د. إدريـس بن خـويا - الجزائر
المصطلح النحوي والبلاغي في الموروث العربي
كانت لقضية المصطلح أهمية كبرى في التراث اللساني العربي، حيث اعتمد علماء العربية على أسس متعددة في وضع المصطلحات اللغوية مثل الاشتقاق والنحت والتعريب، فكانت اللغة العربية لغة غنية بالألفاظ مما أكسبها المرونة في التعبير عن مستجدات الحياة التي كانوا يعيشونها، فنرى عنايتهم الفائقة بالألفاظ ومراعاتهم لها بالتصليح والتهذيب والإحكام، فكان اهتمامهم بالمعاني، وذلك بتخير أحسن الألفاظ لتأديتها وإظهار أغراضها ومراميها، لتصل بها إلى الدلالة على القصد.
كثرة مفرداتها وتفرعها وتعدد طرق ترتيبها وتركيبها وتنوع الاشتقاقات اعتمادا على القياس، كان وسيلة لوضع المصطلحات الخاصة بالعلوم آنذاك، وصياغة ألفاظه تتميز عن اللغات الأخرى في ذلك الوقت كاليونانية، واللاتينية، والفارسية. والدليل على ذلك أنها استطاعت احتواء التراث الذي خلفته تلك اللغات، فترجمت إلى العربية في عصر المأمون كتب فلاسفة اليونان وعلومهم. وقد سَهُلَ على أبناء العربية والرياضيات والطبيعة لما شرعوا في نقلها لما تميزت به العربية من ثراء في مفرداته وإمكانية في تخير الألفاظ المناسبة1.
وقبل أن نعرض لطبيعة المصطلح في اللسان العربي لا بد أن نحدد مدلوله ووروده في المعاجم العربية، ففي لسان العرب لابن منظور قال: "الإصلاح ضد الفساد، وأصلح الشيء بعد فساده أقامه، والصلح، تصالح القوم بينهم"2. أما عند الجوهري في صحاحه فإن " الصلاح ضد الفساد والإصلاح نقيض الفساد"3. ونجد أبا الحسن علي بن محمد الجرجاني قد أبان أكثر عن دلالة المصطلح فقال: "الإصلاح عبارة عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينتقل عن موضعه الأول"4.
وإن خلت هذه المعاجم من ورود لفظ المصطلح بصيغته، إلا أن مدلوله كان موجودا، فانتقل معنى (الصلح) للدلالة على الاتفاق فكانت كلمة الاصطلاح التي أصبحت تدل على الخصوصية مع تكون العلوم في التراث اللساني العربي فصارت تعني كلمتا (الاصطلاح) و(المصطلح) مكان (الكلمات أو الألفاظ).
وتتفق المعاجم العربية على أن الفعلين الخماسيين (اصطلح وتصالح) والفعل السداسي منهما (اصالح) لها دلالة واحدة ترمز إلى اتفاق القوم وتوافقهم ووفاقهم، خلاف تضادهم واختصاصهم. وهو المعنى الذي يقرب جدا من دلالة المصطلح، ما دام وجود المصطلح مرهونا بتصالح واصطلاح مجموعة من أفراد الحقل العلمي على وضعه.
كما أن لفظ مصطلح له علاقة وطيدة بلفظ احتصل المشتقة من حصل وهو أقرب إلى هذا اللفظ من صلح كون الأمر الحاصل من كل شيء هو الثابت منه، والتحصيل هو التمييز، وهو قريب من البيان، فمدلول اصطلح أقرب إلى مادة حصل وبعض من مشتقاته من أقرب إلى مادة صلح نفسها5.
إن ظهور أي حضارة يصاحبه كم هائل من المفاهيم والمصطلحات التي تعبر عن ثقافة هاته الشعوب سواء كانت متقدمة أم متخلفة، فلكل تراث مصطلحات تعبر عن علومه حتى اللغوي منها، مما جعل التراث العربي يزخر بكم هائل من المصطلحات وذلك بتنوع علومه اللغوية كالمصطلح النحوي والبلاغي والصوتي وغيرها من العلوم التي يختص كل منها بمصطلحات خاصة تعبر عن مضمونها.
في الشعر مثلا نجد مصطلح التشيبب وفي علم البلاغة نجد مصطلح الترشيح، وفي النحو نجد مصطلح العمدة، وكلها مصطلحات قديمة كانت تعبر عن مفاهيم محددة دعت إليها طبيعة حياة العرب في الجاهلية وما بعدها، وإن كانت مصطلحات لغوية إلا أنها تتميز بالخصوصية في التعبير عن الدلالة اللغوية، ناهيك عن العلوم الأخرى التي نشأت في رحاب الحضارة الإسلامية، وما ولدته من مصطلحات علمية لا يمكن إحصاؤها في ميادين مختلفة تكفل مجموعة من العلماء واللغويين بحفظها من خلال كتب وضعوها في هذا المجال نذكر من بينها: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي (ت1185هـ)؛ وكتاب التعريفات للجرجاني (ت816هـ)؛ وهما الكتابان اللذان استطاع صاحباهما أن يعتمد منهجية دقيقة في ضبط المصطلحات تشابه المنهجية الحديثة في علم المصطلح اللساني الحديث نظرا لاستطاعتهما تحديد الإطار الدلالي للمفهوم العلمي.
وقد تطورت المصطلحات العربية بتقدم علومها، وخضعت بذلك لسنة النشوء والارتقاء، والتغير الدلالي، واعتمد أصحابها في ذلك على أساليب التوليد والاشتقاق التي تقوم عليها اللغة العربية بناء على خصائصها المتميزة، وسأحاول هنا أن أعرج على أبرز المصطلحات اللغوية التي تميزت بها أهم العلوم العربية في التراث اللساني.
المصطلح النحوي
أدرك رواد اللغة العربية أهمية المصطلح النحوي منذ البداية الأولى لنشأة علم النحو العربي خاصة بالتأليف المعجمي، لذلك يقول أبو الفرج محمد أحمد: "وكثير من اللغويين يعتقدون صلة دراسات النحو بين المعنى ويجعلون دراسة اللغة في النحو"6، فعمد هؤلاء إلى وضع العديد من المصطلحات العلمية عامة والمصطلحات النحوية بخاصة لإظهار الفروق التي بين المعاني، ولإبعاد المتكلم عن الوقع في الفساد الدلالي واللحن.
على سبيل المثال، ارتكز ابن منظور في وضع معجمه على ذلك الكم الهائل من المصطلحات النحوية الذي ساعده كثيرا في تصنيف مادته المعجمية التي تبرز في تلك الصور النحوية كأن تكون فعلا ماضيا أو مضارعا أو مسندا إلى ضمير فاعل. وإذا تتبعنا تلك المصطلحات النحوية نجد أنها مأخوذة من واقع الحياة العربية، فنقول مثلا:
"الظرف وعاء كل شيء، حتى أن الإبريق ظرف لما فيه الليث، والصفات في الكلام التي تكون مواضع لغيرها تسمى ظرفا لما فيه وهو موضع لغيره. وقال غيره: الخليل يسميها ظروفا والكسائي يسميها المحال، والفراء يسميها الصفات، والمعنى واحد"7.
فالمتتبع لهذه المسألة يرى الاختلاف واضحا في الاصطلاح بين الكوفيين الذين يسمون الظرف الصفة والمحل، والبصريين الذين يسمونه بالظرف وهو المصطلح الشائع والمستعمل إلى يومنا هذا في الدراسات النحوية، وقسموه حينها إلى نوعين: ظرف لغوي وظرف استقراري8.
ولهذا نرى ضرورة تتبع المصطلحات النحوية في المعاجم اللغوية لما يشكله هذا الموضع من أهمية معتبرة في ظل الدراسات اللسانية الحديثة، لمعرفة أصول المصطلح النحوي العربي أمام دعوات التيسير والتجديد فيه ليتماشى والتطورات الحديثة، وحاجات المتعلم التعليمية في هذا الباب.
وسأقف عند أهم المصطلحات النحوية لإبراز معانيها، وأهمها مصطلح التركيب وعلاقته بالإعراب الذي هو في حقيقة الأمر علم النحو؛ فالتركيب إذن يختص بدراية العلاقات داخل نظام الجملة، انطلاقا من حركة عناصرها وانسجامها مع السياق الذي وضعت فيه في كلام تام ومفيد.
أول من أدرك هذا المصطلح هو عبد القاهر الجرجاني وسماه بنظرية النظم وذلك في كتابه الدلائل، ويقصد بالنظم التركيب، هذا ما قصده في قوله:" واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علما لا يعترضه، أن لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبنى بعضها على بعض، وتجعل هذه سبب ذلك"، فعملية النظم عند الجرجاني يعنى بها توخي معاني بين عناصر الكلم وذلك بتلاؤم الأجزاء في الجملة تلاؤم الحروف والحركات في الكلمة الواحدة9.
فالجرجاني عندما تعرض لنظريته هذه تحدث عن اللفظ والنظم الذي يعني التركيب في المفهوم الحديث، ورأى أنه لا مفاضلة بين الألفاظ خارج السياق، فهي "لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها هذه الفضيلة، وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها، وأن ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينك تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر"10.
وقد دأب العلماء النحويون على هذا المصطلح وأفاضوا فيه، ورأوا أن الكلام تركيب لا تتم فائدته إلا بتوفر عنصرين أساسيين فيه، فقالوا إن الجملة تتشكل من ركنين أساسيين؛ المسند والمسند إليه، ولا يتضح معناه إلا إذا توفرت عليهما، فلا يصح في عقل أحد أن يتفكر في معنى دون أن يريد إعماله في اسم، ولا أن يفكر في معنى اسم دون أن يريد إعمال فعل فيه وجعله فاعلا له، أو مفعولا، أو يريد جعله مبتدأ، أو بدقة كل الأبواب النحوية التي هي لب الكلام وأساس بنماء الجملة الصحيحة"11.
وكان سيبويه أول من استعمل مصطلحي المسند والمسند إليه، حيث ذكر في كتابه أنه لا يمكن الاستغناء عنهما، كما أنه لا يمكن أن يستغني أحدهما عن الآخر، فالمبتدأ في الجملة يحتاج بالضرورة إلى خبر يخبر عنه، والفعل في الجملة يحتاج إلى فاعل يقوم به، وكل عنصر منهما عمدة في الكلام والتركيب لا تقوم الجملة إلا به وما عداها فهو فضلة يمكن الاستغناء عنه.
وظل هذا القانون هو المعيار الأساسي في فهم الجملة عند النحاة بعد سيبويه، ومن ذلك الوقت أصبح التركيب اللغوي يتم من خلال تناسق الدلالات وتلاقي المعاني في صورة لغوية يقبلها العقل12، وليس الغرض منه وضع الألفاظ بعضها بجانب بعض بشكل يدخل تعقيدا معنويا على الجملة المركبة ويخل بالنظام العام لها.
لو أحدثنا تغييرا على مستوى التركيب في الجملة آلاتية: راكب ركب فأبركه على الجمل، لـ"ذهبت الفائدة، لأننا ببساطة لم نراع تركيب العناصر في الجملة بأن يكون الفعل قبل الفاعل، وإلى قبل المجرور، ومن ثم ارتبكت العلامات في السياق، وضاع المعنى بسبب تشويش الرتبة بالتقديم والتأخير"13.
وهذا ما جعل المحدثون يدركون أن التركيب اللغوي يخضع إلى نظام وقواعد معينة كالوصل والربط والذكر والإظهار إلى جانب الرتبة والعامل.
الإعراب وعلاقته بالنحو
إذا نظرنا إلى هذين المصطلحين من حيث ورودهما في المؤلفات العربية القديمة نجد هناك خلطا كبيرا بينهما؛ فأحيانا يسمون النحو إعرابا وأحيانا أخرى يسمون الإعراب نحوا، فنجد الجرجاني استعمل عبارة "لا علم له بالإعراب" ولم يقل بالنحو مما يدل على أن المفهومين لديه متساويان في الدلالة عن المقصود، والأمر نفسه نجده عند صاحب شرح المفصل ابن يعيش إذ يرى أن لهما مفهوما واحدا فهو الكلام في أصول الفقه ومسائله قائم على علم الإعراب الذي يقصد به علم النحو14.
ويرجع سبب هذا الخلط بين المصطلحين حسب رأي سليمان ياقوت "إلى أن الإعراب كان سببا في نشأة النحو، فسمي باسمه، واستأثر الإعراب باهتمامهم وأصبح المحور الذي يدور حوله النحو وغيره من الدراسات اللغوية"15.
لكن إذا ما تتبعت المسار التاريخي لهذين المصطلحين نجد أن مصطلح النحو أقدم من مصطلح الإعراب، ذلك إن عليا لما أمر تلميذه أبي الأسود الدؤلي أن يضع قواعد يصون بها اللسان العربي من الانحراف قال له: "أنحو هذا النحو"، فسمى نحوا. ثم أصبح إعرابا يعرب به المتكلم عن كلامه ويبين به عن معناه، ذلك أن النحويين "لما رأوا في أواخر الأسماء والأفعال حركات تدل على المعاني وتبين عنها سموها إعرابا"16 .
ويرى ابن جني أن الكلام في تركيبه لا يكون واضحا المعنى إلا إذا راعينا فيه ضرورة الأحكام النحوية والوظائف اللغوية، فالحركة الإعرابية لازمة للحرف، والحرف نفسه متعلقا بالكلمة، والكلمة لا تؤدي معنى إلا إذا وضعت بجانب أختها في ترتيب تقتضيه العلاقات اللغوية البلاغية منها والنحوية17. ونجد الزجاجي يرد على الذين قالوا بتسكين الكلمات والاستغناء عن الحركات الإعرابية وقصر نظرهم، وأوضح دورا يعده قانونا يحافظ على سلامة اللسان العربي الفصيح18.
ونرى الجرجاني في معرض حديثه عن نظرية النظم يشدد على الأخذ بالنحو في فهم المعاني، فيقول: "قد علمنا علم ضرورة أنا لو بقينا الدهر الأطول نصعد ونصوب ونبحث وننقب، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها ولفظة قد انتظمت مع أختها، من غير أن نتوخى فيما ليستهما مغرض معاني النحوي طبقا ممتنعا"19.
ونرى أنه من خلال عرضنا لمصطلحي الإعراب والتركيب في التراث اللساني العربي أنهما ارتبطا ارتباطا وثيقا بعلم النحو، مع تركيز علماء العربية على مصطلح الإعراب وعدم خروجهم عنه لما يحمله من دلالة تعبر عن مقصود هذا العلم الذي ينحصر في تلك الحركات الإعرابية التي تعرب عن معنى الجملة.
المصطلح البلاغي
يرتبط هذا المصطلح بعلم يشكل ركيزة أساسية في التراث اللساني العربي لم لعبه من دور في منح الخطاب اللغوي الفصاحة في التعبير والدقة في التفصيل والإيجاز في الكلام، هذا العلم الذي ينعت بعلم البلاغة والحديث عن المصطلح البلاغي ليتسع العلم لم يكن بعد قد وصل إلى تحديد معالمه، لما ميز بدايته الأولى من كثرة النقد والاختلاف حول تحديد مفاهيمه كمفهوم الفصاحة والبلاغة و البيان والخطابة والبديع، وكلها مسميات متقاربة من حيث الدلالة.
ولم يتحدد مفهوم البلاغة إلا في عصور متأخرة بدءا من قدامة بن جعفر (ت337هـ) الذي حدد لها تعريفا شاملا يفي بمدلولات هذا العلم19، وصولا إلى صاحب كتاب مفتاح العلوم للسكاكي (ت226هـ) الذي فصل في كتابه هذا بين فنون البيان الثلاثة بعضها من بعض، لما كان له من واسع الاطلاع على علوم المنطق والفلسفة20.
ونجد أن علماء اللغة انقسموا إلى قسمين في تحديدهم ووصفهم لهذه المصطلحات: الفصاحة والبلاغة والبيان والبراعة؛ القسم الأول الذي يقوده الجرجاني يرى أنها ألفاظ مترادفة لا تتصف بها المفردات، وإنما يعبر بها عن الكلام بعد توخي معان النحو الموجودة بين عناصر الكلم حسب الأغراض التي وضعت لها. وكان قبله أبو هلال العسكري الذي رأى أن الفصاحة والبلاغة بتران عن معنى واحد رغم اختلاف أصلهما الاشتقاقي، إلا أنهما يدلان على مفهوم الإبانة والإظهار للمعنى.
وأشار الفخر الرازي إلى أن معظم البلغاء لا يعرفون فرقا بين البلاغة والفصاحة بل يستعملونها استعمال الشيئين المترادفين على معنى واحد في تسوية الحكم بينهما. ويستشهد الجوهري في معجمه الصحاح: الفصاحة = البلاغة.
أما القسم الثاني من علماء البلاغة والذي يمثله المتأخرون وعلى رأسهم أبو يعقوب السكاكي وابن الأثير فيرون عكس ذلك، فرأوا ضرورة إخراج الفصاحة من كنف البلاغة، فجعلوا الأولى أساسا للشيء الذي يبتعد عن تنافر الحروف وغرابة الألفاظ ومخالفة القياس، وجعلوا البلاغة اسما لما طابق مقتضى الحال مع فصاحته، فعدوا البلاغة كل والفصاحة جزءا منه، واعتبروها صفة من صفات المفرد والمركب.
وأشار إلى هذا العسكري، صاحب الصناعتين، معتبرا الفصاحة مقصورة على اللفظ لتعلقه بآلة البيان، والبلاغة هي إيصال المعنى إلى القلب، فهي متعلقة بمدلول المعنى21.
ورود مصطلحات لها علاقة بالدرس البلاغي عند بعض العلماء القدامى
المصطلح عند الخليل
ورد عند الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) في كتابه الجمل مصطلح الاختصاص في معرض حديثه عن وجود النصب فيقول: "قولهم: إنا بني عبد الله نفعل كذا وكذا، نصب (بني) ؛ لأنه اختصاص خص بالفعل، ولم يخبر أنهم بنو عبد الله، كأنه قال: إنا أعني بني عبد الله قال الشاعر:
إنّا، بني تَغلبٍ، قومٌ معاقِلُنَا = = = بيضُ السيوف إذا ما أُفزِع البلدُ.
نصب بني على الاختصاص.
قال الشاعر:
إِنّا بَنِي مِنْقَرٍ، قَومٌ لَنَا شَرَفٌ = = = فِينَا سرَاةُ بَنِي سَعْدٍ وَنَادِيهَا.
وقال رؤبة: بنا تميما يكشف الصبابُ
نصب (تميما) على الاختصاص، ألا ترى أنه أخبر عن الفعل.
وقال آخر: ألم تر أنّا بَنِي دَارِمٍ = = = زُرارةُ فِينَا أَبُو مَعْبد؟ نصب بين على الاختصاص.
وأما قول الآخر: نحن بنو خويلد صراحا، فإنه رفع بني لأنه أخبر أنهم بنو خويلد"22.
وبعد الخليل أصبح مصطلح الاختصاص يحمل دلالات أخرى تعبر عن الندم والمدح، ذلك أن الخليل أومأ إلى أنه ليس المراد به الإخبار في أول نصه مقدما مثال عند خروجه عن دلالة الاختصاص وإتيانه مرفوعا وذلك وارد في آخر نصه.
المصطلح عند سيبويه
ورد لفظ الاختصار عنده مرادفا للفظ للإيجاز ومقابلا للفظ الاتساع، وكلها مصطلحات بلاغية؛ حيث ذكر أن الفعل يستعمل في اللفظ لا في المعنى، فقال: "فمن ذلك أن تقول على قول السائل: كم صيد عليه؟ وكم غير ظرف، لما ذكرت لك من الاتساع والإيجاز فنقول: صيد عليه يومان، وإنما المعنى: صيد عليه الوحش في يومين، ولكنه اتسع واختصر ... ومن ذلك أن تقول: كم وُلد له؟ فيقول: ستون عاما، فالمعنى ولد له الأولاد وولد له الولد ستين عاما، ولكنه اتسع وأجز.
ومما جاء على اتساع الكلام والاختصار قوله تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ23 إنما يريد أهل القرية فاختصر24. ومثله لفظ الاتساع الذي وضحه من قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء25، فشبههم بالمنعوق لا بما ينعق ويقصد بذلك: مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع، فجاء المعنى على سعة الكلام والإيجاز لعلم المخاطب بالمعنى.، كمثل كلامهم في قولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق يريد: يطؤهم أهل الطريق26.
كما تحدث سيبويه عن العلاقة بين اللفظ والمعنى في تحليل دقيق وعرض بلاغي فصيح، فقال: "واعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين؛ فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، نحو: ذهب وانطلق، واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أثرت وجدان الضالة، وأشباه هذا كثير"27.
المصطلح عند الفراء
تعددت مصطلحات البلاغة عند الفراء من بينها لفظ الكناية والتشبيه والاستفهام، فالكناية مثل لها بلفظ (الغائط) في قوله تعالى: أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ28 فهو كناية عن خلوة الإنسان إذا أراد الحاجة. ومن صور الكناية عنده29 كذلك قوله تعالى: وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا 30، ووضح معنى التجلية في ذلك فقال: "جلى الظلمة فجاز الكناية عن الظلمة ولم يذكر لأن معناها معروف، ألا ترى أنك تقول: أصبحت باردة، وهبت شمالاً فكنى عن مؤنثات لم يجر لهن ذكر، لأن معناها معروف"31.
أما حديثه عن التشبيه ووجه الشبه في معرفة تحليله لقوله تعالى: فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ32، قال: أراد بالوردة الفرس. الوردة تكون في الربيع تميل إلى الصفرة، وباشتداد البرد تصبح حمراء اللون، فإذا مر الشتاء أصبح لونها يميل إلى الغبرة، فشبّه تلون السماء بتلون الوردة من الخيل، وشبه الوردة في تعدد ألوانها بمادة الدهن وتعدد ألوانه، وفي قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً33، قال: شبه اليهود والذين لم يسلموا العدم انتفاعهم بالتوراة والإنجيل كمثل الحمار يحمل فوق ظهره علما كثيرا ولا يعلم ما عليه.
أما في معرض حديثه عن الاستفهام فكان يعلم أنه يطلب به التوبيخ إلا أنه قد يخرج إلى معاني أخرى، ففي قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا34. يقول: إن العرب تستفهم بالتوبيخ ولاتستفهم به بمعنى أنه يرد بمعنى الاستفهام وبعدمه، فيقولون: ذهبتَ ففعلت وفعلت، ويقولون: أذهبتَ ففعلت وفعلت، وكلاهما صواب.
وهذا ما جعل الاستفهام يخرج عن معناه للدلالة على الإنكار كما في قوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا35، فقال في ذلك إن العرب من قريش قالت: يا محمد لا تفهم أننا لا نريد الدخول في دينك ولا نؤمن بك ولا نصدقك، لكن العرب على ديننا وبدعوتك تبعدهم عنا فنخسر ما كان لدينا، فأنكر عليهم الله سبحانه ذلك ودحض حجتم: أو لم نسكنهم حرما آمنا لا يخاف من دخله أن يقام عليه حر ولا قصاص"، فكيف يخافون قتال القبائل العربية؟36.
نرى من خلال استعراض المصطلح البلاغي أنه كان يلاقي اختلافا طفيفا بين علماء البلاغة إما في الاسم الذي يعرف به أو في تعدد معانيه، ولم يعرف الاستقرار إلا بعد ظهور كتاب مفتاح العلوم للسكاكي الذي استطاع من خلاله أن يجمع كل ما ألفه علماء اللغة في هذا العلم ليعيد اتساقه وربطه وتوحيد مصطلحاته وتبويبه أحسن تبويب والفصل بين أقسامه، فنال كتابه شرف كبير لدى علماء اللغة والبلاغة المتأخرين.
= = = = =
الهوامش
1= في اللغة العربية، إعداد لجنة من الباحثين، ص 186، مع مقدمة للأستاذ عبد اللطيف شرارة، مؤسسة ناصر للثقافة.
2= دلالة المصطلح التراثي بين الأصالة والمعاصرة، عرابي أحمد، ص264، مجلة المصطلح، جامعة تلمسان، العدد 02، فبراير 2003.
3= المرجع نفسه، ص264.
4= المرجع نفسه، ص264.
5= اصطلاح المصطلح في اللغة العربية، عبد الجليل مرتاض، ص15، مجلة المصطلح، جامعة تلمسان، العدد 01، 2002.
6= المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث، محمد أبو الفرج، ص13، دار النهضة العربية، ط1، 1966.
7= البيان والتبيين، الجاحظ، 1/97.
8= ينظر المصطلح النحوي الأصيل في المعاجم العربية، محمد ملياني، ص217، مجلة المصطلح، جامعة تلمسان، العدد 02، فبراير 2003.
9= دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص76.
10= الأصول، تمام حسان، ص138.
11= دلائل الإعجاز، الجرجاني، ص38.
12= الجملة الفعلية البسيطة، أحمد غرس الله، ص12.
13=ينظر الكتاب، سيبويه، 1/23.
14= الأصول، تمام حسان، ص138.
15= ينظر التركيب وعلاقته بالنحو، لحسن بلبشير، ص215، مجلة المصطلح، جامعة تلمسان، العدد 01، 2002.
16= المرجع نفسه، ص217.
17= الإيضاح في علل النحو، أبو القاسم الزجاجي، ص91.
18= الخصائص، ابن جني، 1/95.
19= الإيضاح، أبو القاسم الزجاجي، ص95.
20= الموجز في شرح دلائل الإعجاز، دك الباب، ص37.
21= في تاريخ البلاغة العربية، عبد العزيز عتيق، ص147.
22= علوم البلاغة، أحمد مصطفى المراغي، ص11.
23= سورة يوسف، الآية 82.
24= علوم البلاغة، ص14-15.
25= سورة البقرة، الآية 171.
26= الجمل في النحو، الخليل، ص66-67.
27= الكتاب، سيبويه، 1/221-213.
28= سورة المائدة، الآية 06.
29= ينظر المصطلح البلاغي قبل الجاحظ، عبد الجليل مصطفاوي، ص128، مجلة المصطلح، جامعة تلمسان، العدد الأول، 2002.
30= سورة الشمس، الآية03.
31= المرجع نفسه، ص128.
32= سورة الرحمان، الآية 37.
33= سورة الجمعة، الآية 05.
34= سورة الأحقاف، الآية 20.
35= سورة القصص، الآية 57.
36= ينظر المصطلح البلاغي قبل الجاحظ، ص129.