوامش
(1) علي تعوينات، التأخر في القراءة، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983، ص 18.
(2) أنطوان الخوري، التربية من أفواه رجالها: قديمهم وحديثهم، عالم الفكر، بيروت (لبنان)، (د ط)، (د ت)، ص 220.
(3) يقول تمام حسان في هذا الشأن: "ليست الحروف إذاً هي تلك الصور الكتابية التي نخطها بالقلم، فهذه رموز كتابية إلى الحروف، وليست الحروف هي ما تنطقه بلسانك في أثناء الكلام، فهذه هي الأصوات، ولكن الحروف أقسام يشتمل كل منها على عدد من هذه الأصوات. وإذا كانت الأصوات تدخل في نطاق حاسة السمع والبصر وفي العمليات الحركية، فلا يدخل الحرف إلا في نطاق الفهم أو في نطاق الحدس، على حسب ما يراه العلماء من وجهات النظر المختلفة في نظرية الفونيم" (ينظر كتابه: اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب، القاهرة (مصر)، ط 4، 2006، ص 119).
[*] أوصت مجموعة من خبراء التعليم بالتحاق الأطفال بالمدارس الرسمية من سن السادسة أو السابعة، وأضافت المجموعة في رسالة لصحيفة (ديلي تلغراف) أن التحاق الأطفال بالمدرسة في وقت مبكر يسبب ضرراً بالغاً لهم، كما أوصى معلمون وأكاديميون إنه ينبغي التأكيد في المناهج الدراسية على التعلم من خلال اللعب.
(4) حنفي بن عيسى، محاضرات في علم النفس اللغوي، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، (د ط)، (د ت)، ص 262 ـــ265 .
(5) حسني عبد الباري عصر، تعليم القراءة من منظور علم اللغة النفسي، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية (مصر)، ط 1، 1999، ص 65.
(6) المرجع نفسه، ص 66.
(7) حنفي بن عيسى، محاضرات في علم النفس اللغوي، ص 98.
(8) أحمد مختار عضاضة، التربية العملية التطبيقية، مؤسسة الشرق الأوسط، لبنان، ط 3، 1962، ص 248.
(9) علي تعوينات، التأخر في القراءة، ص 99 ـــ 101.
(10) أنطوان الخوري، التربية من أفواه رجالها، ص 219.
(11) محمد منير حجاب، مهارات الاتصال للإعلاميين والتربويين والدعاة، دار الفجر، مصر، 1999، ص 191.
(12) علي تعوينات، التأخر في القراءة، ص 130.
(13) المرجع السابق، ص 131.
(14) حسني عبد الباري عصر، تعليم القراءة من منظور علم اللغة النفسي، ص 64.
(15) عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت (لبنان)، ط 1، 1993، ص 328.
(16) حميد لحمداني، القراءة وتوليد الدلالة: تغيير عاداتنا في قراءة النص الأدبي، المركز الثقافي العربي، لبنان، ط 1، 2003، ص 53.
(17) خالد البقالي القاسمي، مقال بعنوان: دور المدرسة مهم.. فماذا عن القدرات الذاتية؟ مجلة العربي، الكويت، العدد 493، ديسمبر 1999، ص 189.
◄ الطيب عطاوي
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
القراءة ودورها في العملية التربوية, عبد الحفيظ بن جلولي | 27 نيسان (أبريل) 2014 - 13:41 1
تحية طيبة،،،
شكرا أستاذ الطيب على هذا الموضوع الذي تظهر أهميته من خلال ما نلاحظه في الواقع من ضعف المقروئية وعدم الإهتمام باللغة وفضلا غن ذلك إهمال منطوقاتها...
شكرا على الإهتمام بهكذا مواضيع...
تحياتي..