مهند فوده - مصر
لم يكن بقدر ما تستحقين-2
رغم كل شيء ما زلت مؤمنا يا عاليا. ما زال بداخلي بقايا إيمان. عاصٍ ومذنب وظالم ولكن ما زالت علاقتي جيدة بالله. أشعر برضاه رغم كل ما اقترفه من معاص. كلما يضيق بي الحال، ابكي بالدمع موجها وجهي إليه. اشعر به يا عاليا يربت على كتفي. يمسح دمعي. يُرضيني رغم إنني دوما ما اعصيه.
هذا الله الكريم يا عاليا، الذي دوما ما كنت أؤمن بقضائه وقدره. ولكن موتك كان قاسيا جدا، ما زال يزلزلني، يربك قناعاتي ويخلخل قواعد إيماني، يلح علي بحاجتي إلى ماديات تقنعني بموتك. يقولون إن أرواح من أحببناهم ترافقنا في كل مكان، ولكني بحاجة إلى قبر لكِ يا عاليا تدركه عيناي. قبر لكِ أجثو على ركبتيَّ أمامه، لالتمس عفوك وغفرانك.
أنا بأمس الحاجة يا عاليا لأن أبكيكِ طويلا. أن اروي تراب قبرك بدموعي حتى تجف مقلتاي وتقتلع حزني عليك من بين ضلوعي. بحاجة لأقيم ما بقي لي من عمرٍ بجوارك. اسقي زوار المقابر بيدي شربة ماء ورد صدقة جارية على روحك. لعل الله يغفر لكلينـا. ولكني لا أجد لكِ قبرا. لا اعلم في أي ارض ترقدين. وكأنكِ أردتِ برحيلك أن تعاقبني وتعذبيني بلا نهاية. ما أقساه من عقاب يا عاليا! ما عهدتك قاسية لهذا الحد، وأنتِ التي عشتِ طوال عمرك نقية، بيضاء القلب، وطيبة إلى أبعد حد.
ذهبتُ لشيوخ أستفتيهم في أمر موتك ليستريح قلبي لمثواكِ. رويت لهم كل ما اقترفته بحقك، وما آلت إليه حالتك النفسية بسببي، لا ضير إن حملوني وزر قتلك ما داموا سيبرئونك، ولكني وجدت أغلبهم يعاني ضيق إدراك وصعوبة في الفهم، يستمعون لي طويلا ثم ينطقون مختزلين ما فعلته في مسمى واحد لا بديل له: "كفر". ما أن يطلقوا كلمتهم تلك في وجهي حتى أصب عليهم جم غضبي ولعناتي.
صرت على قناعة أن لا حاجة لي لفتاواهم. قررت أن استفتي قلبي الذي احبك، وحده أدرى الخلق بحالك. واستفتيته وجعلكِ شهيدة. بل وارتقى بكِ لمرتبة الأولياء والصالحين.
مُحال يا عاليا أن أضيعك في الآخرة كما أضعتك في دنياي. لطالما كنت متكلا انكِ عملي الصالح والأوحد في الدنيا الذي قد يشفع لي يوم الحساب. لأشد حاجتي بأن تشفعي لي لدى الخالق لأجاورك في الجنة، لا أن أقود بك لمصاحبتي في النار، فبدون شفاعتك تلك حتما سأخلد فيها.
كلما حاولت أن اعرف لجثمانك طريقا، كنت أحصل على معلومات مبتورة لا تروي ظمآنا ولا تشفي غليلا: "مجموعة من المارة يستقلون سيارة تطوعوا بنقلك للمشفى". إلى أي مشفى؟ لا أحد يعلم. وبعد يومين عَلِم سكان المنطقة بأمر موتك. من أبلغهم به؟ لا أحد يعرف. أين دفنوكِ؟ لا أحد يدري.
دُرت باحثا عنكِ في كل المشافي، باحثا عن اسمك في عداد المرضى. طرقت أبواب كل مراكز الشرطة باحثا عنكِ في قوائم حوادث الانتحار. وفي سجلات مراكز الصحة باحثا عنكِ في عداد الأموات. لم أجد شيئا يدلني على موتك. ولم افترض رحيلك عن الحياة؟ في عُرف الدولة وأحكامها أنتِ مواطنة حية ترزق! كيف لي أن أُكذّب "الحكومة" واصدق سكان شارعنا، ولم يعرفوا عن موتك أكثر من مجرد أقاويل. لن أدع اليأس يا عاليا يتسرب لداخلي ويتمكن للحظة مني. حية أو ميتة، أعدكِ بأن أصل إليكِ.
قرر سليم أن يبعث بصديق يثق فيه، ليتحرى من بعيد وجود عاليا لدى والدها فلربما قد اختارت الرجوع. ولكن من بعثه عاد مؤكدا أنها لم تعد ولا يعلم والدها لها طريق منذ أن هربت معه.
في الليلة السادسة على عودة صديقه ذاك وقرب منتصف الليل، عاد للشارع الذي يسكن فيه منهك القوى بعدما أعيته مهمة البحث الفاشلة عن عاليا ككل يوم. تُسيّره قدماه بخطوات واهنة قاصدة منزله، تلاحقه نظرات شفقة من سكان المنطقة المارين بطريقه. يلقون عليه السلام فلا يجيبهم، وبدورهم يلتمسون له العذر فهو حقا لا يسمعهم. فهو يبدو لهم شخصا تائها أفقده موت زوجته عقله، وبالكاد تحفظ قدماه طريق العودة لمسكنه.
وبينما كان سليم يهم بعبور مدخل منزله، إذا به يتلقى رصاصتين في ظهره، استقرت إحداهما في قلبه.
لم يكن صديق سليم الذي بعث به للسؤال عن عاليا يملك من الحصافة الكافية التي لا تجعل من أسئلته تثير شكوك أهل بلدتها نحوه، خاصة أن جميعهم يعلمون قصة هروبها وزواجها على غير رغبة والدها وبحثه المستمر عنها.
لم تكد تمر ثوان معدودة، حتى أبلغ والد عاليا بأمر ذاك الغريب السائل عن ابنته. وبدوره سرعان ما استأجر شخصين يتتبعانه ويقتفيان أثره. تلقى بعد عدة ساعات مكالمة هاتفية تبلغه بالعثور على مسكن سليم وعنوانه. وبعد نصف ساعة أخرى، أبلغوه بنبأ انتحار ابنته سجينة زوجها قفزا من النافذة.
استشاط الأب غضبا وعزم على الانتقام والثأر من سليم الذي أدانه على الفور بقتلها مع سبق الإصرار. بشكل طارئ، انعقد مجلس عائلة عاليا الذي يضم أعمامها وأخوالها، ليحكُم مجلس العائلة على سليم بالإعدام رميا برصاصتين جزاء لجريمتيه. الأولى لاختطافه ابنتهم والزواج منها رغما عنهم والثانية لتسببه في موتها.
على أثر صوت إطلاق النار على سليم، هرع سكان المنطقة نحو جسده المسجى على الأرض الغارق في دمائه محاولين إسعافه، بينما حاول آخرون اللحاق بالقاتل الذي سرعان ما لاذ بالفرار على دراجة نارية مجهولة الهوية يستقلها شخص آخر. ولكن كل محاولات إسعافهم له باءت بالفشل، فسرعان ما توقف نبض سليم بعد دقائق، مفارقا الحياة على بعد أمتار قليلة من ذات المكان الذي سقطت فيه عاليا. ليلفظ أنفاسه الأخيرة راضيا أن أمنيته قد تحققت وأوشك على اللحاق بروح من أحب ولم يجد لجسدها قبرا يجاورها الحياة فيه.
ولكنه بلا شك ستصيبه خيبة أمل كبيرة فور صعوده للسماء واكتشافه أن عاليا التي يظنها الجميع قد فارقت الحياة، لم تمت من الأساس. فهي ترقد على أسرة أحد المشافي، مصابة بكسور شديدة. فاقدة للوعي منذ يوم وصولها للمشفى. تنتابها نوبات إدراك قصيرة لا تدوم سوى دقائق تهذي فيها باسم سليم.
بعد أن قفزت عاليا من النافذة المكسورة، وسقطت غارقة في بحر من دمائها، أوقف سكان المنطقة إحدى السيارات التي تصادف مرورها لحظة الحادث قبيل أذان الفجر. لم يبد قائدها من مانع من حمل عاليا على المقعد الخلفي وإيصالها لأقرب مشفى. ولكن زوجته الجالسة بجواره قد أصابها حالة من الهلع والخوف من الدماء التي طغت على ملامح عاليا وغطت معظم جسدها.
وبعد أن تحركت السيارة لعدة كيلومترات، صرخت فيه تخيفه من المسئولية التي قد تقع عليه جراء فعل كهذا، تحذره أنها ستقع عليه وحده، ويدان بسببها، وأن المسئولين بالمشفى سيظنون انه هو من صدمها بسيارته، وبلا شك لن يصدقوا موضوع انتحارها هذا.
وقفت السيارة بعد دقائق، ونزل الاثنان منها حاملين جسد عاليا النازف من على المقعد الخلفي، ووضعاه على أقرب رصيف، دون أن تثنيهما تأوهات عاليا ولا يردعهما أنينها المكتوم عن جرمهما هذا. قام السائق بالاتصال برقم الإسعاف لإنقاذها، مدعيا أن سيارة مسرعة صدمت فتاة ولاذت بالفرار، وهي الآن ملقاة في الشارع بين الحياة والموت. بعد دقائق وصلت سيارة الإسعاف وحملتها، وقائد السيارة وزوجته يراقبان من بعيد راضيي الضمير عما فعلوه.
لم يجد العاملون في المشفى أي متعلقات مع عاليا ليستدلوا منها على هويتها. فوضعت كلمة "مجهولة " محل اسم عاليا في سجل المشفى، وفي محل سبب الإصابة كُتب "حادث سير". ربما لو كانت تعلم عاليا بما ستؤول إليه الأمور بمحاولة انتحارها تلك لما أقدمت عليها، ولفضّلت البقاء في سجن سليم على الحياة بموته.
◄ مهند فوده
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
2 مشاركة منتدى
لم يكن بقدر ما تستحقين-2, إيمان يونس _ | 2 أيار (مايو) 2014 - 09:57 1
أ / مهند ..لم يكن بقدر ما تستحقين 2 حسن من صورة سليم التى جاءت مشوهة بالكثير من الأنانية المفرطة في الجزء الأول ولعل الندم الذى غلب عليه هو شفيعه عند القارىء ، هذا الجزء كُتب بحرفية عالية تفوق الجزء الأول من وجهة نظرى والديالوج الداخلى لـسليم وللراوى جاء متزنًا لجميع الأطراف وما آل إليه حال عاليا يجسد الواقع المذرى للإنسانية التى تتهرب من أدنى مسئولية لإنقاذ روح هى حياة للناس جميعًا ..كل التحية لقلمك الذى يثب بكل نص وثبة عالية في أنتظار جديدك دائمًا..تحياتى وتقديرى
1. لم يكن بقدر ما تستحقين-2, 7 أيار (مايو) 2014, 15:58, ::::: مهند فوده - مصر
استاذة إيمان تسعدني تعليقاتك دوما على نصوصي , وعلى هذا النص اعتبرها شهادة اعتز بها من كاتبة لها قلم مميز كقلمك .. شكرا جزيلا لكِ
لم يكن بقدر ما تستحقين-2, إبراهيم يوسف - لبنان | 8 أيار (مايو) 2014 - 18:09 2
الصمة القشيري من شعراء بني أمية المقلين الملهمين، وتوأم صاحبك حبيب داليا. خطب ابنة عمه إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها. وحينما تزوجت من غيره. هجر عشيرته وهرب إلى ديار أخرى. ثم سحقته الحسرة والغربة والحنين إلى محبوبته، فبكاها العمرَ كله.. وعن أيامه بجانبها يقول:
فليستْ عَشِيَّاتُ الحِمى برواجعٍ إليكَ ولكنْ خلِّ عينيكَ تَدْمَعا
كأنَّا خُلقنا للنّوى وكأنّما حرامٌ على الأيّامِ أن نَتَجَمّعا
حبيب داليا هو الآخر به وجدٌ شديد وله أسوة بالقشيري
يناجي محبوبته ويكاد يموت حسرة عليها.
لكن العذرية والتبتل يا صديقي لا يساعدان كثيرا على تكوين الأسر وبناء المجتمعات
ولو أنهما مطلوبان من حين إلى حين