عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

إيمان يونس - مصر

امرأة من الشاطئ الآخر


إيمان يونسجارتي اليونانية التي تقطن بالشقة المقابلة لي أمست أكثر عزلة عن المجتمع وعن جميع سكان العمارة، خاصة بعد رحيل زوجها وحبيبها.

تعيش خلف جدران شقتها، لها عالمها المغلق عليها؛ تسعد وتشقى به؛ أسمع ضحكاتها المقهقهة عندما تتذكر ما يسعدها تارة؛ وتشغيلها لأسطوانة من الزمن الجميل لكوكب الشرق، "ودارات الأيام" وغنائها بالعربية المكسرة؛ وأسمع نحيبها تارة أخرى عندما يشدها الحنين والشوق للحبيب الراحل. حالتها المزاجية كانت أشبه باجتماع كل فصول السنة في يوم واحد.

توقعنا أن تعود إلى موطنها الأصلي بعد رحيل زوجها، ولكنها نفت ذلك في أكثر من موقف. كانت تردد: مصر بلدي، حبها يجري في دمي أكثر من مصريين كتير ناكرين لخيرها.

اعتمدت على حارس العقار لقضاء حاجاتها. وكانت حددت له موعدا في الصباح الباكر ليتسلم منها قائمة الطلبات، وعند المغرب ليلقي بكيس القمامة، وتضيف إليه أي تعليمات جديدة تتعلق باليوم التالي. إنها مالكة العمارة ولا يجرؤ أن يعصي لها أمرا أو أن يتخلف عن موعده معها.

جاءني يسألني عن تفسير لتغير نمط حياتها واهتماماتها في الشهور الأخيرة، وهوايتها الغريبة في اقتناء نوع معين من الزجاجات، حتى أنه أشترى كل المعروض بالمحال المحيطة وما زالت تطلب المزيد، ويمضي جزءا كبيرا من وقته في البحث لها عن المزيد.

وقبل أن أجيبه سألته: "ماذا تفعل بها؟"

قال: "أراها توزعها بأركان البيت على شكل وردات وداخل كل منها ورقة مطوية بنفس الحجم، كأنها رسالة. وتسدها بوردات مختلفة الألوان من صنع يديها بنوع معين من الخيوط تطلب مني شراءه أيضا. داخل نفسي عن بعد، أراها تجلس ساعة العصاري مستظلة بزرعة اللبلاب بشرفتها، وألمح حركة يدها التي تغزل بإبرة الكروشيه، ولا أرى إلا أطراف الخيوط التي تحركها نسمة الهواء".

أجبته: "ربما تدون أشياء تخصها أو علامات لترتيب الزجاجات نفسها".

وبعد أن تركني، تذكرت لقطة في أحد الأفلام الأجنبية؛ البطلة تكتب رسالة إلى حبيبها وتضعها في زجاجة وتحكم غلقها وتلقي بها في البحر آملة أن تدركه. هل لجارتي حبيب آخر ترغب في وصاله بعد رحيل زوجها؟ سؤال حتما ستجيب عنه الأيام.

ومرت الأيام برتابتها لرجل بالمعاش مثلي اختار الوحدة قبل أن تختاره، لا أجد سلوى إلا بين أحضان كتاب من كتب مكتبتي التي حرصت على اقتنائها وكأني أدخرت تلك الثروة لأنفقها بتلك الأيام العجاف.

وأحيانا أثرثر عبر الهاتف أو عبر الشبكة العنكبوتية مع من تبقى لي من رفاق. وقلما أخرج لحضور ندوة هنا أو هناك. وأحيانا أخرى أترك لقلمي العنان لينطلق فوق الأوراق البيضاء ليسطر بعضا من تجربتي بالحياة.

وعلاقتي بجيراني لا تتعدى التحية الصباحية أو المسائية. وقد نزيد عليها تهنئة متبادلة إذا صادف اليوم أي مناسبة. وأطول حديث يكون عند صعود أو هبوط درجات سلم لخمسة طوابق عن أي شأن يشغل الرأي العام. لم أتزاور مع أي منهم وبالطبع لم يزرني أحدهم.

ولقد رأيت جارتي بمثابة سفينتي التي اعبر بها إلى الشاطئ الثاني من البحر الذي تطل عليه نافذتي، أتعايش معها بمشاهداتي العابرة، وأطلق العنان لخيالي ليصور لي ما قرأ بالروايات. كنت أستمد منها بعض طاقتي واستعادة بعض أحلامي وشبابي، على الرغم من إن السنين حفرت مكانها ببشرتها وجلدها والشيب تسلل لتاجها الذهبي. ولكن روحها المرحة جعلتها صبية دائما، وتبدو أصغر مني بحريتها وانطلاقها وملابسها.

وفي يوم سمعت صوت حركة تنقل أثاث بشقة جارتي، وساورني قلق غير مبرر عليها، وانتظرت مرور حارس العقار، فسيتطوع بإخطاري بما يحدث دون أن أبدأ بسؤاله. وصدق ظني به. لقد غيرت معالم شقتها ونقلت الكثير من الأثاث من أماكنه: غرفة المعيشة عبارة عن إستاد صغير، مدرجاته وأرضيته مكسوة باللون الأخضر. وضعت الزجاجات على تلك المدرجات كأنها مشتلها الخاص أو جنتها الزجاجية. وشددت عليّ أن احضر لها المزيد من الزجاجات بأسرع وقت وبأي ثمن:

"دلني يا أستاذ قدري أين أجد المزيد؟"

أجبته: "ربما في سوق الخردة أو الروبابيكيا".

ذهب حيث أشرت عليه وعاد بالمطلوب وطرق بابي ليشكرني، وسمعت صوت صنبور المياه بمطبخها لم يتوقف إلا بعد أن فرغت من غسيل كل الزجاجات وعلا صراخها: "آه يا ربي!" مع تهشم إحداها وانتشار شظاياها بكل أنحاء المطبخ.

خرجت تنادي "أسمان. أسمان". صعد عثمان السلم للطابق الخامس بسرعة البرق ليساعدها في لم الحطام وهو متحسر أكثر منها، ويعلم إنها ستطلب منه البديل عنها. لكنها لم تفعل، وأغلقت الباب خلفه بعد أن شكرته وأعطته بقشيشا.

نزل السلم وهو يشعر بأن السيدة "ميري" بها شيء مختلف لا يقوى على تفسيره. مبلغ البقشيش أضعاف ما أعتاد عليه منها، وميل وجهها للاصفرار جعله يشعر بأن مرضا ما ألم بها.

وفي الصباح، في تمام الثامنة، تدير موسيقى زوربا التي باتت جزءا لا يتجزأ من يومها كنشيد الصباح عندها. وعن بعد، أتواصل معها وأشاركها الرقص على نغماتها، يتبدد كسلي وتنفتح شهيتي للمزيد من الحياة.

واليوم لم أسمع الموسيقى تصدح بأركان شقتها، وتنبهت إلى طرقات على بابها ولم تجب. وعلت الطرقات، ونادى عثمان عليها: "يا ست ميري. يا ست ميري".

فتحت باب شقتي كي أشاركه في الطرق والقلق مرسوم على وجهينا وتنطق به كلماتنا.

"وما العمل يا أستاذ؟ لم تكن على ما يرام بالأمس".

وأضفت: "ولم تفتح شباك شرفتها اليوم".

استعملنا السكين والمفك لفتح مزلاج الباب، ودخلنا معا.

وعاود عثمان النداء عليها ولا مجيب. ووجدنا جسدها مسجى على البساط الأخضر وسط حديقتها التي شكلتها من الزجاجات. ماتت بهدوء وسلام.

ترقرق الدمع في عين عثمان وانهمرت دموعي دون إرادة مني. ونبهني عثمان لآخر زجاجة لم تغلقها بعد، وبها رسالة. وحاول إخراجها دون أن يكسرها ولم يفلح.

ولأن فضولي يفوق فضوله، نصحته أن يكسرها بكيس من البلاستيك حتى لا تتطاير شظاياها، وعيناي تدوران في المكان تؤكدان ما رسمه خيالي.

وللدهشة وجدت اسمي مكتوبا بالرسالة كما يحلو لها أن تناديني: "كيريوش كدري: لماذا تكتبني؟"

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A إيمان يونس     C 8 تعليقات

4 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 100: عود الند تضيء 100 شمعة

"إمبراطورية النظرة المحدقة"

جدارية جرنيكا لبيكاسو

ثقافة الصورة: من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي

ثقافة الصورة: ما لها وما عليها