محمد صالح البحر - مصر
يخيل إليّ أنني مثقف
يملأنا الاستغراب من ظاهرة التدين الشكلي التي يعج بها المجتمع. كل هذه الغيرة الخارجية على الدين دون أن يسأل أحدنا نفسه: هل أنا متدين فعلا؟ و"متدين فعلا" هذه أعني بها مضمون الدين وجوهره، بحيث يصبح صحيح السؤال: هل أنا ملتزم فعلا بالأخلاق الدينية في سلوكي وكلامي ومعاملاتي؟
بالطبع لا أحد يسأل نفسه، لأن ذلك سيعني بالضرورة مواجهة صريحة مع النفس، وهو ما نهرب منه دوما، أو تربينا على الهروب منه، أو هو غير موجود أصلا في قيم التربية التي ننتهجها.
تأمل هذا الأمر جَرَّني إلى تأمل بقية الأمور التي تتعلق بحياتنا كلها، السياسة والثقافة والتعليم والعمل والحب والكُره والاقتصاد، وغيرها، لأجد أن وجودنا فيها لا يعدو إلا أن يكون وجودا خارجيا أيضا.
إننا نُربي أولادنا حسب وجهة نظرنا، ونتعلم حسب ظروفنا الاقتصادية، ونعمل بحسب الواسطة أو الرشوة أو الصدفة أو الفهلوة والتبعية، ونكره لأسباب شخصية جدا، ونحب على أن تظل قصة حبنا دائما عُرضة للتكسر على أول عتبة خلاف بيننا مهما كان واهنا، أو بلغ ضعفه ضعفنا الإنساني في مواجهة العالم.
ومع ذلك نمتلك الجرأة على رفع أيادينا إلى الله لطلب العطاء فقط، بل والتذمر على تأخر الاستجابة، فقضاؤه هو ما نحن فيه من عجز وقلة حيلة، وأننا شرقيين إلى هذه الدرجة، وسنظل كذلك.
نحن سبّاحون مهرة جدا على سطح الماء، لكننا لم نترب، ولم نجرب، أبدا الغوص إلى عمق البحر، وبالتالي ليس لدينا فكرة حقيقية عن حقيقة جوهره، ولا جوهر الكائنات التي تشكل وجوده في الأسفل العميق الصامت وغير الظاهر. نكتفي بمشاهدته في التليفزيون، أو نقرأ عنه، أو حتى نكتفي، كما في أغلب الأحيان، بمجرد الاستماع إلى وصف مبسط له، مجرد فكرة سريعة، وحقائق متناثرة، تمكننا من القول إننا نمتلك الخبرة الكافية للعوم على سطحه، بل وإجراء المسابقات التنافسية فيما بيننا، بينما تظل الحقيقة أننا، كمجتمع ونظام، بلا ثقافة جامعة، أو معايير ثقافية ثابتة يمكن أن نحتكم إليها. لذا ينطوي كل منا تحت غطاء ما يسميه "وجهة النظر" التي اكتسبها من مرات العوم الخارجي، وليس الغوص، ويرى أنها الصح في مقابل أخطاء كل الآخرين.
وهكذا أيضا تتجلى ثقافة الاختلاط العشوائي فيما بين وجهات النظر المختلفة والمتناقضة، حيث لا توجد صورة ذهنية ثقافية صافية وخالصة الانتماء إلى شيء بعينه داخل عقل كل منا، فالمتدين يسب الدين في أقرب شجار، واليساري لا يخلو حديثه أبدا من ذكر الله، والليبرالي على أتم الاستعداد للكفر بالديموقراطية وحرية الفرد والفكر والتعبير إذا تعارض ذلك مع مصالحه، والمثقف يوجد بضميره دوما عكس كل الذي يتفوه به في المنتديات، وتحتفظ جيوبه بآلاف الأقنعة حسب الطلب أو الموقف أو الشخص الذي هو بصدده.
والبلطجي يمتلك قدرا لا بأس به من الحنان والحب والحرية مع أصدقائه، أو داخل بيته مع الزوجة والأولاد، بحيث سيصعب عليك تماما التعرف عليه في الشارع، أو في ميدان التحرير مثلا.
هل يمكننا في ظل هذا الاختلاط العشوائي أن نفسر تلك المسحة من التدين التي تصيب معظم اليساريين في أواخر العمر، أو عند الشعور بقُرب عزرائيل منهم؟ أو تلك التوبة المفاجئة للسارق والبلطجي والعاهرة في ذات اللحظة العمرية، أو عند ذات الشعور؟
وحتى يتم العثور على تلك المعايير التي يمكن أن تكون حكما بين اختلافاتنا الكثيرة والعميقة، سنظل نطفو على السطح، بلا هدف ولا غاية، حتى التسابق سيفقد طعمه مع الأيام، وسنصير مثل كل الزبد الذي يطفو، وتُسيره الرياح حيث تشاء، على سطح بحر لا نهاية لامتداداته، ولا لأمواجه المتقلبة.
وفي أواخر كل عمر، أو حدث أو كارثة أو ثورة، سنظل نلتقي ببعضنا كل يوم، شريطة أن يكون ذلك على مقهي قريب من بيوتنا الهشة كهشاشتنا تماما، ليسأل كل منا الآخر بلا انتظار لإجابة محددة أو معينة: كم مرة سبحت هذا اليوم؟
◄ محمد صالح البحر
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
يخيل إليّ أنني مثقف, ولاء المصري فلسطين | 27 حزيران (يونيو) 2014 - 18:20 1
الأمر أشبه بأزمة الوعي التراكمي وفلسفة الادراك في عقول المثقفين او النحبة منهم بشكل خاص التى تحد من آهليتهم للأندماج في المجتمعات قسرا ورغما عن نفوسهم التى تعافه وليس قصورا من جهتهم او تقصيرا منهم قياسا على التفاوت في المقدرات الفكرية فيؤثرون الكتابه وترافقهم العزله ولو كانوا بين عشرات الاشخاص وان تكلموا وحتى دخلوا في نقاشات انه انقضاء أجل الاحتكاك الفعلي
في المجتمع هذا لا يسعني أن اقول الا ما بين كرة النار التى تلتهب وكرة الثلج التى تتدحرج لن تنفع أنصاف الحلول في التعامل مع كل هذه الطروحات التى جاءت في المقال وانما يلزم تمشيظ شامل للازدواجية وتقبل التباين ضمن المتاح الذي يبدأ بتعليم فلذات الاكباد منذ نعومة اظافرهم في مدارسهم كل ما ينفعهم ويأخذ بأيديهم الى السوي بعيدا عن العبث
مقال مهم استاذ محمد يفتح البصيرة على اعداء كامنه دواخلنا للأسف
1. يخيل إليّ أنني مثقف, 29 حزيران (يونيو) 2014, 13:51, ::::: محمد صالح البحر - مصر
يخيل إليّ أن أزمة اندماج المثقفين في المجتمع هي نتيجة أكثر من كونها فعلا ينبغي تحليله لمعرفة الأسباب والبحث عن حلول، فالإدراك الذي هو نتيجة للإلمام الثقافي العريض المكون للوعي ليس صحيحا في ذاته، ذلك أن مكوناته ليست صحيحة في الأساس، أليس من الصعب الآن أن نشير إلي وجود ثقافة عامة تشمل القطاع الأكبر من المجتمع، وتمثل قيمه وأخلاقياته ومبادئه؟ ألسنا بإزاء منظومات تتعمد تخريب التعليم وتسطيح الفكر واستهلاكية السلوك؟ كل ذلك وغيره من الأسباب التي تؤدي إلي عدم وجود ثقافة كلية تشكل أساسا للانطلاق نحو آفاق قادرة علي التطوير الفكري، هي التي تخلق التشوش الإدراكي لدي المثقفين، لذا قد تبدأ الحلول من النشء الصغير لكنه يحتاج إلي إرادة الكبار أيضا القادرة علي إدخاله في التجربة، ممتن لمرورك الرائع أ. ولاء المصري