إيمان يونس - مصر
امرأة من الشاطئ الآخر
جارتي اليونانية التي تقطن بالشقة المقابلة لي أمست أكثر عزلة عن المجتمع وعن جميع سكان العمارة، خاصة بعد رحيل زوجها وحبيبها.
تعيش خلف جدران شقتها، لها عالمها المغلق عليها؛ تسعد وتشقى به؛ أسمع ضحكاتها المقهقهة عندما تتذكر ما يسعدها تارة؛ وتشغيلها لأسطوانة من الزمن الجميل لكوكب الشرق، "ودارات الأيام" وغنائها بالعربية المكسرة؛ وأسمع نحيبها تارة أخرى عندما يشدها الحنين والشوق للحبيب الراحل. حالتها المزاجية كانت أشبه باجتماع كل فصول السنة في يوم واحد.
توقعنا أن تعود إلى موطنها الأصلي بعد رحيل زوجها، ولكنها نفت ذلك في أكثر من موقف. كانت تردد: مصر بلدي، حبها يجري في دمي أكثر من مصريين كتير ناكرين لخيرها.
اعتمدت على حارس العقار لقضاء حاجاتها. وكانت حددت له موعدا في الصباح الباكر ليتسلم منها قائمة الطلبات، وعند المغرب ليلقي بكيس القمامة، وتضيف إليه أي تعليمات جديدة تتعلق باليوم التالي. إنها مالكة العمارة ولا يجرؤ أن يعصي لها أمرا أو أن يتخلف عن موعده معها.
جاءني يسألني عن تفسير لتغير نمط حياتها واهتماماتها في الشهور الأخيرة، وهوايتها الغريبة في اقتناء نوع معين من الزجاجات، حتى أنه أشترى كل المعروض بالمحال المحيطة وما زالت تطلب المزيد، ويمضي جزءا كبيرا من وقته في البحث لها عن المزيد.
وقبل أن أجيبه سألته: "ماذا تفعل بها؟"
قال: "أراها توزعها بأركان البيت على شكل وردات وداخل كل منها ورقة مطوية بنفس الحجم، كأنها رسالة. وتسدها بوردات مختلفة الألوان من صنع يديها بنوع معين من الخيوط تطلب مني شراءه أيضا. داخل نفسي عن بعد، أراها تجلس ساعة العصاري مستظلة بزرعة اللبلاب بشرفتها، وألمح حركة يدها التي تغزل بإبرة الكروشيه، ولا أرى إلا أطراف الخيوط التي تحركها نسمة الهواء".
أجبته: "ربما تدون أشياء تخصها أو علامات لترتيب الزجاجات نفسها".
وبعد أن تركني، تذكرت لقطة في أحد الأفلام الأجنبية؛ البطلة تكتب رسالة إلى حبيبها وتضعها في زجاجة وتحكم غلقها وتلقي بها في البحر آملة أن تدركه. هل لجارتي حبيب آخر ترغب في وصاله بعد رحيل زوجها؟ سؤال حتما ستجيب عنه الأيام.
ومرت الأيام برتابتها لرجل بالمعاش مثلي اختار الوحدة قبل أن تختاره، لا أجد سلوى إلا بين أحضان كتاب من كتب مكتبتي التي حرصت على اقتنائها وكأني أدخرت تلك الثروة لأنفقها بتلك الأيام العجاف.
وأحيانا أثرثر عبر الهاتف أو عبر الشبكة العنكبوتية مع من تبقى لي من رفاق. وقلما أخرج لحضور ندوة هنا أو هناك. وأحيانا أخرى أترك لقلمي العنان لينطلق فوق الأوراق البيضاء ليسطر بعضا من تجربتي بالحياة.
وعلاقتي بجيراني لا تتعدى التحية الصباحية أو المسائية. وقد نزيد عليها تهنئة متبادلة إذا صادف اليوم أي مناسبة. وأطول حديث يكون عند صعود أو هبوط درجات سلم لخمسة طوابق عن أي شأن يشغل الرأي العام. لم أتزاور مع أي منهم وبالطبع لم يزرني أحدهم.
ولقد رأيت جارتي بمثابة سفينتي التي اعبر بها إلى الشاطئ الثاني من البحر الذي تطل عليه نافذتي، أتعايش معها بمشاهداتي العابرة، وأطلق العنان لخيالي ليصور لي ما قرأ بالروايات. كنت أستمد منها بعض طاقتي واستعادة بعض أحلامي وشبابي، على الرغم من إن السنين حفرت مكانها ببشرتها وجلدها والشيب تسلل لتاجها الذهبي. ولكن روحها المرحة جعلتها صبية دائما، وتبدو أصغر مني بحريتها وانطلاقها وملابسها.
وفي يوم سمعت صوت حركة تنقل أثاث بشقة جارتي، وساورني قلق غير مبرر عليها، وانتظرت مرور حارس العقار، فسيتطوع بإخطاري بما يحدث دون أن أبدأ بسؤاله. وصدق ظني به. لقد غيرت معالم شقتها ونقلت الكثير من الأثاث من أماكنه: غرفة المعيشة عبارة عن إستاد صغير، مدرجاته وأرضيته مكسوة باللون الأخضر. وضعت الزجاجات على تلك المدرجات كأنها مشتلها الخاص أو جنتها الزجاجية. وشددت عليّ أن احضر لها المزيد من الزجاجات بأسرع وقت وبأي ثمن:
"دلني يا أستاذ قدري أين أجد المزيد؟"
أجبته: "ربما في سوق الخردة أو الروبابيكيا".
ذهب حيث أشرت عليه وعاد بالمطلوب وطرق بابي ليشكرني، وسمعت صوت صنبور المياه بمطبخها لم يتوقف إلا بعد أن فرغت من غسيل كل الزجاجات وعلا صراخها: "آه يا ربي!" مع تهشم إحداها وانتشار شظاياها بكل أنحاء المطبخ.
خرجت تنادي "أسمان. أسمان". صعد عثمان السلم للطابق الخامس بسرعة البرق ليساعدها في لم الحطام وهو متحسر أكثر منها، ويعلم إنها ستطلب منه البديل عنها. لكنها لم تفعل، وأغلقت الباب خلفه بعد أن شكرته وأعطته بقشيشا.
نزل السلم وهو يشعر بأن السيدة "ميري" بها شيء مختلف لا يقوى على تفسيره. مبلغ البقشيش أضعاف ما أعتاد عليه منها، وميل وجهها للاصفرار جعله يشعر بأن مرضا ما ألم بها.
وفي الصباح، في تمام الثامنة، تدير موسيقى زوربا التي باتت جزءا لا يتجزأ من يومها كنشيد الصباح عندها. وعن بعد، أتواصل معها وأشاركها الرقص على نغماتها، يتبدد كسلي وتنفتح شهيتي للمزيد من الحياة.
واليوم لم أسمع الموسيقى تصدح بأركان شقتها، وتنبهت إلى طرقات على بابها ولم تجب. وعلت الطرقات، ونادى عثمان عليها: "يا ست ميري. يا ست ميري".
فتحت باب شقتي كي أشاركه في الطرق والقلق مرسوم على وجهينا وتنطق به كلماتنا.
"وما العمل يا أستاذ؟ لم تكن على ما يرام بالأمس".
وأضفت: "ولم تفتح شباك شرفتها اليوم".
استعملنا السكين والمفك لفتح مزلاج الباب، ودخلنا معا.
وعاود عثمان النداء عليها ولا مجيب. ووجدنا جسدها مسجى على البساط الأخضر وسط حديقتها التي شكلتها من الزجاجات. ماتت بهدوء وسلام.
ترقرق الدمع في عين عثمان وانهمرت دموعي دون إرادة مني. ونبهني عثمان لآخر زجاجة لم تغلقها بعد، وبها رسالة. وحاول إخراجها دون أن يكسرها ولم يفلح.
ولأن فضولي يفوق فضوله، نصحته أن يكسرها بكيس من البلاستيك حتى لا تتطاير شظاياها، وعيناي تدوران في المكان تؤكدان ما رسمه خيالي.
وللدهشة وجدت اسمي مكتوبا بالرسالة كما يحلو لها أن تناديني: "كيريوش كدري: لماذا تكتبني؟"
◄ إيمان يونس
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
4 مشاركة منتدى
امرأة من الشاطئ الآخر, مهند فوده-مصر | 27 أيلول (سبتمبر) 2014 - 10:54 1
قصة رائعة استاذة ايمان .. فقد حزنت انا ايضا بموت ميري التي تنتمي لمصر اكثر من المصريين ذاتهم .. وانتهت القصة قبل ان تشبع فضولي في قراءة بقية الرسائل في الزجاجات الاخری ..
1. امرأة من الشاطئ الآخر, 29 أيلول (سبتمبر) 2014, 07:12, ::::: إيمان يونس
كاتبنا الواعد مهند فودة ..سعدت بتعايشك مع القصة لدرجة الحزن على ميرى ...وجميل إنها أثارة شوقك لمعرفة ما دونته بالرسائل الأخرى ..دمت ودامت طلتك الرائعة ..تحياتى وتقديرى
امرأة من الشاطئ الآخر, هدى الكناني من العراق | 28 أيلول (سبتمبر) 2014 - 09:47 2
ايمان يونس من مصر
سيتي
لقد عشنا اجواء هادئة لحياة جميلة الرتابة
فما أحمل ان نتفنن في رسم رتابة حلوة وإن تكررت
ودوما هناك علامة استفهام تثيرها كتاباتك
وهذا ما يجعل المتلقي يتفاعل مع قصصك
لقد صدق الد. عدلي في وعده بان العدد 100 سيكون مميزا ، ولقد كان
بالتوفيق
هدى الكناني
1. امرأة من الشاطئ الآخر, 29 أيلول (سبتمبر) 2014, 07:17, ::::: إيمان يونس
عزيزتى هدى .. علامات البهجة والسرور التى أشعر بها ترسمها حروفك المنثورة تعليقًا على قصتى..دُمتِ ودام أريج مرورك ...تحياتى وتقديرى
امرأة من الشاطئ الآخر, إبراهيم يوسف - لبنان | 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 18:05 3
ما قلتِه عن وفاء السيدة.. وربما جنونها صحيح إلى حد بعيد. بعض هؤلاء الأجانب ممن عاشوا طويلا في بلادنا، صاروا أكثر وفاء لأوطاننا منا.
الطائفة الأرمنية الكريمة عندنا على سبيل المثال باتت من النسيج الوطني الأكثر وفاء..!؟ وهذا ربما يفسر سر تفوقهم علينا في إنسانيتهم والكثير من المجالات الأخرى، والسيدة الأجنبية إيَّاها تحمل "جيناً" في الوفاء للأرض والإنسان، خلافاً لأحوالنا الحاضرة.
عموما لا يخلو النص من بعض الملاحظات كاستخدام حرفيِّ الجر "في" و"الباء" المستقلة، وجمع المفردات والالتفاف المتقن على الصياغة في بعض التعابير. أما فكرة الموضوع وهي الأهم.. فلا غبار عليها ولو لم تكن مبتكرة أو جديدة.
1. امرأة من الشاطئ الآخر, 6 تشرين الأول (أكتوبر) 2014, 18:11, ::::: إيمان يونس
أ / إبراهيم ..عميقة رؤيتك للنص ورائع أن تفند إيجابياته وسلبياته بهذا اﻷسلوب الرشيق ..تحياتى وتقديرى لثراء مرورك
امرأة من الشاطئ الآخر, أوس حسن | 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 13:18 4
الجوانب السردية والتوصيفات في النص مشوقة وممتعة،والشخصيات تم رسم ملامحها بدقة لتعبر إلى مخيلة القارىء الصورية،المشهد الصوري والعناصر المتحركة في النص،ساهمت في انتاج نص ناضج ومتين /أتمنى لك التوفيق والنجاح / مودتي
1. امرأة من الشاطئ الآخر, 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2014, 19:28, ::::: إيمان يونس
أ / أوس ..كل التحية والتقدير لإطرائك الطيب إنها شهادة أعتز بها من مبدع متميز . .دمت ودامت طلتك الغالية