عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 97: 2014/07 » تَعالق المؤَلف بالسَّارد والشَّخْصية

د. بغداد عبد الرحمن - الجزائر

تَعالق المؤَلف بالسَّارد والشَّخْصية


صُور تَعالق ذات المؤَلف بذات السَّارد والشَّخْصية في الرواية العربية الحديثة: توفيق الحكيم نموذجا

الملخص: تخوض هذه المداخلة في الحديث عن أهم صور الاتصال والانفصال بين المؤلّف والسارد والشخصية في مجموعة من روايات توفيق الحكيم. كما ترمي هذه الورقة أيضا إلى الوقوف عند بعض الإيحاءات والأبعاد والأحداث التي أسهمت في رصد تلك العلاقة بين هؤلاء الثلاثة، والتمكين من مواطن التماثل والتقارب فيما بينهم وصلت إلى حد التوحُّد لأن قبل كل شيء المؤلف والسارد والشخصية هم في النهاية شخصٌ واحدٌ.

بغداد عبد الرحمن يسعى هذا البحث إلى دراسة ظاهرة التقابل بين كل من المؤلف والسارد والشخصية في النص الروائي العربي، وتتبع مدى الاتصال والانفصال بين هؤلاء الثلاثة من خلال الوقوف عند نصوص قصصية لتوفيق الحكيم التي أبانت بصفة جلية ارتباطها بسيرة المؤلف الذاتية التي دَوَّنَ فيها خلاصة تجاربه الحياتية، وسَطَّرَ فيها آراءه الفكرية والسياسية والاجتماعية وذلك باعتبار أن العمل الأدبي المعبر عن شخصية الكاتب وحياته يعد من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأقواها 1.

وهذا ما يؤكد أكثر أن الرواية الفنية التي تروي السير الذاتية لأصحابها لا يمكنها أن تنسلخَ عن حياتهم، بل إن ذات الكاتب ذات حضور لافت للنظر. فما أكثر الروايات التي انكب النقاد على استخراج ما فيها من عناصر سيرذاتية، وما ذلك إلا لأن أصحابها استلهموا فيها شخوصا من ذواتهم ومن معارفهم.

ومن هنا رحنا نتحقق من التقابل الواضح في سيرة توفيق الحكيم بين حضوره كمؤلف وسارد وشخصية بطلة في بعض من أعماله الروائية، لنكون بعد ذلك أمام رواية «يرتكز محورها الرئيسي على تجربة سببت المعاناة للمؤلف، حيث كان بطلها، ومدار أهم أحداثها، وحيث كانت تلك الأحداث تُمثل جزءا من حياة البطل، أو صفحة من حياته، كل ذلك بشرط أن يعبر المؤلف عن تلك التجربة الشخصية في قالب روائي تتوفر فيه أهم عناصر الرواية» 2.

ولكن لا بد في البداية من تحديد مفاهيم وتعريفات للمصطلحات المفتاحية في هذا البحث، والتي نجدها تتباين من باحث لآخر ومن كاتب لغيره، وذلك بحكم الثقافات والمرجعيات الفكرية والفلسفية لدى كل واحد منهم. وعلى هذا الأساس، جعلنا هذه الدراسة تسير وفق الخطوتين التاليتين: أولا: سيرة توفيق الحكيم ومكانته الأدبية. وثانيا: مواطن التقارب بين المؤلف والسارد والشخصية في نماذج من قِصص توفيق الحكيم.

سيرة توفيق الحكيم ومكانته الأدبية

لعل خير مصدر لحياة الحكيم كتبه التي تعبر عن ترجمة ذاتية، فقد حرص فيها على إلقاء الضوء الكاشف لكل ما خفي عن قرائه ومريديه، وفيها عبر عن تجربته الشخصية وعن إلهامه الساطع الكاشف لجميع آفاق روحه. فقد جمعت كتبه «عصفور من الشرق»، «زهرة العمر»، «عودة الروح»، «يوميات نائب في الأرياف»، «سجن العمر » حياته بأدق تفاصيلها منذ أن كان طفلا إلى أن أصبح شابا مراهقا.

ولد توفيق إسماعيل الحكيم بالإسكندرية عام 1898 من أم تركية الأصل ومن أب مصري، كان يعمل في سلك القضاء، وكان والده ينتمي إلى طبقة الفلاحين من أسرة مزارعة أصلها من بلدة «الدلنجات» بمديرية البحيرة. وقد كان معروفا بشدة تمسكه بالعادات والتقاليد كعادة أهل الريف 3.

عندما بلغ السابعة من عمره التحق بمدرسة دمنهور الابتدائية حتى انتهى من تعليمه سنة 1915. ثم سافر إلى القاهرة ليلتحق بمدرسة محمد علي الثانوية موفدا من أبيه إلى أعمامه وعمته ليعيش تحت رعايتهم بحي السيدة زينب.

وخلال تلك الإقامة في كنف أعمامه وعمته اشترك مع بعض من زملائه الجامعيين في كلية الحقوق في الحركة الوطنية عام 1919، وقد قبض عليه أثناء ها وتم الإفراج عنه بعد عودة الزعيم سعد زغلول.

ومن ثم جاءت روايته «عودة الروح» تعبيرا صادقا عن تجربته الشعورية إزاء هذه الثورة 4.

تابع دراساته حتى تخرج من كلية الحقوق سنة 1925 ونال شهادة الليسانس، لكن شغفه بالأدب كان كبيرا.

رغم معارضة والديه في ذلك، فقد عب من مناهل الأدب عبا ونمى اتجاهه الأدبي. ثم سافر إلى باريس لمواصلة دراسته في الحقوق حيث نال شهادة الدكتوراه.

غير أن طبيعة الشاب الفنان وعاطفته الخيالية صرفته عن دراسة الحقوق إلى الموسيقى والتمثيل، وجرفته إلى المسرح وفنونه.

عاد إلى مصر بعد ثلاث سنوات من إقامته بفرنسا، حيث نزل سنة 1930 بالإسكندرية وعمل بها وكيلا للنائب العام في المحاكم لمدة عامين، كما تولى عدة وظائف أخرى منها: رئيس بوزارة المعارف؛ مدير لمصلحة الإرشاد الاجتماعي؛ صحافي بجريدة أخبار اليوم؛ عضو بمجلس إدارة جريدة الأهرام؛ رئيس للمركز المصري للمسرح التابع لهيئة اليونسكو؛ عضو بالمجلس الأعلى للفنون والآداب 5.

كان النتاج الأدبي لتوفيق الحكيم متنوعا خصبا غزيرا، جعله يعتبر من أكبر الكتاب الروائيين والمسرحيين في العربية. أعماله الروائية والقصصية كثيرة نذكر منها: «عودة الروح» 1933، «يوميات نائب في الأرياف» 1937، «عصفور من الشرق» 1938، «حمار الحكيم» 1940، «زهرة العمر» 1943، «سجن العمر» 1964. ترجمت بعض منها إلى الفرنسية والإنجليزية والروسية والإسبانية، كما مثلت بعض مسرحياته على مسارح باريس وبوخارست.

وتوفيق الحكيم ذو طبيعة عربية خاصة، فهو الرجل الذي يفكر دهرا ليكتب سطرا وهو في تفكيره وكتابته يعيش في عالم لا يشاركه فيه أحد، لذا كان لقب «المفكر» هو اللقب الذي أحبه وفضل أن ينادى به على غرار لقب الكاتب أو الأديب أو الفيلسوف. ولعل هذا ما جعل مسرحياته على وجه الخصوص توصف بـ «المسرح الذهني» الذي عالج فيه كثيرا من القضايا الإنسانية في صورة ذهنية، مما أهلته إلى أن يكون قمة من قمم الثقافة، وظاهرة في تاريخها 6.

مواطن التقارب بين المؤلف والسارد والشخصية في قِصص الحكيم

تتجسد قيمة أي عمل روائي عبر ثلاث أدوات توظف في العملية الإبداعية، وهذه الأدوات هي: المؤلف، والسارد، والشخصية. فإذا كان وعي المؤلف بقيمة شخصيته الروائية يعتمد على مدى ارتباطه بها وقدرته على مسرحتها وعرضها من خلال صوته أو صوت السارد 7، فإن السارد تقع عليه مهمة كبرى في تقديم العمل الروائي إذْ يُعْتمد عليه في إبراز سمات الشخصيات المختلفة سواءٌ تلك السمات التي يُقرّرها السارد، أم تلك التي يمكن اكتشافها من خلال الدور الذي تقوم به الشخصيّة، إضافة إلى أن وضوح بقيّة عناصر السرد، والعلاقة بين تلك العناصر مرتبط أساسا بالسارد نفسه 8.

أما الشخصية فتعد عنصرا رئيسا في العمل الروائي، وذلك يعود إلى مدى ارتباطها بالأحداث التي تدور حولها، ممّا يجعلنا نفهم الشخصيّة من خلال أفكارها المعبّر عنها بالألفاظ والأفعال 9، وإلى مدى تأثيرها في المتلقي، من حيث تفاعله معها أو تعاطفه وتقييمه لها 10.

ومن خلال قراءة عابرة يتبين لأي قارئ مدى حضور هذه العناصر الفنية الثلاثة في روايات توفيق الحكيم، بل ترابطت بشكل وثيق ومتماسك إلى حد التوحد فيما بينها ولاسيما وفق ثلاث علاقات هي: علاقة الرغبة، وعلاقة التواصل، وعلاقة المشاركة.

وقد شكلت كل علاقة من هذه العلاقات محورا أساسيا انحدرت منه مشابهة كبيرة بين المؤلف والسارد والشخصية، حيث رغم أن اسم الكاتب ظاهر للعيان على الغلاف إلا أنه يستعير من تقنيات السرد ما يجعله يتقنع خلف سارد يبتدعه، أو وراء شخصية بطلة يتقمصها. وهذا ما يجعل الباحث ينقب عن روابط تجمع بين المؤلف والسارد بل وحتى محاول إثبات مدى التطابق مع شخصيات الرواية.

أما عن أساليب السرد التي يتكئ عليها الكاتب في تأسيس تلك العلاقات فهي متنوعة، فمنها توظيفه لضمير المتكلم باعتباره الأسلوب الكلاسيكي الأمثل لمثل هذه الحالات حيث يطلق عليه «السرد القصصي الذاتي»11. وهو الضمير الذي يحيلنا على الكاتب تارة، وعلى الشخصية تارة أخرى لنعيش معهما الحدث كأنه أمامنا، كما يكشف لنا عن باطن وخفايا كل واحد منهما.

ويعلل طه وادي استخدام الحكيم لضمير المتكلم بقوله: «إن الراوي يستخدم ضمير المتكلم، لا ليوجد علاقة بينه وبين الواقع، وإنما ليرتفع بعيدا عنه، ويبرئ نفسه من سلبياته، فانتماؤه ينحصر في تعرية الواقع ونقده، وعلى الإشارة إلى موضع العلة فيه» 12.

ونجد من بين أكثر روايات توفيق الحكيم التي جسدت ذلك التطابق بين كل من المؤلف والسارد والشخصية روايتيْ «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» اللتيْن يمكن تسجيلهما في جنس السيرة الذاتية الروائية أو رواية السيرة الذاتية.

التقابل بين المؤلف والسارد

تُعَدُّ قصة «عودة الروح» كما قال محمد حسين الدالي، «القصة المصرية الأولى التي أرخ ظهورها عهدا جديدا وفتحا مبينا في تاريخ الأدب المصري، فهي مصرية بمؤلفها، ومصرية بأبطالها، ومصرية بوقائعها، ومصرية بدمها الذي يجري في شرايينها، ومصرية بهذه الصفحات التي يجد فيها المؤلف الفلاح المصري والثورة المصرية» 13. وقد جسد الحكيم التقابل بين الأنا والآخر في هذه الراوية إلى حد بعيد، وسنحاول مقاربة هذه الرؤية من خلال التقابل الذي أقامه بين بعض شخصيات الرواية.

يعرض توفيق الحكيم في مقدمة روايته «سجن العمر» دافع كتابته لروايته «عودة الروح» قائلا:

«أما عودة الروح مهما يكن من قيمتها فهي عمل شخصي لحياة إنسان بالذات لن تتكرر، ولن أستطيع أن أقول عنها: فلننتظر فسيأتي إنسان آخر ليكتبها، (...) فهي انفعالي أنا التي لا يحسها غيري» 14.

وهذه إشارة واضحة إلى أن الحكيم/المؤلف يريد أن يقدم لنا نفسه أنه في نفس الوقت هو السارد لتلك التجربة الذاتية التي دفعته لتأليف نصه الروائي، مما يوحي بالتقارب بين المؤلف والسارد.

وفي موطن آخر من الرواية، يسرد المؤلف جانبا من حياته على لسان ضمير السارد المتكلم فيقول:

«أما من حيث الموضوع فإني لم أردْ أنْ أجعلها سجلا لتاريخ بقدر ما أردتُ أن تكون وثيقة لشعور شاب صغير في وسط مرحلة خطيرة لبلاده»15.

ويرى عبد الملك مرتاض أن ضمير المتكلم: «يجعل الحكاية المسرودة مندمجة في روح المؤلف، فيذوب الحاجز الزمني ما بين زمن السرد وزمن السارد، كأن ضمير المتكلم يُحيلُ على الذات ويستطيع التوغل إلى أعماق النفس البشرية فيعريها بصدق، ويكشف عن نواياها بحق، ويقدمها على القارئ كما هي، لا كما يجب أن تكون» 16.

ثم يقدم لنا بعد ذلك توفيق الحكيم السارد باعتباره شخصا عارفا بمحيطه، ملما بكل الأحداث، مما يوحي بمدى امتزاج السارد بتفاصيل المكان ودقائقه، وهذا ما يبدو واضحا في حديثه عن بعض من أثاث أسرته في قوله:

«وخزانة واحدة كخزانة الخطاطين، مخلوعة إحدى عارضتيها، فيها ثياب من كل لون ومقاس وبعضها ملابس بوليسية رسمية بأزرار نحاسية، وآلة موسيقية عتيقة بمنفاخ» 17.

وفي رواية «يوميات نائب في الأرياف» استخدم الحكيم أسلوب السارد المتكلم، وهذا المتكلم هو وكيل النيابة في الريف، وهو يتحد مع المؤلف في قوله:

«وأنا لن أنسى ذلك اليوم الذي دعاني فيه رجال الإدارة إلى حفلة عَشاء في ذلك النادي مع القاضي المقيم تكرما لزميل لهم منقول، ولم أستطع الاعتذار فذهبت» 18.

على أن في مجمل هذه الرواية، يبلغ الطابع السردي بعدا كبيرا إلى حد أن يلتصق فيه بالمؤلف مصرحا بجوانب عديدة من حياته، ولا سيما بعمله كنائب في القضاء حيث يقول:

«لماذا أدون حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها، إنما يحياها، إن أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة، إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد، هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعا» 19.

ونلاحظ في هذا المقطع أن المؤلف اتخذ من ضمير المتكلم أداة لتشكيل الشخصيات، فجاءت أحداث اليوميات وكأنها سيرة ذاتية تبين مدى التصاقها بمؤلفها أو غيره من الشخوص التي يرغب القاص في نقلها إلى المتلقي 20.

التقابل بين السارد والشخصية

تبرز التحليلات التي توحي بعلاقة الترابط بين السارد والشخصية في روايات الحكيم، من خلال تمظهر ذات السارد في ماهية الشخصية، حيث يدخل في أغوار الشخصية مبينا جزءا من خصوصياتها، ومدققا في تفاصيلها، على غرار ما نراه في وصفه لزنوبة:

«فَخَفَضَتْ زنوبة رأسها ولم تجب، وقد ضغطت على نفسها حتى لا تتنهد (...) وفجأة مر بخاطرها فكرة اضطربت لها قليلا، وعادتْ متشاغلة بعملها في غير اكتراث، ولكن عقلها جعل يفكر ويبحث»21.

ويستمر الضمير السردي الغائب في عرض تفاصيل ذاتية، شديدة الرباط مع الشخصية الرئيسية محسن حين وصف ملامحه بعد أن سمع مديحا من عمته زنوبة عندما ارتدى ثيابا جديدة فقال:

«احمر وجه محسن قليلا لهذا الإطراء، غير أن هذا المديح بدل أن يملأ قلبه ارتياحا وغبطة، أحدث في قرارة نفسه وخزة غريبة» 22.

وفي موضع آخر، يرصد السارد تحركات محسن ويتقمص دخوله وأندريه لمحطة القطار في قوله:

«وانطلق الفتى متحمسا (...) ولم يفطن إلى أندريه، وقد قاده من ذراعه، ونزل به إلى إحدى محطات المترو، وابتاع له تذكرة في الدرجة الثانية، وأركبه قطارا مرق بهما من جوف الرض مروق لسان محسن بذلك الحدث اللذيذ» 23.

ثم يسعى السارد إلى استنطاق الشخصية الرئيسية بآرائه وأفكاره، وذلك ما نراه حين حاول تجسيد حالة محسن بعد سماعه عبارة عن التعبيد، فقال:

«تنبهَ لهذه العبارة، فلمعتْ في عينيه ببريق غريب، ثم لم يلبث أن استأذن من الحاضرين في الصعود إلى حجرته، فأذنوا له باسمين، فصعد، وجلس إلى مكتبه في الظلام» 24.

ثم يصف السارد لحظة توجه الشخصية الرئيسية محسن صوب سنية، تلك الجارة التي أحبها ولم يجرأ على البوح لها بذلك، إلى أن:

«مشى غليها في سكون، حتى حاذاها، ونظر معها حيث تنظر (...) وأحست سنية قربه فبغتت قليلا، ثم استقامتْ، ومدت يدها إليه مسلمة مرحبة له في سرور وحماسة» 25.

من خلال ما سبق، يتضح لنا أن السارد تمكن من رسم شخصياته الرئيسية وتحليلها ومعرفة ما تعرفه فصاحبها في رؤيتها، ودخل معها في علاقة تطابقية الرؤية 26، وهذا ما سماه تشومسكي بــ"السرد الذاتي" الذي يتبادل فيه السارد مع الشخصيات المعرفة بمسار الوقائع 27.

التقابل بين المؤلف والشخصية

أما النوع الثالث من التماثل، فيتجسد في العلاقة بين الشخصية والمؤلف، حيث يرى الكثير من النقاد أن الشخصية في داخل المجتمع المتخيل ما هي إلا انعكاس للتجارب المعيشة في الواقع، وأن براعة الكاتب إنما تكمن في إضفائه الحياة على تلك الشخصية في رصد سلوكها الخارجي وأفكارها وأحاسيسها الداخلية وردود أفعالها على الحوادث الخارجية لتشكل الشخصية البؤرة المضيئة ومركز إشعاع للمعاني الإنسانية ومحور الأفكار والآراء العامة 28.

ونستطيع أن نستلهم نقاط تطابق أو تشابه بين شخصية محسن في «عودة الروح» والمؤلف نفسه، وذلك من خلال الجدول التالي:

جدول تابع لبحث بغداد عبد الرحمن

وبعد هذه المقارنة، يتضح أن رواية «عودة الروح» ما هي في الحقيقة إلا صفحة من سيرة توفيق الحكيم، وإن كان صاحب الرواية لم يصرح بذلك علنا إلا أنه أكد من جهة أخرى على أن هناك صلة وثيقة بينه وبين الشخصية المحورية، محسن، حيث قال:

«الصلة بين عودة الروح وعصفور من الشرق وبيني، هي نفس الصلة الروائية المعتادة عند الروائيين جميعا، عندما يكتبون على أساس التجربة الشخصية مع التصرف الذي تفرضه الحبكة الروائية (...) وهذا لا يمنع من وجود بذور للتجربة الشخصية في الروايتيْن، التجربة التي حدثتْ للمؤلف، ولكن التأليف الروائي اقتضى بعض التغييرات والتعديلات التي تخرجها قليلا عن الترجمة الذاتية المباشرة (...) فأنا محسن في عودة الروح، ولكن مع التصرف الروائي» 29.

أما عن نقاط ارتباط المؤلف بالشخصية في رواية «عصفور من الشرق» فإنها تظهر بوضوح في صورة محسن التي رُسمت في النص، على أنه شاب شرقي، قدم فرنسا لإكمال دراسته، وسعى للحصول على الدكتوراه في الحقوق بالإضافة إلى حديثه عن القهوة والأمريكية ذات العيون التي تشبه في زرقتها ماء بحيرات الجنة 30، وهي نفس المحطات التي مر بها الحكيم وعاشها بفؤاده وإحساسه.

وهناك أيضا إشارات الفتاة «إيما» التي أحبها بطل الرواية محسن وكان مترددا في مصارحتها بذلك الحب، لولا تشجيع من صديقه «أندريه» وزوجته «جرمين» حيث قدم لها الببغاء كهدية 31، وهي نفس الفتاة التي تحدث عنها الحكيم قائلا: «أحببتها وأحبتني وألهمتني عصفور من الشرق» 32.

وبعد هذا العرض الذي استلهمنا من خلاله أوجه التماهي الجلية بين المؤلف/توفيق الحكيم وبين الشخصية/محسن، سواء في «رواية عصفور من الشرق» أو «عودة الروح»، يمكننا القول إن هذا التشابه وصل في مواضع كثيرة إلى حد التوحد والمطابقة التامة، ولعل سبب ذلك يعود إلى أن: «حياة الشخصية قريبة جدا من حياة الكاتب، بحيث يعتقد القارئ أن الكاتب ربما يقوم بسرد سيرة حياته، مع ما يضيفه من عنصر الخيال الضروري لتكوين أو استكمال النسيج الفني للرواية بالعناصر المطلوبة» 33.

خاتمة

بعد هذه الوقفة مع موضوع تطابق العناصر الفنية الثلاثة: المؤلف والسارد والشخصية في بعض من النماذج الروائية لتوفيق الحكيم، توصلنا إلى النتائج التالية:

أولا: يشكل التشابه بين كل من المؤلف والسارد والشخصية من العناصر اللافتة للانتباه في روايات توفيق الحكيم إلى حد التطابق بل التوحد فيما بينها لأن نصوصها ارتبطت بحياة صاحبها. وثانيا: أفرزت الروايات عن حقبة من حياة الحكيم التي تشكلت فيها رؤيته الفنية، ونمتْ فيها موهبته الإبداعية التي أحالها مرآة عاكسة بصدق لمجتمعه المصري.

إضافة إلى ما سبق، توسل الحكيم من توظيفه للتقنيات الروائية الثلاث: المؤلف، والسارد، والشخصية أن يُضْفيَ على نصوصه الحيوية والواقعية اللازمتيْن، وتحقيق كل عنصر من تلك العناصر الثلاثة أهدافه سواء بشكل علني أو سري كما تبين ذلك في عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف» و«عصفور من الشرق».

وأخيرا، يمكن للباحث أن يستنتج عبر نصوص توفيق الحكيم الروائية أنه لم يقْصرْ حديثه فيها على محطات من سيرته وتجاربه الخاصة، وإنما قرنها أيضا بحياة المجتمع المصري وبظروفه السياسية والاجتماعية وبصراعاته الفكرية والثقافية، وذلك على عادة أدباء القرن التاسع عشر الذين ترجموا أحوال بيئاتهم في مؤلفاته الأدبية، خاصة تلك المتعلقة بحياتهم الشخصية المباشرة منها أو التي لجأ فيها إلى التعتيم.

= = = = =

إحالات البحث

1. أوستين وارين ورينيه ويليك، نظرية الأدب، ترجمة: عادل سلامة، الرياض، دار المريخ للنشر، د.ط، 1992، ص93.

2. أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر في أعقاب ثورة 1919، القاهرة، دار المعارف، ط 4، 1983، ص 149.

3. محمد حسين الدالي، عملاق الأدب توفيق الحكيم، القاهرة، دار المعارف، ب.ط.، 1979، ص 17.

4. المرجع نفسه، ص 18 و19.

5. المرجع نفسه، ص 20 و21.

6. أمينة فارس، توفيق الحكيم ناقدا بين التراث وغربة المعاصرة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ص 53.

7. وين بوث، بلاغة الفن القصصي، ترجمة: أحمد عرادات وعلي الغامدي، الرياض، جامعة الملك سعود، 1994 ص202 و203.

8. Gerald Prince. A Dictionary of Narratoloy - University of Nebraska – Press - 1987- p.22

9. بيرسي لوبوك، صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، بغداد، دار الرشيد للنشر، 1981، ص 68.

10. وين بوث، بلاغة الفن القصصي، ص 286.

11. فيليب لوجون، السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة: عمر حلي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص 25.

12. طه وادي، صورة المرأة في الرواية المعاصرة، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1984، ص 103.

13. محمد حسين الدالي، عملاق الأدب توفيق الحكيم، ص 150.

14. توفيق الحكيم، سجن العمر، القاهرة، مكتبة الآداب، ص 146.

15. توفيق الحكيم، عودة الروح، القاهرة، دار الشروق، ط 1، 2005، ص 165.

16. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد 240، 1998، ص 159 و160.

17. المرجع نفسه، ص 9.

18. توفيق الحكيم، يوميات نائب في الرياف، القاهرة، ط 2، 2007، ص 45.

19. المصدر نفسه، ص 5.

20. عبد الرحمن عمار، بنية التشابه بين المؤلف وشخصياته الروائية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2007، ص 36.

21. توفيق الحكيم، عودة الروح، ص 18 و65.

22. المصدر نفسه، ص 13.

23. توفيق الحكيم، عصفور من الشرق، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط 2، 1980، ص 9.

24. المصدر نفسه، ص 40.

25. توفيق الحكيم، عودة الروح، ص 210.

26. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد 164، 1992، ص 308.

27. حميد لحمداني، بنية النص السردي، ص 48.

28. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، القاهرة، دار النهضة، مصر للطبع والنشر، ب.ط. 1973، ص563.

29. توفيق الحكيم، ملامح داخلية، القاهرة، مكتبة مصر، ص 148.

30. توفيق الحكيم، عصفور من الشرق، ص 12.

31. المصدر نفسه، ص 65.

32. توفيق الحكيم، ملامح داخلية، ص 32

33. عبد الرحمن عمار، بنية التشابه بين المؤلف وشخصياته الروائية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2007، ص 41

مراجع البحث

(1) الروايات:

1. توفيق الحكيم، سجن العمر، القاهرة، مكتبة الآداب.

2. توفيق الحكيم، عودة الروح، القاهرة، دار الشروق، ط 1، 2005.

3. توفيق الحكيم، يوميات نائب في الرياف، القاهرة، ط 2، 2007 .

4. توفيق الحكيم، عصفور من الشرق، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط 2، 1980.

5. توفيق الحكيم، ملامح داخلية، القاهرة، مكتبة مصر .

(2) المراجع العربية:

1. أحمد هيكل، الأدب القصصي والمسرحي في مصر في أعقاب ثورة 1919، القاهرة، دار المعارف، ط 4، 1983.

2. أمينة فارس، توفيق الحكيم ناقدا بين التراث وغربة المعاصرة، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة.

3. أوستين وارين ورينيه ويليك، نظرية الأدب، ترجمة: عادل سلامة، الرياض، دار المريخ للنشر، د.ط، 1992.

4. حميد لحمداني، بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1993.

5. محمد حسين الدالي، عملاق الأدب توفيق الحكيم، القاهرة، دار المعارف، ب.ط.، 1979.

6. وين بوث، بلاغة الفن القصصي، ترجمة: أحمد عرادات وعلي الغامدي، الرياض، جامعة الملك سعود، 1994.

7. بيرسي لوبوك.، صنعة الرواية، ترجمة: عبد الستار جواد، بغداد، دار الرشيد للنشر، 1981.

8. فيليب لوجون، السيرة الذاتية الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة: عمر حلي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994.

9. طه وادي، صورة المرأة في الرواية المعاصرة، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، 1984.

10. عبد الرحمن عمار، بنية التشابه بين المؤلف وشخصياته الروائية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2007.

11. محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، القاهرة، دار النهضة، مصر للطبع والنشر، ب.ط.، 1973.

12. عبد العاطي كيوان، الشخصية المصرية في الشعر الحديث، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ط 1، 2000.

13. عبد الله إبراهيم، السردية العربية، بحث في البنية السردية للموروث الحكائي العربي، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1992.

(3) الدوريات

1. عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد 240، 1998.

2. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد 164، 1992.

(4) المراجع الأجنبية

Gerald Prince. A Dictionary of Narratoloy. University of Nebraska Press. 1987

D 26 حزيران (يونيو) 2014     A بغداد عبد الرحمن     C 0 تعليقات