نورة عبد المهدي صلاح - فلسطين
إبصار مؤقت
ودعت بصري بعد اثنين وثلاثين عاما أمضيتها بإنارة كل طريق أسلكه، أبدل ملامح الوحدة بكثير من الألفة والحيوية.
في ليلتي الأخيرة من الإبصار، وقبل أن تهب ريح الخذلان لتطفئ جذوة الأمل المؤقت الذي عشته ولم أتمتع بضيائه، عدت بذاكرتي لما كنت أفعله بسنين البراءة عند انقطاع الكهرباء والسهر على ضوء الشموع.
الحائط مسرحي المتواضع، وضوء الشمعة المتراقص يحفز كفي على رسم ظلال الحيوانات بعقد الأصابع: ذاك أرنب يقفز، وتلك قطه تموء. أنسج قصصا يتبعها صوت يغرد فرحا وضحكا في المكان. وإن عاد الضوء من جديد، ألملم مسرحي حيث يلتهم الضوء الساطع رقصة الشمعة في الظلام.
أذكر أني في تلك المرحلة كنت أمسك الشعلة بين أصابعي حتى أطفئها، أنتصر على خوفي من لسعتها وأعيش التوازن بين العتمة والضوء، أرى الحياة بنصفين مختلفين: عين مبصرة ترى الجمال، وأخرى مطفأة كما قدر الله لها أن تكون، لكنها مرآة تعكس كل ما يراه المبصرون.
كبرت، وتوسع خيالي حتى ظننت أن بإمكاني أن أمسك شعاع الشمعة بين أصابعي، وعندما أحرر قبضتي منه يعود من جديد.
لم يفلح خيالي هذه المرة وما جنيت سوى لسعته ورماد أسود محترق، مع الوقت صار هالة من الخوف تلاحقني كلما حلت العتمة.
يعود إلى ذاكرتي في الظلام من تركني اختنق بالرماد بعد أن غاب، ذلك الذي توسمت فيه الخير، واعتقدت أن به نفحة من نفحات الجنة، وبه من النور ما يكفي لينير دربي ويهبني حبه عمرا إضافيا لعمري، ها قد أطفأ قلبي الذي أنتصر على خوفه معه، وأعماني بنور يخدع وحزن لا ينتهي.
هربت من دائرة السواد التي سورها الألم حولي للكتابة، فهي المنارة التي أهتدي بها في ليل الوحدة العاصف، أرفع سقف أمنياتي من الحياة على الورق، وأبني بما تؤمنه مساحة الورقة بيتا لي تعلو فيه الضحكات، أنجب من الأفكار ما يجعل روحي تتوالد هنا وهناك.
لم تسعفني أفكاري العاثرة لأكتب عن تخبطي ووجعي، حلت العتمة على سطح الورقة البيضاء، اندلق الحبر وأغرقها، أربكني شعور اللزوجة والانزلاق من تشبع الورقة بالحبر. كلما أمسكت شيئا تلوث.
استسلمت للعتمة وانزلقت في السرير، لا أعرف هل أغمضت عيني أم أني ألفت العتمة؟ هل نمت أم بقيت مستيقظة طوال الليل؟ أشرق الصباح على فوضى المكان، سرير ملوث بالحبر، أوراق متناثرة، رائحة غريبة، شكل مثير للشفقة، لا وقت لأستمع لفيروز وهي تصدح بأغنيتي المفضلة "كيف حالك خبرنا" حيث كل ما حولي يخبر بحالي: من ركضٍ نحو ضوء ضعيف، ووهم حب مثير جعل من الحائط مسرحا كاذبا لنبضه، صوته لا يرتل اسمي، وألحانه تهدى لغير مسامعي.
صباح مختلف، رائحة العفن والرطوبة فاحت من الكتب المكدسة في زاوية الغرفة، أهملت صفحاتها وأعميت نظري عن كل ما حملته لي من نصائح تبقى تشع ولا يخفت نورها إن أغلقت دفتيها وألقيتها جانبا، أغرقها انتظاري بالعتمة وغرقت في عشق ضوء يرقص يغوي، حتى ما عدت أبصر غيره فعميت عن كل ما حولي من النور.
أصبت بالعمى مؤخرا. اثنان وثلاثون عاما وأنا مبصرة. لم يتغير شيء. أسلك الطريق ذاته في الحب والعطاء والأمل بأن في الحياة ما يستحق أن أناضل من أجله وأقف في صف المنتظرين له، أنتظر ولا يأتي دوري.
أودع عاما وأستقبل آخر بأمنيات مرصعة وصفحات جديدة بيضاء لا يجيد قراءتها أحد، أملأها أنا وأقرأها أنا. مر الكثير من الوقت حتى أدركت أن لا مبصرين حولي يبهرهم بريق أفكاري أو جزالة إحساسي، الآن صرت عادية مثلهم، آلف بيني وبينهم العمى، وفرقنا الإبصار طيلة الوقت الذي مضى.
اليوم وبعد عام من الوجع؛ أعالج كل ما سببه الضوء في حياتي، بريق الحب سبب حروقا لا شفاء منها، العطاء لأرواح أنانية جعلتني مفلسة أسدد فاتورته بالعزلة.
أخيرا، سأترك لنفسي فسحة جديدة لأمضي في الحياة مع واقع جديد، دون أن أتورط بعشق بريق مؤقت خاطف، أتمتع بالأصوات من حولي، أمسك ما أشاء بكفي وأطلقه حيث أريد، صوتا لحنا أو زقزقة عصفور.
وقد يأخذني الشغف لأتتبع دبيب نملة أو التجسس على خلية نحل في الجوار. وقتها سأرى الحياة كاملة دون نقصان، حيث يعود التوازن بين الضوء والعتمة وأتصالح مع حركة الكون من جديد.
◄ نورة صلاح
▼ موضوعاتي
8 مشاركة منتدى
إبصار مؤقت, اماني الجنيدي | 26 تموز (يوليو) 2014 - 09:34 1
من اجمل ما قرأت. إلى الأمام يا نورة. تتقدمين بقوة
1. إبصار مؤقت, 26 تموز (يوليو) 2014, 12:43, ::::: تورة عبد المهدي صلاح \ فلسطين
شكرا .. ست أماني ... شكرا لدعمك الدائم
إبصار مؤقت, هدى الدهان -العراق | 27 تموز (يوليو) 2014 - 18:18 2
اغمضي ففي اغماضك راحة من علام مليء بالشرور والخيال يمنحك شمعة تبقى مشتعلة لايخفت نورها ولايبهت
1. إبصار مؤقت, 27 تموز (يوليو) 2014, 21:25, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
وجدنا راحة لا يمكن أن ننساها.. ربما بالإغماض قدرة أكبر على النظر للروح للداخل .. حيث النور مكمنه العمق .. شكرا لك
إبصار مؤقت, هدى الكناني من العراق | 29 تموز (يوليو) 2014 - 10:25 3
اسمحي لي ان امون عليك واناديك نوارتي
إن طبقنا معاييرك في الإبصار
فانا اول من تخلت عن نظرها ورفضت الابصار
فمن ضج قلبه وجيبا وحياة،ويترجمه، فلا يُفهم وكأنه يكتب ما لايُفهم او لا يُقرا، كممثل لمسرح قديم جديد
بلا جمهور او متفرجين
وليس لديه من أدوات يترجم بها مايضج بصدره، سوى يديه.
دوما تبهريني يا نوارة
وانقطاعك عن الكتابة لشهرين كان مثمرا
دام بوحك غاليتي
هدى الكناني
1. إبصار مؤقت, 11 آب (أغسطس) 2014, 20:35, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
{{}} لك ما طلبت .. فقد أنرت علي بكلماتك درباً من الأمل كنت قد حدت عنه لبعض الوقت/ لكن لا درب لي سواه حتى أسيره برغبة وأمل وحب .
وكم أنا سعيدة أن هناك من سيشاركني هذا العمى الذي إخترته والذي نادراً ما نجد مريدين له أو محبين لتجربته؛ سأترك الكل يمارس حريته في نظرته للحياة لكني إخترت طريق ذلك الذي يجهله الكثيرون .. أهلا بك في دربي كم أسعدتني
إبصار مؤقت, جليلة الخليع | 30 تموز (يوليو) 2014 - 19:15 4
من العتمة نستمد النور بقوة،نسترجع الإبصار رويدا رويدا ، حتى يسكننا النور الكامل .
هي عودة جديدة ، بعمر جديد وذاكرة أقبرت .فاجترارها لايعيد لبلعوم حياتنا سوى المرارة والتدمر .
" ياصحاحب الوعد خلي الوعد نسيانا " هي لحظة نستهلها بالنسيان ، لنمنح للبياض سطورا فارغة نرصها بأفكار جديدة ، لحظات بنبض آخر ، وذاكرة بمحرك جديد.
نورة المبدعة أعجبني جدا هذا الإبصار المحفوف بالنور .
دمت بخير .
1. إبصار مؤقت, 11 آب (أغسطس) 2014, 20:32, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
{{}} شكرا لهذه القراءة المستفيضة .. وهل هناك نور يدوم أكثر من ذلك الذي يشق العتمه حتى يحول الظلام لنهر من النور يغير في مجاره كل ما حوله. هذه الولادة ببساطه .. وصور الولادة تتعدد في حياتنا .. حتى لحظة عودتنا لما خلقنا عليه. خرجنا من ضيق ونعود في ضيق أكبر إتساعاً مما أتينا على شاكلته.. سبحان الله
إبصار مؤقت, مهند فوده | 2 آب (أغسطس) 2014 - 02:23 5
العزيزة نورة، ما اجمل هذا النص، مكتوب بحرفية عالية، واحساس عالي، يخيل لي ان من كتبته قد فقدت النظر فعلا، وليس كاتبة تقمصت دور احد ابطالها فكتبت باحساسه كل ماشعر به، راق لي جدا تشبيهك انها صارت عادية بعدما فقدت البصر فقد الف العمي بينها وبين الناس.. جملة عبقرية ..مؤثرة..موجعة .. سلمت يداك.. امتعني نصك
1. إبصار مؤقت, 11 آب (أغسطس) 2014, 20:30, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
{{}}أعتقد أن علينا أن نجرب بعض الأشياء ولو لبعض الوقت؛ حتى نشعر فيها؛ كالعمى والصمم؛ كالخوف والإرتعاد؛ كالغرق ولو لحظات؛ لن نستطيع أن نحس بالأشياء إن لم نجربها أو نعيش تجربة نحاكي فيها واقعاً ما... من الناحية المنطقية وجدت في الحياة من حولي أنه نادراً ما ترى ( بلغة أهل فلسطين ناس مفتحة) الكل يغمض عيناه كل ما يمكن أن يجعل هذه الحياة أفضل وأقل وجعاً .. وكان العمى هو الحل الوحيد للعيش! شكرا لمرورك أسعدني
إبصار مؤقت, طه أبو حسين_فلسطين | 11 آب (أغسطس) 2014 - 20:53 6
سأترك لنفسي فسحة جديدة لأمضي في الحياة مع واقع جديد، دون أن أتورط بعشق بريق مؤقت خاطف، أتمتع بالأصوات من حولي، أمسك ما أشاء بكفي وأطلقه حيث أريد، صوتا لحنا أو زقزقة عصفور.
وقد يأخذني الشغف لأتتبع دبيب نملة أو التجسس على خلية نحل في الجوار. وقتها سأرى الحياة كاملة دون نقصان، حيث يعود التوازن بين الضوء والعتمة وأتصالح مع حركة الكون من جديد.
حرفك كلّه حياة وإن كان في ظاهره موت.
دمت بالود وجمال الروح :)
إبصار مؤقت, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 14 آب (أغسطس) 2014 - 23:41 7
عزيزتي أ/نورة أنرت بنصك المبدع رؤيتنا لعالمك الوجداني المضيء,وجعلتنا نلوذ بصدقه ممانعانيه من إحساس بالضياع والوحشة ونحن نتخبط في نفق مظلم لانهاية له فقد أضنانا شعورنا بالخيبة والخذلان والذنب تجاه إخوتنا في غزة والعراق وسوريا ولسنابمنجى مما يحدث حولنا عذرا لتأخري في القراءة والتعليق .((دمهم صباح الخير ,دمهم مساء الخير ))عزيزتي ((من راح يحمل في جوانحه الضحى هانت عليه أشعة المصباح))
1. إبصار مؤقت, 19 آب (أغسطس) 2014, 20:46, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
(من راح يحمل في جوانحه الضحى هانت عليه أشعة المصباح) أعتقد أنها الجملة التي تستطيع أن تعبر كل ما أردناه.. شكرا لك وسرني رأيك جداً
إبصار مؤقت, إيمان يونس | 18 آب (أغسطس) 2014 - 14:09 8
نورة ..نصك أكثر من رائع وسطوره مضيئة رغم العتمة والظلام ومسحة الحزن والآهات التى تصرخ بها الفراغات بين السطور والكلمات لإن البصيرة أقوى وأهم من الإبصار ..تحياتى وتقديرى
1. إبصار مؤقت, 19 آب (أغسطس) 2014, 20:44, ::::: نورة عبد المهدي صلاح
كان لا بد من عتمة حتى نسشتعر الفرج بعتمة الروح. حتى لو كان الإبصار والعمى يلازمنا إلا أننا نستطيع أن نحس بكليهما إن إستطعنا إدارة الذات بينهما. شكرا لك