عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

حاتم الشبلي - السودان

يوم أحمر


حاتم الشبليوجد نفسه في قبضة الإفلاس مرة أخرى. عزا ذلك لسوء إدارته لعمله ونفقاته. قرر أن يستدين بعض المال من أحد أصدقائه اليوميين لمعاودة نشاطه كبائع متجول، العمل الوحيد الذي وجده متاحا وبدون واسطة.

جلس على السرير الخشبي المهترئ والمتوحد في فناء غرفته المبعثرة المزاج، أخذ يمررهم أمامه واحدا واحدا، افترض أنه وصل إلى اللاشيء.

في الصباح حاول أن يتجاوز ذلك الافتراض. تتوزع خطواته علي يمين ويسار الأسفلت، يرى عربات وثيره تطير، وبنات فاتنات يجلسن دائما في المقاعد الأمامية وهن في غاية الفرح.

صور مختلفة يتأملها لتلاميذ المدارس وهم يسعون بهمة ونشاط، عند الموقف يرى عقدا منظوما: عددا من الحافلات متكدسة بالجامعيات والجامعيين والموظفات والموظفين وغيرهم تزحف بخفه إلى وسط المدينة.

أكثر ما استرعى انتباهه كان انتشار اللون الأحمر، على صدور الفتيات وتنانيرهن. ينعطف قليلا باتجاه شارع رئيسي. تحدق في وجهه كافتيريا فخمة اكتست في ذلك اليوم بالحمرة، حيث تظهر من البعيد بالونات، وزهور اصطناعية، وأقمشة زينة وأشياء أخري.

عندما وصل إلى شارع النيل، وجده مكتظا بالكائنات الحمراء، يتبخترون في مشيتهم أو يمشون ببطء مقصود، يحملون بأيديهم أكياسا وصناديق أنيقة.

قفزت إلي ذهنه خاطرة صغيرة عن العلاقات الحميمية ومتلازماتها. ماذا لو تحرر الجميع في هذا اليوم من أقنعتهم وعقدهم وأطلقوا لصدقهم العنان؟ خرجت حالا صور كاريكاتورية غريبة ومضحكة.

ها هو السيد المدير يتأبط سكرتيرته اللطيفة، محلقا كغمامه، وزوجته الحنونة مع صديقه، حبيبها الأول، يحتسون لحظتهم السعيدة داخل سياق الزمن الخاص بعلاقتهم السابقة.

وهذه البنت، جارتنا الانطوائية، تجالس أحدهم بمودة كبيرة منبسطة الجسد والروح، وأخوها الشاب الورع الخجول، الذي لا يبارح ساحة المسجد، والذي لم أره يضحك في حياتي، يجلس إحداهن على مسافة منه ويتبادل معها البوح بشجاعة يحسد عليها.

أما الشباب فإنهم في عالم آخر؛ عالم يخصهم وحدهم.

وصل إلى مكتبة صديقه الصامدة في قلب السوق. مدد رجليه. داعبه صديقه ببعض الكلمات إلا أنه لم يتفاعل مع قفشاته حتى فرغ من صحن الفول الكبير، ثم أغرقه بقصصه ومشاكله الخاصة.

في المساء وبعد اكتمال دورة اليوم ترافقا إلى محطة المواصلات. لا زال الأحمر هو المسيطر. تتجول أبصارهما في حواشي ومتون العابرات، صديقه يقول:

"كل نظريات الجوع والفقر ناقصة ما لم تبحث في الأثر المباشر للفقر على صحة الإنسان النفسية".

يلكزه، فتاة شامخه تضع خطواتها برفق وكأنها تقبل الأرض، تمر من أمامهما وتأخذ معها خيوط الحديث والانتباه.

افترقا. صوت مغن يظلل المكان: "جاني طيفه طايف. لحاظه كالقذايف. وانا من عيونه خايف".

وصل إلي غرفته، أغلق الباب. تمدد على السرير، أراد مهاتفتها بقدر اللحظات التي أبتاعها من بائعي الأثير. لا يهم أن أتحدث كثيرا أو قليلا، تلك مسألة ثانوية، أو بالأحرى غير ذات معنى. المهم هو أنني سأسمع صوتها وتسمعني، ولكن من الأفضل أن تكون مكالمتي قصيرة، محددة الغرض، كلماتها منتقاة وحذرة. أجل سأتجنب بقدر الإمكان الأسئلة المحرجة: مواعيد الخطوبة. الشغل. نتائج المعاينات. الشلة. الشراب. لست بحاجة إلى كل هذا الإزعاج، يكفيني ما أنا عليه.

"اعد الاتصال مرة أخرى". ويحاول: "خطأ الاتصال بالشبكة. تيت. تيت. تيت".

سب ولعن كل شيء. اكتشف عبر الراديو أن أبواب الأثير الغربية مغلقة لأسباب فوق-سياسيه. الحرب. الصراعات. المصالح. القرف. السياسة.

كل شرور العالم وأوساخه حرمت العاشق التعيس الذي يسكن بداخله من مهاتفة عشيقته. أحس وكأن السلطة وأذيالها وأشباهها والظروف العامة تتآمر ضده.

زفر أنفاسه المغتاظة، أغمض عينيه، ثم مضى. تراءت له من ثقب الذاكرة تلك الصورة: إمراه بثوب أحمر وزوجها بيمينها يحمل طفله حلوة، وبيديهما أكياس الدندرمة يتمشيان على شارع نيل الخرطوم.

D 30 أيار (مايو) 2014     A حاتم الشبلي     C 0 تعليقات