لينا السماني - السودان
مائدة الموت
في مساء الاثنين في حديقة منزلنا، كان الجو جميلا والهواء لطيفا. مساء جميل برفقة أبي، كنت على مقربة منه، تحدثنا كثيرا، وعبثنا بالذكريات سويا. لن أنسى هذه اللحظات ما حييت، لكنني بين كل فترة صمت تمر، كنت أرى نظرات الوداع في عينيه، أراه يلملم شعثه. خفت كثيرا من هذا الشعور، لكنني لم اعره اهتماما، ثم ايقظني من هذا الوهم صوته وهو يتحدث:
"يا بني، أنا لن أقلق عليك مطلقا، فالله يكفيك، الناس يظنون أن الوحدة أمر سيء، لكننا عندما أتينا إلى الدنيا كنا وحدنا، وكل لحظات الألم والسعادة نشعر بها بصدق وحدنا. عندما يعيش الإنسان وحيدا يتعلم القوة ويتعلم الاعتماد على نفسه، والأهم من ذلك أنه يتعلم مساعدة الآخرين، ولكن ليس الكل كذلك يا بني، بل إنهم أشخاص معينون، هم وحدهم الذين يستطيعون إثبات أن الوحدة شيء جيد".
سألته متعجبا عن هويتهم، فأجابني بجملة حفرتها في ذاكرتي. قال: "إنهم الذين يؤمنون بوجود الله".
وانتهت تلك الليلة، ليلة تحتاج المعجزات لتعود مرة أخرى، ربما يمكن أن نعيشها ثانية، لكن المؤكد أنها لن تكون على أرض هذه الدنيا.
في صباح اليوم التالي استيقظت متأخرا، كان أبي يتناول إفطاره، تناولت معه كوب القهوة وخرجت مسرعا إلى عملي.
أنا مدرس مادة الكيمياء للمراحل الثانوية. طلاب هذه الأيام لا يفكرون، ولا يطرحون الأسئلة، كل حصص العلوم تملؤها الرتابة والملل، والفضل يرجع للتكنولوجيا وتوفر كل شيء. في الواقع لو قرروا التفكير في أمر ما، سيكون عن كيفية إلغاء حصص العلوم من الوجود.
انتهى يوم عملي مثل غيره من الأيام، عدت إلى المنزل عند الواحدة ظهرا وأنا منهك جدا وأحتاج إلى حمام بارد ينسيني لهيب الشمس الحارقة.
بحثت عن أبي في المطبخ والصالة وفي غرفته، لم أجده. ظننت أنه قد خرج، ولكنه لم يفعل.
ما زال أبي على المائدة ويبدو وكأنه قد غفا، ذهبت لأوقظه: "أبي، أبي، أبي".
كانت آخر مرة أراه فيها، لقد رحل، رحل قبل أن يدرك وجبة الغداء معي، لأحكي له عن كسل طلاب صفي، رحل قبل أن يخبرني المزيد عمّن يحولون الوحدة إلى سعادة، كنت أريد أن أخطط معه لعطلة نهاية الأسبوع، حين يزوره الإلهام مجددا ليحدثني بما أحب سماعه، لكنه سبقني وذهب.
حضر الإسعاف والشرطة. فيما بعد أثبتت تقارير الطب الجنائي أنه توفى بسبب تسمم غذائي، وسألوني الكثير من الأسئلة التي ما كنت أرى جدوى لها فهي لن تعيد والدي. سألوني عمّا تناوله في الفترة الماضية، كنا تناولنا كل شيء سويا، غير إفطار اليوم فقد تناوله وحده، وفعلا كانت المادة القاتلة التي وجدوها في جسده موجودة في طبق معكرونة اليوم.
حزنت كثيرا، شعرت بالظلم، كل ما كان يدور في مخيلتي هو الانتقام، الانتقام ممن قتل أبي.
بعدها بعدة أيام، بدأت أبحث عن المصنع المنتج: ما هو، ومن المسؤول عنه، وقد بدأ الإعلام يفصح عن حالات تسمم شديدة وتوفى الكثير منها، كانت الشرطة بدأت بأبحاثها وتحرياتها، ومضى الوقت ولم نسمع نبأ إلقاء القبض عليهم أو إغلاق مصنعهم.
لم استطع الانتظار، وقررت أن أثأر لأبي بنفسي، لم أكن أفكر بشكل شخصي بل كنت أفكر بالآخرين، بكل من يجتمعون حول المائدة ليتناولوا الطعام سويا وهم لا يعلمون أنهم يحضرون لأنفسهم طبقا من موت.
تمكنت من الوصول إلى مكتب مدير المصنع والمسؤول عن استلام وتصنيع المكونات.
كانت الساعة الثانية صباحا، شعرت بالخوف وأنا بصدد تنفيذ المهمة، وأنه من الممكن جدا أن أخرج من هنا إلى قسم الشرطة وألقي بقية دروس الكيمياء في السجن.
لكنني هنا صاحب حق، أعيد لنفسي حقي واحترامي وأحمي الآخرين.
قررت الاستمرار، تسللت إلى المكتب بتلك الطرق البهلوانية وبعض الأدوات لفتح الأقفال، دخلت إلى مكتب المسؤول: مكتب غامض يثير الريبة. بدأت بالبحث في الأدراج والملفات، تقارير لتحويلات حسابية بأرقام فلكية، وملكيات لأراض وعقارات في مختلف بقاع الكرة الأرضية. كيف يتحملون كل هذا المال؟
واصلت بحثي ولكنني لم أجد شيئا، كنت مرتبكا، وكان المكتب كبيرا ومليئا بالأوراق والملفات، وكانت فكرة دخول أحدهم والقبض علي متلبسا بالجرم المشهود ترعبني، لكنني تذكرت حديث أبي لي، قال لي لست وحدك، أنت مع الله وهو سيحميك. واصلت الغوص في أعماق المكتب المريب، وإذا بي أسمع صوتا، يا للهول! إنه وقع أقدام، ارتعدت أطرافي وشل عقلي عن التفكير، لا يوجد مخرج والصوت يقترب، ليس أمامي مهرب سوى النافذة وأنا لا أريد الانتحار الآن.
وفي اللحظة الأخيرة نفذت بجلدي.
كانوا حوالي خمسة رجال أو أقل، يبدو أنهم من أصحاب الأعمال. منذ متى والاجتماعات تقام بعد منتصف الليل؟
كان الحديث يلفه الغرابة والغموض، حديث مبهم، وكأنه بلغة أخرى، كان الأمر عن موعد لاستلام بضاعة جديدة، من ضحكاتهم الواثقة الماكرة عرفت أن الأمر ليس قانونيا، ومما أكد لي ذلك موعد الاجتماع المريب، والحديث المبهم، ووقت الاجتماع القصير من حسن حظي.
كل ما استطعت فهمه من هذا الاجتماع هو الموقع الجديد لاستلام البضاعة، قاله صاحب المصنع وقام بالتأكيد عليه، فحفظته عن ظهر قلب، علمت أنه النور الذي أبحث عنه.
بعد أن فض الاجتماع بفترة، خرجت من خلف الخزانة، تأكدت من سلامة الطريق، ثم عدت إلى بيتي.
لم أنم تلك الليلة، كنت سعيدا لأجل إقامتي في المنزل وليس قسم الشرطة، وكنت بانتظار الصباح كي أبلغ عمّا سمعت، وبالفعل مع أول ظهور للشمس اتصلت بمركز الشرطة وبلغت عن تهريب مواد مخالفة في الموقع الذي ذكر في الاجتماع.
حضر رجال الشرطة وقاموا بفحص المواد وثبت فعلا أنها مواد خطيرة وسّامة تتداول بكميات محددة وتحت رقابة شديدة، تم القبض عليهم وتبين فيما بعد في التحقيقات تورطهم بعمليات نصب واحتيال عديدة وعمليات دفن لنفايات المصنع في أماكن مخالفة، وغيرها من الحيل وأساليب الفساد.
تسلمت مكافأة لتبليغي عن هذه العصابة، كان المبلغ جيدا، لكنني شعرت أنه ليس لي، فتبرعت به لعلاج كل من أصيب بالتسمم الغذائي، وكل من اجتمع حول مائدة لم يكن يعلم بأنها مائدة الموت.
وفي الصباح التالي، ولأول مرة كان لدي ما أضيفه على منهج الكيمياء، فقلت لطلابي: "تعلموا السؤال والبحث، فمن يبحث لا بد أن يجد، ومن يسأل سيعرف الإجابة، ومن يسر في ظلمة ما، سينير الطريق لمن يأتي من بعده".
نعم هذه هي الحياة. مجرد أسئلة.
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
1 مشاركة منتدى
مائدة الموت, مليكة علاوي الجزائر | 26 أيلول (سبتمبر) 2014 - 18:21 1
القصّة جميلة،ولكن لِــم أنهيت بـ:نعم هذه هي الحياة مجرّد أسئلة ؟..لوأنهيت بالمقولة فقط.
1. مائدة الموت, 27 أيلول (سبتمبر) 2014, 10:28, ::::: لينا السماني
شكرا لك على قرائتك للقصة, و أجدُ رأيك مُصيبا ، سأعتمده في القصص القادمة، أشكرك مجددا .