هدى أبو غنيمة - الأردن
أثقل من رضوى
أن يكتب الإنسان سيرته الذاتية أمر مألوف، وهو يتأمل تيارها المتدفق. ولكن الكتابة عن الحياة، وهو يخوض غمارها ويصارع لججها مسجلا اللحظات المصيرية: مواجهة المرض ومواجهة الخيبات والطغيان والفساد، آنفا أن يموت جبانا، نص له وهج الجذوة المتوقدة في الروح المبدعة؛ نقرأ في ضوئه تجليات النفس الإنسانية في طبقاتها المتعددة وتتراءى لنا أطيافها، فإذا نحن نفس واحدة.
"قد تفلت السنوات من حدودها، لأن أعمارنا كما هو معروف تفيض عن أعمارنا، وتقفز بلا استئذان إلى ما قبلها أو ما حولها، وتمتد متشعبة في التاريخ والجغرافيا".
بأسلوب التداعي الذي ذكرني بـ"بحثا عن الزمن الضائع" لمارسيل بروست، تكتب رضوى عاشور سيرتها الذاتية "أثقل من رضوى". ودلالة العنوان تحيل إلى سبب التسمية، فقد كانت تظن أن الذي اختار اسمها وأسماء إخوتها، هو جدها لأمها الدكتور عبد الوهاب، الذي كان المحامي الشاب، والد رضوى، قد كتب بحجر جيري على أحد الجدران "سأسمي ابني طارق"، وهو في طريقه إلى بيت الدكتور عبد الوهاب، ليفاتحه في رغبته بالزواج من إحدى بناته، مية، العام 1941 أو مطلع العام الذي يليه.
سمى الولد طارق مستبشرا بأول الذكور في ذريته المكونة من ست بنات وحفيدتين من كبرى بناته.
اختار الدكتور لحفيده اسم طارق ليكون سميا لفاتح الأندلس، فلما جاءت البنت بعد سنتين وتسعة أشهر، اختار لها اسم جبل يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: "أثقل من رضوى"، لأن الجبل سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من ينبع بها جداول ماء وشعاب وأودية، ووعول وغزلان، وتحلق في أرجائها النسور والصقور والقطا والحمام.
ولما أكرم الله المحامي بولدين آخرين من زوجته مية، سمى أكبرهما حاتم، والأصغر وائل، وهما اسمان اقترحهما الدكتور عبد الوهاب، وراقا المحامي المغرم باللغة العربية وآدابها.
تمزج الكاتبة في مقاطع من سيرتها بين مشاهد الثورة المصرية، وتجربتها في مواجهة الورم في الدماغ، بين الدراما في رأسها وبين الدراما في ميدان التحرير طوال السنوات الثلاث الأخيرة، وتربطها بسنوات سابقة.
تكتب رضوى عاشور بلغة حية عن الجامعة والتحرير والشهداء وعن ذاتها، وتتأمل فعل الكتابة:
"أعتقد أن إبداع نص فني، من أعقد اختراعات البشر وأكثرها عجبا، لا بسبب ذلك المزج الغريب بين الذاتي والمشترك، والمعرفة الموعي بها وغير الموعي بها والآني والممتد، والمجرد والمجسد، بل لأنها تنقل أحمالا متراكمة على بساط هش من الحروف والكلمات، والجمل المفيدة. ربما لا تفي الصورة بالغرض، لأن الكلمات الحاملة لها من المغناطيس طاقة الجذب، ومن الرادار قدرة الالتقاط، ومن الشجر الجذور المغمورة في طين الأرض، ومن العمائر التركيب، ومن الأحلام الالتباس والغموض، تحمل الكلمات تاريخا وجغرافيا وطيات متراكبة من طبقات الأرض، ودخائل البشر وتجاربهم ومصائرهم وأحلامهم، وتهويمات خيالاتهم" (السيرة، ص 250-251).
وثقت الكاتبة لأحداث الثورة بمشاهد حية نكاد نلمح فيها أطياف الشهداء الذين يعودون إلى الميدان بعد سقوطهم، ويتدفق السرد ويتماوج تدفق النيل الذي وعت رضوى دروسه.
هل كانت تكتب سيرتها أم الحياة الثرية فكريا ووجدانيا هي التي تكتب رضوى؟ وهي واحدة من عائلة ممتدة من الشغيلة والثوار والحالمين الذين يناطحون زمانهم، ويمقتون الهزيمة ولا يقبلون بها، فإن قضت عليهم يموتون كالشجر واقفين، ينجزون أمرين كلاهما جميل: شرف المحاولة، وخبرات ثمينة، تركة يخلفونها بحرص إلى القادمين. (أليس هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة؟ ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا).
= = = = =
رضوى عاشور: روائية وناقدة وأستاذة جامعية مصرية. ولدت عام . 1946من أعمالها: سراج؛ ثلاثية غرناطة؛ أطياف؛ قطعة من أوروبا؛ فرج؛ الطنطورية.
المرجع: "أثقل من رضوى" مقاطع من سيرة ذاتية. الناشر: دار الشروق، مصر، 2013.
◄ هدى أبو غنيمة
▼ موضوعاتي
5 مشاركة منتدى
أثقل من رضوى, إيمان يونس | 31 أيار (مايو) 2014 - 19:29 1
أ / هدى .. كل التحية والتقدير لهذا العرض الموجز والشيق لـ "أثقل من رضوى" للرائعة رضوى عاشور ..كلماتكم بمثابة فتحة باب لمن يرغب الولوج إلى عالمها المتنوع بين الأدب ،السياسة والسيرة الذاتية ..سيرة الإنسانة
1. أثقل من رضوى, 31 أيار (مايو) 2014, 19:58, ::::: هدى أبو غنيمة الأردن عمان
أ/إيمان كل الشكر والتقدير لمرورك الكريم واهتمامك ,رضوى عاشور من أقرب الكاتبات العربيات إلى نفسي وأتابعها منذ أن قرأت لها ثلاثية غرناطة دمت بخير عزيزتي.
أثقل من رضوى, هدى الكناني | 1 حزيران (يونيو) 2014 - 14:12 2
حنان عود الند المعبق ثقافة
الاستاذة هدى ابو غنيمة
انما هي كلماتك التي تسطرينها او تنتقينهاعند تقييمك لعمل ما، أرسخ من رضوى في تاثيرهاعلى الاحاسيس واعمق منه توغلا في القلوب
فما ابدع ما أخترتيه
"أعتقد أن إبداع نص فني، من أعقد اختراعات البشر وأكثرها عجبا
لأنها تنقل أحمالا متراكمة على بساط هش من الحروف والكلمات، والجمل المفيدة".
لقد أختزلت الكثير وكشفت عن الكثير من العمل بهذه الكلمات العبقة كحنانك.
دام قلمك سيدتي وسما ذوقك أكثر وأكثر .
هدى الكناني / العراق
1. أثقل من رضوى, 1 حزيران (يونيو) 2014, 16:07, ::::: هدى أبو غنيمة الأردن عمان
أ/هدى الكناني تحياتي وكل التقدير والشكر لكلماتك الرقيقة .
أثقل من رضوى, إبراهيم يوسف - لبنان | 5 حزيران (يونيو) 2014 - 12:05 3
هدى أبو غنيمة
أود أن أتقدم منك بالشكر الجزيل، أن عرَّفتني بالكاتبة رضوى عاشور، وعدم معرفتي بها ناتج عن تقصير من قبلي وحسب.. فدنيا الآداب والفنون الأخرى، تكاد تتخطى في غزارتها عالم الاتصالات وجديدها في كل لحظة، بحيث ضاقت بنا أوقاتنا للتعرف إلى بعض القديم.. فكيف يكون الحال مع الجديد ..؟ كل الشكر على مجهودك، وعلى بطاقة التعريف بالكاتبة رضوى عاشور.
1. أثقل من رضوى, 5 حزيران (يونيو) 2014, 13:37, ::::: هدى أبو غنيمة الأردن عمان
الأستاذ إبراهيم تحية طيبة بالتأكيد لا يمكن لأحد منا الإحاطة بكل مايصدر في دنيا الآداب والفنون ,لذلك نحاول أن نضيف مايفيد الآخرين وجهودنا تكمل بعضها بعضا فهذا العصر يتطلب جهد الفريق في العمل .شكرا لاهتمامك .
أثقل من رضوى, محمد الكرمي | 10 حزيران (يونيو) 2014 - 02:22 4
ذوق راقي في إختيار الموضوع، جعلنا نتوق لقراءة المزيد.. ما أجمل أن يكتب مبدع عن مبدع أخر.
1. أثقل من رضوى, 10 حزيران (يونيو) 2014, 11:53, ::::: هدى أبو غنيمة الأردن عمان
أ/محمد الكرمي تحية طيبة الشكر الجزيل لمرورك الكريم أخجلتني بملاحظتك بوصفي مبدعة آمل أن أستطيع أن أحقق حسن الظن دمت بخير .
أثقل من رضوى, أشواق مليباري | 15 حزيران (يونيو) 2014 - 19:54 5
الأستاذة هدى أبو غنيمة
كنت أتأمل جبل رضوى من نافذتي، قبل أن تحجب الرؤيا بيوت جديدة في الحي خلفنا
ضخم يرقد وسط السهل الساحلي المنبسط
من المناطق القليلة التي لم تفسد على يد البشر بسبب وعورة مسالكه وارتفاع قممه
جبل لم يعرف الناس قدره
رغم شهرته في الأدب العربي
جميلة هذه اللفتة من الدكتور
وجميل منك أستاذتي أن تطلعينا على هذه الشخصية الفريدة
شكرا لك
1. أثقل من رضوى, 15 حزيران (يونيو) 2014, 20:40, ::::: هدى أبو غنيمة الأردن عمان
الأستاذة أشواق مليباري تحية طيبة .أسعدني مرورك الكريم المضمخ بطيب المدينة المنورة شكرا جزيلا.