لما أنيس البزور - الأردن
النقد الاستقرائي في أعمال الفنان عدنان يحيى
يُعد النقد الاستقرائي[1] طريقة من طرق النقد الفني وتعتمـد هـذه الطريقة على جمع الحقائق حول العمل الفني بأسلوب قائم على إعداد قائمة جـرد أو تعداد للعناصر البصرية، ووصف العلاقات بين هذه العناصر، وتلخيص الانطباعـات حول جوهر ومعنى الأشياء التي ترى في العمل الفني بعد التأكد من فحصها فحـصاً كاملا. ويحاول النقاد في هذه الطريقة تجنب الانفعالات العاطفية والأحكام المتـسرعة وغير الناضجة (قزاز، 2001، ص 67).
عدنان يحيى من بلدة العباسية (يافا) المولود في اربد/الأردن سنة 1960م، هجّرت عائلته عقب نكبة 1948م لتصبح لاجئة في الأردن. وفي ظل هذا التشريد والمأساة، نشأ شابا ثوريا مشحونا بفكرة الوطن و اللجوء و حق العودة، وتخرج من معهد الفنون والموسيقى عام 1976م، وحاز على دبلوم تربية فنية (دارة الفنون، ص 82) كما درس في معهد المعلمين بعمان سنة 1980م (المناصرة، 2003، ص573)،
أنتج عدنان يحيى مجموعة من 20 عملا فنيا بعنوان "صبرا وشاتيلا" كرسها ليوميات القهر والجور، شهد العالم الأحياء والجمادات على واحدة من عشرات المجازر الأفظع والأقبح جرما ًفي القتل والهمجية، مجزرة "صبرا وشاتيلا" وما زالت الأرض تشهد بما احتضنت أشلاء وأجزاء بشرية ودماء.
ألزم عدنان يحيى نفسه في هذه المجموعة باستخدام الأبيض والأسود مع قليل من درجات الرمادي المتفاوتة، وغيّب استخدام الألوان. وغلب عليها طابع الحزن والقهر والجور والتشرد، ورائحة الموت والحرب والظلم. ومن الواضح أن مرأى هذه اللوحات لا تسُر العين ولا تبهج القلب لأنها تذكرنا بالمشاهد الحقيقية التي خلفها العدو. ومع ذلك هناك مسحة فنية رائعة تشدنا لهذه الأعمال برغم الألم المحاط، إذ ننظر إلى لوحات عدنان يحيي فتظل في الذاكرة لوقت طويل.
ركز الفنان في أعماله على الموضوع في المقام الأول، فموضوع الحرب كان المحور في جميع مراحله الفنية. والمتتبع لمسيرة عدنان يحيى الفنية يجده دائم البحث عن مواضيع لوحاته في تفاصيل وتحولات الحياة اليومية تحت قمع الاحتلال. إذ لا تخلو أعماله من مشاهد الحروب، فالعنصر البشري (الضحايا) يظل من أبرز أعماله في هذه المجموعة التي رسمها بأسلوبه الواقعي التعبيري وبحركات درامية، الأمر الذي يُشي بحرقة الألم والواقع المرير، وجو الحرب الطاغي في كل جزء من لوحاته.
يقول يحيى: "هذه اللوحات بالأبيض والأسود ترجمة حقيقية وتسجيلية ولكن بأسلوب فني تعبيري"، حيث يتعاطف الفنان مع هؤلاء الأبرياء ويرفض الجرائم والمجازر التي كانت ترتكب وما زالت، إذ تبدو أغلبية الشخوص في لوحاته منشغلين مع بعضهم البعض في تفقد وترقب ما يجري من حولهم، وكيف أصبح كل ما يحيط بهم خراب ودمار.
ويؤمن الفنان أيضا بأن من حق الأجيال القادمة أن تنعم بحياة آمنة مستقرة. وظهر جليا في أعماله لهذه المجموعة حدة التباين بين العناصر المكونة للعمل والخلفية الداكنة. أراد من ورائها الفنان تجسيد الحدث بإثارة المشهد ومصداقيته، فطبيعة المكان في جميع لوحاته تساعد المشاهد في معرفة المزاج الذي تصوره. ويتجلى ذلك في دقة رسم الأطراف البشرية المترامية وتفاصيل الجثث المتراكمة هنا وهناك.
صور يحيى المشاهد الدرامية للحرب والمجازر البشعة، التي ارتكبها العدوان الإسرائيلي مستعينا بالذاكرة المثقلة لكي ينقل لنا هذه اللوحات مجسداً الأرض الواسعة التي تناثر فوقها القتلى والجرحى وأطراف البشر المقطعة وأوجاعهم وأشلاؤهم ودماؤهم وما يشع منها من أحاسيس عاطفية تُجملها تعبيرات الأيدي وحركات الشخوص.
وحينما يعالج عدنان يحيى رسم الشخوص، نلاحظ تزاحما، كما يبدو قلب الحدث من خلال روح العمل كله. وفي هذه الأعمال يبدو لنا أنها تخلو تماماً من أي عنصر أو رمز يدل على مرتكبي المجازر، فليس هناك دبابات أو قنابل أو أي مشهد يدل على التفجير، بل كان يفضّل دائما في مراحله الفنية جميعها رسم القتلى والجرحى في اللوحة، والحزن بشكل متزاحم في حركة الأشخاص.
والواضح في هذه المرحلة تكرار لبعض العناصر (الضحايا)، وذلك لإظهار قيمة وحجم بشاعة هذه المجازر وتعبيراً عن تأثره وتفكيره بالحدث. ويبرر عدنان يحيى خلو أعماله من مرتكبي هذه الجرائم فيقول: "أنا لا أحب أن أرسم أعدائي، يكفي أن ارسم من هُم اقرب الناس إليّ. كما أنني أحب أن ارسم خساراتي حتى لا أنساها. كما أنني أحب أن احفر في الروح حتى تبقى اللوحة وثيقة إنسانية".
قراءة الأعمال
يظهر دائماً في الجزء الأمامي في هذه اللوحات مجموعة كبيرة من الشخوص "الضحايا" المتكدسة فوق بعضها البعض غارقين بدمائهم وجراحهم على أرض مثقلة بأشلائهم وأوجاعهم. ونلحظ تكرار وجود العنصر الآدمي المنتصب، المنحني، الفزع، الباكي، المفجوع من هول ما أصابه هو وأرضه وشعبه، الرافض للظلم، والذي يجعله يخرج من بين هؤلاء المنكوبين عنصر آدمي (امرأة، رجل، طفل)، وأحيانا شجرة.
نلاحظ أيضاً تكرار الفضاء الأسود القاتم في الجزء الخلفي في هذه الأعمال، كما ركز أيضا على وجود الهلال الصغير، وأيضا البيوت الصامدة خلف الشخوص. الأسود القاتم يشي بجو الحرب والظلم، رسم الهلال بحجم صغير تعبيرا من الفنان عدنان يحيى عن وجود الأمل ولكنه ضعيف، ونلاحظ اهتمام الفنان عدنان يحيى بالشخوص المقتولين فقد رسمهم في الجزء الأمامي بحجم كبير يشغل المساحة الرئيسية في جميع أعماله لهذه المرحلة، ويظهر اهتمامه الواضح بالحركة عند رسم الشخوص وإبراز التفاصيل للأطراف في الجسم البشري.
حدة التباين في الخلفية، الأسود يفترش على المساحة الأكبر كناية عن حجم الظلم الواقع وبكبر حجم هذا الظلم لا بد للخير أن ينتصر ولو كان بحجم صغير، الخطوط متوترة خشنة.
اللوحة الأولى: حبر على ورق (40X30سم)
يقدم هذا العمل عددا كبيرا من الضحايا في الجزء الأمامي من العمل، نرى الفنان عدنان يحيى يركز على رسم الأقدام الحافية ونلحظ أيضا أنه يتعمد زيادة حجم الأطراف كما هو في الجانب الأيمن من هذا العمل حيث يجسد القدمين الحافيتين، بأسلوب تعبيري واقعي، والخطوط المرتسمة على باطن الأقدام والملابس كذلك، بحركة توحي بالجروح والنتوء في الجسد المليء بغبار الدمار والثياب الممزقة المقطعة المليئة بالدماء. حركة اليد المفروشة على الأرض بالجانب الأيسر من هذا العمل تجعلنا نكاد نسمع أنفاس صاحب هذه اليد.
وجود الشخص في منتصف الجزء الأمامي من العمل يخرج مسرعا نحو ومضات الأمل المتمثلة بالحجم الصغير لهذا الهلال. الجانب الخلفي المظلم مع حركة البيوت على هذا العمل مشهد تعبيري، حركي، درامي. هناك أيضا الخطوط الدائرية والمتوترة التي توحي بالرفض القاطع لهذه المجزرة فالناظر لهذا العمل يكاد يفزع أو يسمع أصوات القذائف والقنابل والدبابات التي قتلت ودمرت ومزقت كل ما على هذه الأرض وجعلت هذا الشخص الناجي من هذه المذبحة يهرع تاركا كل ما عداه إلى حيث لا يدري.
يقول الفنان في حوار مع الباحثة: "هناك شعور يراودني كلما نظرت إلى هذه اللوحة إذ يُخيّل لي وكأني أركض نحو هذا الشخص لأرى ملامح ووجهه التي أراها مبعثرة". وسألته: "لماذا تُخفي ملامح هذا الشخص؟" فقال: "عندما تقولين لماذا لم ارسم وجه البطل في اللوحة الأولى، إن صعوبة المشهد، كما أظن، لبشر أحياء لمذبحة حقيقية، فقد حاولت نبش الجمر بأصابعي في ملامسة أنفاس الشخوص أمام هذا الموت"[2].
اللوحة الثانية: حبر على ورق (40X30سم)
يمثل هذا العمل في الجانب الأيسر من الجزء الأمامي من شخصية خرافية بهيئة رجل يقف وقفة ساذجة لا تخلو من الغباء، بأسلوب سريالي مرتديا بنطالاً وجاكيتا. تلاعب واضح في النسب بشكل كبير، حيث يتجلى ذلك برسم الرأس الصغير لجسد كبير. الظهر مقوس ومنفوخ بشكل مبالغ فيه، والبطن منتفخ ومتدل أيضا. حافي القدمين. حجم القدمين كبير بالنسبة لحجم الساق وتظهر يده اليمنى بوضعية غير مناسبة مع الظهر المقوس.
يرسم الفنان في الحيز الخلفي للعمل وكذلك الجانب الأيمن من الجزء الأمامي الشخوص المقهورين خلف سماء سوداء مظلمة؛ الجثث مترامية على بقعة من الأرض ليس لها بداية أو نهاية. حركات الأشخاص توحي بالعذاب والألم والقسوة، ويظهر ذلك بوضوح في جميع لوحات عدنان يحيى.
وتارة أخرى يُنظر إلى هؤلاء الشخوص بأنهم ليسوا على قيد الحياة، بل مقتولون. وكما أعتدنا أيضا على رؤية الأسود القاتم في الخلفية في جميع أعماله، في هذا العمل غيّب الفنان وجود الشخص المنتصب الذي طالما رأيناه يخرج من بين الضحايا، وكذلك الهلال الذي يظهره في معظم لوحاته وعدم وجود البيوت أيضا في هذا العمل.
يلاحظ في هذا العمل أن فكرة رسم الرجل الخرافي في يسار اللوحة تذكرنا بالرسوم الكاريكاتيرية للفنان الفلسطيني ناجي العلي، وهو يصور الشخوص المتكرّشة كما كان يسميها. المتمعن في ملامح الرجل الخرافي على يسار العمل يدرك أنه يلعب دور البريء في هذه اللوحة، فهو مستغرق في تفكيره العميق. فقد استطاع عدنان يحيى من خلال تركيبه للرأس الصغير والوجه المتأسي الملامح على الجسد المتضخم أن يكشف لنا الستار عمّا يُخفي بداخله من التلذذ والنشوة الساديّة لديه.
اللوحة الثالثة: حبر على ورق (40X30سم)
يمثل هذا العمل في الجزء الخلفي مشهد من زاوية غرفة فارغة تخلو من الأثاث. توجد نافذة في الجانب الأيمن من الجزء الخلفي. يوجد على الزاوية اليمنى دلو صغير على النافذة المفتوحة قليلا. الشخوص المترامية فوق بعضها كما في باقي الأعمال السابقة، بين قتيل وجريح، ولكن هنالك عنصر جديد في هذا العمل، وجود النافذة. هنا استبدل الفنان في هذا العمل الهلال الذي تكرر في باقي أعماله من هذه المرحلة بالنافذة. ونلحظ أيضا أن عملية القتل هنا نفذت داخل غرفة أو منزل.
وعندما سألت الفنان عن تكرار الهلال وبشكل أفقي دائما وغياب اللون في هذه المجموعة قال: "الهلال في جميع لوحات المجازر هو فسحة الأمل والخلاص من الظلم، أو بمعنى آخر الخلاص من الاستبداد والقهر والبحث عن الحياة"[3].
هذه اللوحات بالأبيض والأسود ترجمة حقيقية وتسجيلية ولكن بأسلوب فني تعبيري لمذبحة صبرا وشاتيلا بشكل خاص.
ومن الملاحظ إن الفنان حرص على تغطية عيني الرجل ليضفي على هذا المشهد بعدا درامياً، فهذا الشخص لا يملك القدرة ليُشيح بوجهه عن هذا المشهد الدامي، وغير قادر على تصديق ما تراه عيناه التي تشعر الناظر بأنها محدقة، من غير حركة، مما دفع هذا الشخص إلى رفع يديه ووضعهما على وجهه بحركة سريعة من شدّة فظاعة هذا المشهد بعد أن فوجئ بقتل وتحطيم تلك الجموع من حوله وبين أصوات القذائف، ورائحة البارود والدمار وأصوات الأنفاس الأخيرة للجرحى.
= = = = =
هوامش
[1] يرى المنظرون لهذه الطريقة، عند إعداد قائمة الجرد للعناصـر البـصرية، ضرورة لإعطاء أحكام على أهمية أو جودة العمل الفني. إلا أن للناقد الحرية في إعطاء أحكام إذا حبذ هو ذلك.
[2] لما بزور. عدة حوارات مع الفنان التشكيلي عدنان يحيى، 2011-2012م.
[3] المصدر السابق.
المراجع
دارة الفنون، فنانون تشكيليون في الأردن، عمّان، دارة الفنون، مؤسسة عمد الحميد شومان 2005م.
قزاز، طارق، طبيعة النقد الفني المعاصر في الصحافة السعودية، جامعة اليرموك، 2001م.
المناصرة، عزالدين، موسوعة الفن التشكيلي المعاصر في القرن العشرين: قراءات توثيقية تاريخية نقدية ، عمان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2003م.
◄ لما البزور
▼ موضوعاتي