أحمد بعلوشة - فلسطين
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب
نجوت من معارك كثيرة ولم أعد طفلا لأعرف كيف يرى الأطفال هذه الطائرات. ابنة أخي دائما ما ترسل التحية إلى الطائرة وتتمتم بلغتها التي لا أفهمها، لكنها هي اللغة ذاتها التي تستخدمها حين تقابلني لترحب بي أو لألعب معها في فناء البيت. ترحب بالطائرة، إلا أنها تخاف من القذيفة، والواضح أنّها لا تعرف العلاقة التي تربط بينهما.
لم أحاول أبدا أنْ أعدّ أيام العدوان، لأني كنت مشغولا ربما برواية القصص التي تسقط في الشوارع وأمام البنايات، الناس الذين يختفون فجأة ودون سابق إنذار، أبادر الاتصال بمن وجدوا في قائمة الهاتف، كيف حالكم؟ بخير؟ نعم، ونحن كذلك. أجرّب حصر الألم الذي أصاب الناس، وأحاول أنْ أفهم. كيف تكون حسرة الأطفال؟
كنت مشغولا أيضا بما يكتبه الأصدقاء على صفحاتهم، كلّ منهم يملك حياة مختلفة عن هذه التي أملكها، وكلهم ينتظرون انتهاء الموت. ما أسوأ أن تنتهي الأحلام والضحكات! المستقبل الذي كان ينتظره الشهيد قبل أن يختفي. هذا الطفل قتلته المدفعية الآن، كان ذاهبا ليشتري "القطائف"، كان أبيض القلب، وكان يقول لأهله إنه يفضل "القطوفة" باللبن أكثر من التي تحوي المكسرات وكان والده دائما يحاول إقناعه بأنّ الأنواع الكثيرة أفضل من النوع الواحد.
في الحي المجاور، رجل يحادث جاره، ويروي له قصة من "خزاعة" الواقعة إلى الجنوب من غزة، إلا أنّ صاروخا قطع الحديث تماما، وكرر حادثة الجنوب. رجل آخر يمشي في الطريق مات من هول الحادثة.
شاب ثالث، كانت أمه تتوسّل إليه دائما بعدم الخروج إلى الشارع، إلا أنه فضول الصغار. استغل قيلولة والدته وخرج، ليلتحق بالرفاق الذين تقتلهم الطائرات. استيقظت والدته، وتوسلت له من جديد، أنْ يشفع لها يوم القيامة.
ماذا لو كنت طفلا الآن؟ كيف يشعر الأطفال؟
هدى تكتشف أمر أبيها الذي كانت تراه بطلا دائما. الأب الذي كانت تتصور أنه يمسك الغيمة بيده، ويضرب أقوى المصارعين، وربما يستطيع الطيران إن تطلّب الأمر. تفاجأت الطفلة حين رأت والدها ينقل الحاجيات إلى أقصى غرفة في البيت، يحمل أطفاله كحمامة تغطي عشّها، يفتح النوافذ، ويجلس في الزاوية. تفاجأت كثيرا وعرفت أنه لم يعد يحتمل دور البطولة مطلقا.
على غير العادة، أشاهد التلفاز الذي كنت لا أراه مطلقا قبل الحرب، إلا أنه يصبح أكثر أهميّة حين وقوعها. بعد المذبحة تماما، المذيعة تجري لقاء مع الطفل سليم من شرق غزة.
تسأله المذيعة: "كيف حالك؟"
يرد سليم: "لم أعد سليما".
شابّ آخر تلتقطه الكاميرا. زوجتي ماتت مرتين، مرتين. كان يجري في الشوارع صارخا: ماتت مرتين. ولم يعرف أحد أنّ زوجته التي ماتت قبل سنوات، ماتت اليوم مجددا، حين قصفت الطائرة المنزل ومزقت صورتها الوحيدة التي كانت معلقة في حائط البيت.
في البلاد ذاتها، في قلب غزة، رجل يغلق عينيه قهرا، ويتمنى لو أنه أجاب طلب طفلته التي أرادت "حاجات" في منتصف الليل. قال لها أنّ الصباح "رباح"، لكنها ذهبت ولم تأخذ سوى حضنا أخيرا من أبيها.
لا تنتظر أن تقتل الطائرة أحدا، لتندم على أنّك لم تعتذر له على شجار قديم. لا تنتظر أن تنتهي الحرب، لتقول لأخيك أنه من أجمل الأحداث التي تجري في حياتك. لا تتأخر في تقبيل أمك، ولا تتردد في شكر أبيك. لا تتأنى في حبّ جارك، ولا تندم على الشهداء.
الحرب تعلمنا أننا نعرف بعضنا جيدا. في كلّ قذيفة يذكر المذيع اسم عائلة؛ فيذهب الجميع إلى الاطمئنان على واحد من أبناء هذه العائلة. كلنا نعرف بعضنا، وكلنا أصدقاء، وهذا ما ذكّرتنا به الحرب: كلنا أصدقاء في المعركة.
7 مشاركة منتدى
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 27 آب (أغسطس) 2014 - 23:10 1
أستاذ أحمد بعلوشة أبدعت بنصك في التعبير عن البعد الإنساني للواقع الأليم في غزة بعيدا عن التقريرية والمباشرة وهو الأقوى تأثيرا في الرأي العام كلما قرأت نصا رفيع المستوى لشاب أوشابة امتلأت اعتزازا وأملا بمستقبل هذه الأمة.
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 27 آب (أغسطس) 2014 - 23:15 2
نسيت أن أقول لك متى ستعود إلى هذه الأمة وحدتها ؟لتلتقي في القدس؟
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, أشواق مليباري | 29 آب (أغسطس) 2014 - 13:29 3
الأستاذ أحمد
نص رائع، وأسلوب جديد في التعامل مع الألم بعزة ونصر.
أرجو من الله أن يجبر كسركم ويرحم شهداءكم.
تحيتي واحترامي
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, هدى الدهان | 29 آب (أغسطس) 2014 - 17:24 4
نعم ..كلنا اصدقاء في الحرب ..مثل ينطبق على العراق اليوم ..عنوانك ذكرني بمقولة لزميل لي في العمل عندما اطلقت داعش حملتها لختان النساء العراقيات من سن 11 حتى ال 46 عاما هنا استنفر الجميع ونسوا كا الطائفية والخلافات هذا اذا كانت موجودة اصلا فهي مصطنعة اعلاميا ..المهم قال جملة رائعة ان داعش وحدت الشعب العراقي .وانا اليوم الحرب وحدت العراق وغزة وسوريا وكل بلدان الربيع العربي
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, مريم -القدس | 29 آب (أغسطس) 2014 - 18:00 5
حلمنا صار غزة،ننام ونصحو على أخبارها ،نقضي الساعات الطوال أمام محطات التلفزة ،نتابع المحللين والمعلقين ،والمشاهد الحوارية وتعليقات الصحف ،نتابع مع الغزيين تنقلاتهم ومراكز إيوائهم ،غزة أعادتناإلى فلسطين 48إلى الخضيرة والعفولة وتل الربيع وعسقلان ،أصبحنا نشارك المفاوضين أوراقهم وتبدي رأينا فيها ،صغارنا يحبون غزة ويتطلعون أن يكونوا جندآ فيها ،باتوا يقلدون المقاومة ويصممون الصواريخ ويسمونها بأسمائها التي حفظوها ،أصبحنا نعرف كل حواري غزة وأزقتها وشوارعها وأسماء عائلاتها وأسرها ،ما من عائلة إلا أصيبت وابتليت ونالها من العدوان نصيب .
غزة حلم الأحرار وملتقى الأطهار ومسقط الشهداء أنت درة فريدة في عيون الفلسطينين .
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, جليلة الخليع | 30 آب (أغسطس) 2014 - 17:27 6
هنا نص من وسط الركام، في تناسل الموت،يحبو على وجوه الصغار ، ليلتقط الخطى التي خلفها الموت هنيهات الحياة المتبقية،يحصي الدمع والزفرات، ويحتضن الحب عند تجمع القلوب،لتكون المحنة هوية الغزيين والشهادة وساما على صدر كل عائلة، فتعم الصداقة مادامت الحرب قد وحدت القلوب ، وفرشت أمامها طريق التآزر.
الأستاذأحمد بعلوشة ، نص عميق، بتفاصيل حية، أدركت فيها الحقيقة المختفية خلف جدران المأساة وهي الوحدة التي اعتنقت الصبر والنصر.تقديري الكبير وكل الود.
غزة: كلنا أصدقاء في الحرب, إبراهيم يوسف - لبنان | 3 أيلول (سبتمبر) 2014 - 08:15 7
غزة- كلنا أصدقاء في الحرب. من جميلِ ما قرأتُ في هذا العدد.. فبعضُ الصور تراها وتسمعُها؛ ملتهبة أو مُدَمَّاة وتشمُّها أحياناً. غزة المفجوعة اليتيمة مثقلة بالجوع والعطش ودماء الشهداء. لكنها انتصرتْ ولم تتوانَ عن المحاولة في جمعِ الشملِ وَلَمِّ الشتات. دفعتْ ثمناً باهظاً وعجِزَتْ في الحقيقة عن توحيدِ القلوب. لكنَّ غزة تغفرُ وتسامحُ حتى أولئك من أداروا وجوهَهم عنها، فغزّة اقتلعتْ عيونَ شمشون/م الجبّار، وصارتِ الصخرة التي بنى عليها بطرس والسيد المسيح.
لم يعدْ ما يدعو إلى العجب فالصراعُ قائمٌ منذ الأزل، ينهشُ القيم يُمجّدُ الحربَ ينافقُ ويُنظّرُ في السلام. وعصبة الأمم مرتهنة الإرادة ومسلوبة الشخصيَّة. متواطئة وعمياء وعديمة الضمير، وعاجزة حتى عن الإدانة لنصرة المقاومة وحقِّ الأمم المشروع.