مختارات: مقتطف من كتاب المهدي المنجرة
التعلم من المهد إلى اللحد وتحديات المستقبل
المهدي المنجرة: عالم اجتماع مغربي متخصص بالدراسات المستقبلية. انتقل إلى رحمته تعالى في 13 حزيران/يونيو 2014 عن عمر يناهز 81 عاما. المقتطف أدناه من الفصل الثالث من كتاب عنوانه "قيمة القيم".
إن التقدم الهائل في الحاسب الإلكتروني (الكمبيوتر) يسير الآن بأقصى سرعته. فلم يحدث أن آلة تقدمت ونمت بمثل هذه السرعة، ثم إنها أثرت في الإنتاج وفي الاتصال، بل وفي تنظيم المجتمعات؛ وأصبحت تقدم معونة متميزة قيمة لتفكيرنا. وعما قريب، سنجد أن الكومبيوتر الرخيص الثمن، الصغير الحجم، الذي يمكن إيداعه داخل الجيب، هو الرفيق الملازم لكل إنسان؛ إذ ستقدمه إليه المدرسة في فجر حياته المدرسية، ثم سيبقى في علاقة وثيقة معه بقية عمره.
ومن ثم، فبعد أن كان الحاسب الآلي (الكمبيوتر) يقلد صورا بسيطة من التعلم البشري، فإنه قد أصبح يقوم بدور المدرس، إما بشكل مساعد في عملية التعليم أو في صورة نماذج تشابه المخ البشري في عمله، كجهاز عصبي فسيولوجي، وظيفته الأساسية تناول المعلومات وتنسيقها. وإزاء الغزو الشامل المنتظر من الكومبيوتر في الأحقاب القليلة القادمة، فإن علينا أن نعمق البحث عن الفروق الثاوية خلف أوجه الشبه الرائعة مع الذكاء البشري، لنتجنب بذلك الموازنات السطحية التي يمكن أن تشوه مفاهيمنا عن التعلم.
ولا تعني إشارتنا إلى زيادة اهتمام التعليم العام بدراسة الماضي، أن تكون هجوما على العناية بتدريس التاريخ، بل على العكس من ذلك، يمكن للتاريخ أن يعطي أمثلة كثيرة من مجتمعات بعينها، خابت في التهيؤ لمواقف لم يسبق لها مواجهتها وأخفقت في العبور نحوها بحزن وتصممي. ثم إن الحضارات السابقة تعطينا درواسا واضحة عما كان يحدث، عندما تهمل الحاجات المادية للإنسان، وما كان يحدث عندما تنكر الكرامة الإنسانية للجميع، إلا لأقلية ضئيلة، وعندما كان الاستعداد للحرب هو الاهتمام المركزي عند الدولة.
ثم إن بعض المجتمعات، وبخاصة تلك التي كانت تخضع حتى عهد قريب للاستعمار، تتحمل عبء المفارقة أو الانفصام على بعدين: أحدهما النظم التعليمية البالية مما عفى عليه الزم، وثانيهما عدم ملاءمة هذه النظم للخلفية الثقافية التي غرست فيها بعد استيرادها. فنقل نظام تعليمي أجنبي نقلا كليا مطابقا للأصل مطابقة تامة، وما يترتب على ذلك من إهدار لتعليم تقليدي أصلي، من شأنه أن يترك كثيرا من الدول النامية في تعلم غير توقعي وغير تشاركي.
والمدارس الموجود في لإفريقيا آسيا، التي تغلب عليها الصفتان الفرنسية والإنجليزية، تحمل في طياتها ذكريات العهود السابقة. ثم إن الدول التي صدرت عنها هذه المدارس في الأصل، قد أخضعت النظم التعليمية فيها لحركة أو حركتين من حركات الإصلاح والتغيير. أما الدول المستقبلية لهذه النظم، فإنها قد حافظت عليها لدرجة أنها تجد نفسها مع مدارس كانت تعتبر متقدمة في القرن التاسع عشر. وبذلك، تكون بعض دول العالم الثالث، وهي الدول المستقبلة لهذه النظم، متخلفة عن الدول التي صدرتها.
ومن بين المسائل العديدة التي تحيط بالأمية والأمية الوظيفية، توجد مسألتان لهما علاقة بالفجوة البشرية، وهما جديرتان بالملاحظة والدرس. أولاهما عزوف أغلب صانعي القرار عن إلزام أنفسهم أو مجتمعاتهم ببرنامج جاد كل الجدة لاجتثاث الأمية. وعلى الرغم من كونه معلوما، أن اختفاء الأمية يسير جنبا إلى جنب مع التنمية الاقتصادية، فإن الدافع لإيجاد مستوى من التعلم الذي ينشط المشاركة الاجتماعية الحقيقية، ليس موجودا إلا في عدد قليل من الحالات. وكثيرون ممن هم في السلطة والقوة الذين يخشون مواجهة التغير وما سيظهر من آمال وتوقعات، نتيجة انتشار التعلم ومعرفة القراءة والكتابة. وهذا النقص في الإرادة السياسية، يشير إلى أن التقاعس في استخدام القوة المتاحة، يكون سببا في إهدار تعليمي هائل.
أما ثانية هذه المسائل، فهي المحك الجاري بين العرف حول الأبجدية أو معرفة القراءة والكتابة، فهل يفهم من الأبجدية والتعلم ببساطة أنه القدرة على القراءة والكتابة، علما بأن الفرق بين التعلم المحافظ والتعلم المجدد فرق واضح. غير أن التعلم المحافظ واهتمامه باللغة، يعادل بين الأبجدية وبين القراءة والكتابة. أما التعلم المجدد، فإنه يحوي قدرة أساسية، تقوم على كل عناصر التعلم في إطار الأبجدية أو التعلم. ففي التعلم المجدد يكون التوكيد على القيمة أو البعد الخلقي للتعلم (الأبجدية) وما يشبه مفهوم التعليم، مما يركز على رفع شهور الإنسان بما حوله (*)، وزيادة قدرته في المجتمع إسهاما، يتصف بالكفاءة والإنتاجية.
ولكن المغزى الحقيقي للبعد العالمي للتعلم، يمكن توضيحه بإبراز دور التعلم في الحصوص على تنظيم عالمي دولي جديد. وقد أصبحت الدعوة المنطلقة لإعادة بناء النظام العالمي الجديد، والتي بدأت بالتحرر السياسي من الاستعمار، وأتبع بالمطالبة بنظم اقتصادية وثقافية وإعلامية ونظم اتصالات جديدة .. أصبحت هذه ملها مدرجة في جداول أعمال الهيئات الدولية. وطبيعي أن تتضمن هذه النظم الجديدة إعادة توزيع للحقوق والواجبات. وطبيعي كذلك أن تكون هناك مطالبات ومقاومات لهذه التوزيعات. وطبيعي أن توقف المطالبات والمقاومات على ما يوجد من قيم ومواقف عقلية ومؤسسات اجتماعية اقتصادية، مما يقام ويدعم من خلال سيرورات التعلم.
وتحتاج هذه إلى منظور جديد للتعلم، ويكون ذلك منظورا يتيح لكل الدول والمجتمعات، أن تدرك كيف يجب عليها أن تغير ما يغمرها من قيم، مما أصبح لا يتفق مع التغيرات الواقعة الجارية، ومع أزمات العالم المعاصر. وبغير هذا المنظور، يكون الاحتمال بعيدا في إمكان إقامة نظام عالمي جديدي بهدوء وتوازن وسلام. ذلك أن نظم القيم هي التي تمكننا من الحكم على العلاقات المستقبلية بين المجتمعات أو في داخلها، إذا كانت علاقات تصارع أو توافق وتكامل.
وعلى النقيض من الضغوط التي تتضمنها النظم العالمية الجديدة في إعادة التوزيع وفي نقل التكنولوجيا ونقل رؤوس الأموال، نجد أن التعلم لا يمكن إعادة توزنه أو نقله بالكيفية نفسها. ويرجع عدم إمكان نقل التعلم إلى أن التعلم بطبيعتيه صفة ذاتية في الأفراد، تنمى عن طريقهم. ووضاح أن المعرفة باعتبارها منتوجا نهائيا للتعلم، يمكن أن يقال إنها قابلة للانتقال. وهناك على أي حال رأي يزداد شيوعا وانتشارا، وهو أن انتقال التكنولوجيا قد أصبح يتضمن تقبلا بغير بصيرة للأساليب والمنتجات الأجنبية.
= = = = =
(*) Paulo Freire, “Pedagogy of the oppressed”, Penguin Books 1972, and “Education for critical consciousness”, Seabury Press, 1973.
الناشر: مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء-المغرب (2007). الصفحات 41-45.
◄ عود الند: التحرير
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
التعلم من المهد إلى اللحد وتحديات المستقبل, كموط زهيرة /اسفي /المغرب | 27 حزيران (يونيو) 2014 - 13:33 1
فلترقد روحك بسلام ايها االاستاد والعالم الانساني .كل سنة وانت الدراسات المستقبلية .