إبراهيم قاسم يوسف- لبنان
من كل واد عصا
غش
في الصباح الباكر؛ أعاد القفص والعصفور معا، واعترض على البائع بسخط شديد، حينما غشّه بالأمس وباع له عندليبا أعرج، وتاجر العصافير تعجّب وتبسّم للشاري وطيّب خاطره وهو يقول: وهل اشتريت مني عندليبا ليرقص أم يغني؟
خيبة
مجموعة مميزة وفاخرة من أواني "القيشاني الأزرق". عزيزة على قلبها تروق العين وتدهشها. شحنتها من الخارج ودفعت ثمنها عدّا ونقدا أجنبيا غاليا. احتفظت بها عقودا طويلة تتوهج أنيقة في خزانة زجاجية مضاءة. تزيّن بها قاعة الجلوس في إحدى الزوايا المقابلة للمدخل. هذه المجموعة الرائعة رافقتها مذ تزوّجت، فلم تعط منها شيئا لأبنائها، ممن تزوجوا وغادروها إلى بيوتهم، ولم تكسر منها قطعة واحدة، أو تفتح الخزانة مرّة إلاّ لكي تزيل عنها الغبار.. فلم تستفد منها ولم تستعملها على الإطلاق.
لكنّ العدوان الإسرائيلي على البلاد نال من الآنية وحطّمها، دون أن ينتفعوا بها أو يستخدموها ولو لمرة. وزوجها لم يجد غضاضة أن يشمت بزوجته، دونما أسف على آنية للزينة هي ما حطّمه العدوان.
انكسار
دخل المطعم مسبطرا مهددا، شاهرا عصا غليظة يتوعد بها القائمين على المكان، مقسما بالله العظيم أنه سيفعل ما فعل أبوه.. إن رفضوا أن يقدموا له وجبة طعام بالمجان، وحينما أتى من داخل المطعم رجل عملاق؛ وسأله باستخفاف عما فعله أبوه..؟ تراجع بانكسار وأخبرهم أن أباه تلك الليلة طوى بطنه ونام خاويا بلا طعام.
بقيا
تقول بحسرة وعيناها تفيضان بالدموع: قبل أن يرحل إلى جوار ربه؛ ذقت معه من حلاوة العيش ما يفيض ويعوّض جميع أيامي الباقية. وتستمطر على روحه أصدق الرحمات. وتقول صديقة الأرملة همسا: عاشت معه من الفقر والمرارة والغيرة والنكد والمرض والحرمان ما يكفي ليبدد صفاء الأنبياء.
عار
عيناها جريئتان تحفّزان القلب فيخفق بوتيرة أعلى. هكذا كان يشعر كلما التقاها تتأبط ذراع زوجها في الطريق، تستفزه بلحظها السكران، وتدعوه إليها بجسارة والتفاتة من عينيها الجائعتين. هذه المرة رآهما من بعيد وأحسّ بالعار أن يخدع أعمى، فغيّر وجهة سيره في رابعة النهار وعزّ القيظ في الالتفاف حول الشارع الأبعد ليصل إلى بيته مطمئن الخاطر، نظيف القلب مرتاح الضمير.
غفلة
لكزت أباها بكوعها في خاصرته لكزة قوية آلمته، وهو مسترسل في الحديث إلى سيدة مفرطة البدانة، يخبرها أن "نوال" جارتها في السكن القديم صارت "كالفيل". وحينما انتهت الزيارة وغادرا، تطلّعت إليه بطرف عينها، وهمّت أن تقول شيئا ثم تراجعت.. هي لم تقل، وهو لم يشك لابنته أن خاصرته لا زالت تؤلمه.
جهل
في بداية عهده بالمدرسة، علّموه كيف يصرّف فعل "توهاڤ" (to have) قبل فعل "تو بي" (to be)، وهذا جهل وخطأ فادح في التربية والتعليم.
عطسة
كان يعاني من الرشح والسعال الحاد، ومن حساسية مفرطة في الأنف، وكان ينتظر الحافلة التي تقله إلى عمله في صباح يوم شديد البرودة. لم يكن بمفرده بل كانوا مجموعة من المستخدمين في ذات الشركة، وكانوا يحـتمون من البرد والريح، إزاء مبنى يتألف من سبع طبقات.
داهمته نوبة حادة من السعال، أعقبتها موجة متواصلة من "التعطيس". ثم هدأت أحواله قليلا، وفتح عينيه ليصاب بالدهشة، وهو يرى من كانوا بجانبه يحتمون من البرد إزاء الجدار؛ ينفضّون من حوله بسرعة البرق، يتراكضون مذعورين وسط الشارع ذات اليمين واليسار، وهو لا يدري ما الأمر وماذا عليه أن يفعل؟
لكنه لحق بهم يسألهم عن سرّ الصخب وهذا الهروب المذعور. وأدهشهم سؤاله وانعدام إحساسه.. فلم يشعر بالهزة المخيفة، التي ضربت أرجاء البلاد، وزعزعت أركان المباني، وقبة المسجد في الجوار.
تخلّف
تصوّر الإعلان الجديد الملصق في بداية الشارع، نوعا جديدا من الأطعمة المستوردة، كالفاهيتا، والسوشي، والفيلادلفيا، والنودلز، فإذا بها "تيدا": سيارات اقتصادية، بأربع أسطوانات وصلت من اليابان منذ ما يزيد عن عشر سنوات.
عقم
كانت تنتظر ابنتها واسمها "آية"، تأتي عصرا في الحافلة المدرسية. وابنتها أتقن الله صنعها، في ساعة من ساعات صفائه وروعة خلقه، حين قال لها كوني جميلة، فكانت طفلة كالملاك.
على درج الحافلة قبّلت يدها ولاطفت شعرها، ثم حضنتها ومضت بها ناحية بيتها. اجتاحته خاطرة من الحسد. وقال في نفسه: لو كانت ابنتي لعبدتها وقبّلت قدميها. ثم بسمل وحوقل، فاستغفر ربّه وخزى الشيطان، وتلا المكّية المباركة، سورة الفلق: قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق، ومن شر غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد، ومن شر حاسد إذا حسد.
خسارة
حكموا على المعلمة بالسجن لسبعة أشهر، لأنّها تحرّشت بتلميذها القاصر، فاستدرجته وغرّرت به، وراودته عن نفسه وابتزّته في عواطفه، فقدّت قميصه من قبل ومن دبر؛ من الطرفين معا، وفعلت معه ما فعلت، ولم يبلغ رشده بعد.
بعد انقضاء المدّة خرجت من السجن بلهفة أكبر ورغبة أقسى. الطالب كان تجاوز سن الرشد بشهرين، ضاعا من عمرها هباء. هذه المرّة تحسّرت على الوقت الضائع، وقرّرت بلا خشية أو حذر أن تعاود التجربة عن سابق إصرار وتصميم.
نذالة
لم يكن يوما يتوقع هدية بهذه الغرابة: زوجان من حيوان "الهامستر" الأبيض، ذكر وأنثى محبوسان في قفص. في الأيام الأولى على تلقيه الهديّة أثار اهتمامه هذان المخلوقان الغريبان، فراح يتجسس على الذكر كيف يستبدّ بأنثاه.
يستأثر وحده بالطعام، فيأكل ما يفيض عن حاجته من القوت المنثور في أرض القفص، حتى إذا ما انتهى وانتفخ بطنه من كثرة الأكل؛ خزّن أيضا في فمه جزءا إضافيا من الطعام، وجمع باقي الفضلات في زاوية القفص، وراح يحرسها ليساوم أنثاه ويبتزّها فيمنعها أن تنال حصّتها من الغذاء، ما لم تخضع له وترضي نزواته وتحقّق له باقي الرغبات. هذا ما يفعله الهامستر المخلوق الحقير، قبل أن تستوفي الأنثى نصيبها من الطعام.
◄ إبراهيم يوسف
▼ موضوعاتي
15 مشاركة منتدى
من كل واد عصا, هدى الكناني من العراق | 25 أيلول (سبتمبر) 2014 - 14:11 1
ابراهيم يوسف / لبنان: الاستاذ والصديق لقد احسست وانا اقرأ ما نطقت به اناملك السحرية، وكانني اتابع مسرحية من عدة فصول كل فصل وإن بدا مستقلا ،إلا إنه متصل بالآخر كأغصان الشجرةنعم الكل يتقزز من الرجل الهامستري الاخلاق لكننا نحترم ذاك الذي يأبى ارتكاب الخيانة ولو بالنظر ونقدر من يبسمل ويحوقل ويلعن شيطانه. النساءرغم ضعفهن ورقتهن إلا إن فيهن مريضات بالأستحواذ يجعلن من اشياء او اشخاص اصنام وتاتي الرياح بما لا يسرهن فهذه يتكسر صنمها واخرى يحكم عليها ولا تتعض وكان الاحرى ان تكون في مصح لا سجن تغادره اكثر إجراما.ومنا من يمتهن التذاكى في غشه ويحلل ما حرم الله.رغم سلاسة وبساطة ما أعدتته لنا إلا انه عميق التاثير في المجتمع.سلمت اناملك المتجددة هدى الكناني
من كل واد عصا, هبة شاهين لبنان | 25 أيلول (سبتمبر) 2014 - 18:34 2
قصص صغيرة ومعبرة عن حزن والم وفرح وكبرياء ومشاعر ومواقف أخرى نعيشها في حياتنا اليومية الواقعية... ابدعت في كتابتها عمو ابراهيم...
شكرا
هبة
من كل واد عصا, ايناس ثابت اليمن | 29 أيلول (سبتمبر) 2014 - 12:29 3
نصوص جميلة مغلفة بالإنسانية والضمير والواقعية.
عميق تقديري أستاذ إبراهيم.
من كل واد عصا, أشواق مليباري | 30 أيلول (سبتمبر) 2014 - 13:52 4
الأستاذ إبراهيم يوسف: راقتني هذه النصوص القصيرة. إن هي إلا جزء بسيط من مسيرة طويلة ومشاركات متنوعة لا يملها القارىء. من كل واد عصا.. هو عنوان يتناسب مع العدد المئة. شكرا لك على النصوص الجميلة. كل عام وأنت بخير. أرجو لك التوفيق المستديم
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 08:31 5
هدى الكناني: لا تشتهِ امرأة جارك.. هو ما أوصى به السيد المسيح. لو كانت وصايا المسيح ممكنة التطبيق بأمانة ودقّة..؟ لعمَّ السلام وانتفت عن الأرض أسباب الفرقة والطمع ومظالم البشر. الضعف البشري الجميل سمة من سمات الخلق. كلام جميل بهذا المعنى قرأته في "زنبقة الوادي، لبلزاك". سبحان من لا عيب فيه. شكرا لك هدى الكناني الصديقة الكريمة الطّيبة.
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 08:32 6
هبة شاهين
فقط؛ لو تبوحين لي بسرِّ كل هذه الرِّقّة يا هبة..!؟ أنتِ شابة جميلة ورصينة ولطيفة وعزيزة على قلبي، وتستحقين أحلى الأماني. أسعدني كثيرا اهتمامك و حضورك.
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 08:34 7
إيناس تابت- اليمن
أسعدني حضورك من جديد
ويسعدني أيضاً أن يكون ما قلته موضع إعجابك
شكراً جزيلا على مرورك الكريم
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 08:35 8
أشواق مليباري
أنتِ مُتنوِّرة وذكية ورصينة
وتتقبلين الآخر
شكرا على الاهتمام والمتابعة
خالص مودتي
ورجائي أن ينير الله لأمتنا الطريق
كل عام وأنتم بخير
من كل واد عصا, إيمان يونس | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 13:19 9
أ / إبراهيم ...يالها من عصا سحرية أمتعتنا بنصوص قصيرة جداا ولكن بها عظات عميقة تمس الواقع بسخرية أحيانًا وعصا لمن عصى كما فى "خسارة " أحيانًاأخرى...دمت ودام سحر قلمك ..تحياتى وتقديرى
من كل واد عصا, مهند فوده- مصر | 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 18:41 10
استاذ ابراهيم القصص رائعة وكلها أجمل من بعض .. راقت لي كثيرا .. دام قلمك وابداعك
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 18:09 11
مهند فودة- مصر
عندما نقول أبناء وادي النيل..؟ فإنما نعني الخير والطِّيبة وسرعة الخاطر وحسن المعشر وخفة الظل، ونعني أيضاً حضارة عريقة؛ وتاريخاً من المجد الطويل.
شكرا على حضورك واهتمامك، وكل عام وأنتم بخير.
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 18:28 12
إيمان يونس
بل السحرُ يا سيدتي في لماحتك وحضورك
والفطنة فيما تكتبين
شكرا لك على اهتمامك الكريم
من كل واد عصا, جليلة الخليع /المغرب | 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 21:06 13
نصوص تختزل الحياة في تفاصيلها المختلفة ، هنا اقناصات دقيقة ، وكانت الفكرة تتبلور في الغنوان لترسم الملامح في لوحة مؤطرة بإتقان.
من كل واد عصا ، وضربت عصاك بقوة الإبداع لتخرج لنا من باطن الحياة ما يثلج صدر القراءة.
دمت بهذا الرقي أستادنا المبدع إبراهيم قاسم يوسف.وكل التقدير والود.
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 05:02 14
الأستاذة جليلة الخليع – المغرب
أسمى وأصدق مراتب المحبة والتقدير سيدتي.. ولو أنني خَجِلٌ من نفسي أمام إطرائك الكريم..؟ لو كنت مبدعا حقاً كما تقولين..؟ فماذا عسانا نقول عن أمين معلوف وعلاء الأسواني ومحمد الأشعري وحيدر حيدر وإنعام كجة جي وسحر خليفة والكثيرين..؟
أما جبران وطاغور والخيام والمعري..؟ فهؤلاء من طينة بشرية مختلفة.
شكرا جزيلاً على إطرائك ولطافتك وحضورك الكريم.
من كل واد عصا, إبراهيم يوسف - لبنان | 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 05:05 15
اعطِ خبزَك للخبّاز..؟ سيحسنُ صنعَه ولن يمسَّه، ما دامَ يتمتعُ بأمانةِ المهنةِ ومهارتِها. الصورةُ المرفقة بالنّص من إعدادِ أسرةِ التحرير، وينبغي شكرها على الاختيار الموفق؛ الذي سلَّط مزيداً من الضوء على النّص، بالإضافة إلى إعادة ترتيب أفضلية توزيع المواد.. لا يجوز للأمانة الأدبية أن أتغاضى عن الإشارة إلى أهمية الصورة وإعادة ترتيب الموضوع.