عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

حوار مع الباحثة نتالي أبو شقرا

الغناء الثوري والملتزم


بعد انطلاق محاولات التغيير في العالم العربي في نهاية عام 2010، تجدد النقاش حول دور الفن والأدب قبل وأثناء التحركات الجماهيرية، وبرزت وجهتا نظر إحداهما ترى أن الفن والأدب حرضا على الثورة وبشرا بها؛ والأخرى لا تـتفق مع هذا الرأي.

وفي المراحل التي خضعت الدول العربية فيها للاستعمار، عرفت الأغاني التي تحث على مقاومة الاستعمار والاحتلال. وبعد الحصول على الاستقلال، عرفت الأغاني التي تتبنى موقفا اجتماعيا من قبيل الدفاع عن حقوق الفقراء، وإعلاء صوتهم.

وظاهرة الأغاني الملتزمة معروفة أيضا، وقد اشتهرت في مصر ظاهرة الشيخ إمام الذي كان الكثير من أغانيه قصائد للشاعر أحمد فؤاد نجم. وفي لبنان، أشتهر في هذا المجال مارسيل خليفة وجوليا بطرس وغيرهما.

الباحثة نتالي أبو شقرا تعد رسالة دكتوراه في جامعة لندن حول الفن الثوري والملتزم، ولها مقالة منشورة عن هذا الموضوع (1) تستعرض فيها بإيجاز هذه الظاهرة الفنية. وتركز الباحثة على الفنان محمد منير الذي تطرق في أغانيه إلى قضايا وجودية ومعادية للعنصرية والإمبريالية. عدلي الهواري حاور الباحثة حول هذا الموضوع.

(س) تقولين في مقالة لك عن الأغاني الثورية إنها يمكن أن تكون وسيلة للتعبير عن النفس القومية وتجسيدا للمشاركة الجماهيرية. ما هي الأسس التي يتم على أساسها اعتبار بعض الأغاني ثورية وأخرى لا؟

نتالي أبو شقرا(ج) الأغنية منتوج ثقافي ويجب قراءتها تحت مظلة سياسية وتاريخية أيضا. أعتمد على تعريف فرانتز فانون للثقافة المقاومة في طرحي للأغنية الثورية أو المقاومة وخاصة منها الأناشيد القومية والاشتراكية خلال المرحلة الناصرية المعادية للاستعمار والمتجهة نحو تكوين وعي مقاوم رافض لقوى الإمبريالية والرأسمالية والمنحازة تجاه الفلاح والعامل والتلميذ والفقير.

الأناشيد في تلك المرحلة عززت روح المقاومة ضد الصهيونية واعتمدت على تكوين هوية المواطن العربي في المرحلة بعد الاستعمار. وفلسطين تحتل مكانا جوهريا ومركزيا في تلك الهوية العروبية: أوبريت "الجيل الصاعد" و"الوطن الأكبر" من أكثر الأغاني تعبيرا عن شعارات المرحلة الناصرية. لكن اختلف الأمر بعد استلام السادات السلطة، فقمع وخنق كل ما يتعلق بالوحدة العربية وفلسطين والوعي الثوري واستبدله بثقافة استهلاك و"غابة ذئاب" (على حد قول أحمد فؤاد نجم في احدى قصائده المغناة) وطبقة سماسرة ذات ثراء فاحش.

قبيل النكسة بفترة قصيرة، كان الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام من ألذع المنتقدين لطبقة الضباط ونظام ناصر الذي تحول إلى عصابة إقصائية. لقد بلورت مرحلة الانفتاح والثورة المضادة ما يسمى الأغنية السياسية البديلة، ومن روادها الثنائي نجم/إمام فشكلت أغانيهما الثورية (المُهمشة) والتي تم تداولها عبر الكاسيت وفي حرم الجامعات، والتي تُلخص لنا كل هموم تلك المرحلة وما جاء بعدها: عبادة الرجل الأبيض، تهميش الفقراء، ثقافة الاستهلاك، تهميش القضية الفلسطينية، تعزيز القومية الفرعونية المصرية والقومية القطرية بشكل عام أيضا.

الأغنية الثورية في هذه الحالة غائبة عن السياق الثقافي العام، وبالرغم من تسميتها "أغنية بديلة" إلا أني أحبذ مصطلح "الأغنية المنشقة": فهي الأغنية المنشقة عن لغة الدولة والنخبة السياسية الحاكمة ومن أهدافها الأساسية التحريض. أغاني الشيخ إمام مثلا تقوم بذلك عبر السخرية واستخدام أغاني الأطفال في هذه الحالة ("حطة يا بطة يا ذقن القطة"/"شقع بقع يا ذيل الفار") لمخاطبة النظام الحاكم والتقليل من وهم السلطة عبر سخرية لاذعة وفكاهية.

هكذا اذا تختلف الأغنية الثورية في شكلها ومضمونها وحتى معايير جماليتها استجابة للسياق التاريخي والثقافي والسياسي التي تنتج عنه.

(س) يبدو في مقالتك أنك تتفقين مع الرأي الذي يرى انحسارا في الأغاني الثورية منذ أواسط الخمسينيات. ماذا عن انتشار أغاني الثورة الفلسطينية بعد ظهور المقاومة الفلسطينية بعد حرب عام 1967؟

(ج) لا أرى انحسارا، بل تهميشا وكبتا. الأغاني الثورية غير مرحب بها في ظل أنظمة الظلم والاستبداد والتي تعمل جاهدة على حصر الأغاني المحرضة عبر ثقافة تشييء الإنسان والجنس وتسليعهما (وجسد المرأة خاصة) وما نجده بشكل عام في أغاني "البوب" العربي وهو احد مظاهر التحديث والحداثة ونتيجة مباشرة لتصنيع الثقافة الرأسمالية والاستعمارية والتبَني الأعمى لكل قيمه الغريبة، علما أن المجتمعات الغربية تم استعمارها داخليا قبل ذلك.

أناشيد الثورة الفلسطينية كانت تتمة لثورية الأناشيد الناصرية وليست منقطعة عنها ولكنها لم تُعمم في الإعلام العربي.

إن أغاني العشق والغرام والحب السطحي التي هيمنت على أعمال فنانين مثل هاني شاكر وعمرو دياب وغيرهما خلال الانفتاح وبعده تتسم بالهروب من الواقع، وما تلتها من ثقافة أغاني الحب المبتذل والسوقي والذكوري المنحط كأغاني فارس كرم ومحمد إسكندر المعاصرة والتي يكون مصدر تمويلها البترودولار وتعكس أفكار النخبة الحاكمة الرجعية ونمط حياتها.

يبقى أن نقارن بين حب محمد إسكندر في "جمهورية قلبي" الذي يقمع المرأة ويقيدها وحب زياد رحباني في "بلا ولا شي" الذي يقبل بالمرأة "كما هي" من دون تكلف استجابة لمجتمع كابت. النوع الأول من الأغاني يقوم بتغريب المرء عن واقعه الاجتماعي والاقتصادي وعن الأسباب الحقيقية التي تؤدي إلى فقره وبؤسه و باقي مآسيه.

الأغاني المعاصرة تعتمد على مظهر المؤدي في ثقافة تصنيع النجومية، والفيديو كليب هو الوسيلة لتحقيق ذلك. أما ما يعكسه هذا الفيديو كليب فهو نمط حياة غير مألوف لدى الأغلبية الساحقة للشعب العربي الذي يعيش تحت خط الفقر، بل يمثل أسلوب حياة النخبة الحاكمة، حليفة الاستعمار والرجل الأبيض، مثلما قال الطيب صالح في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال": حتى وإن ترك المستعمر الأرض، فقد ترك عليها بقاياه التي تحفظ له مصالحه في البلاد.

(س) ما هو تصنيفك لأغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة: هل هي أغاني ثورية أم أغاني وطنية؟

(ج) غنى الفنان هاني شاكر لفلسطين عند الانتفاضة الأولى وأغاني وطنية مصرية، مع العلم أنه كان احد الأطفال في فيديو أغنية "الدرس انتهى" لشادية عن مجزرة مدرسة بحر البقر [في مصر]. إلا أنه أصبح لاحقا حليف النظام الساداتي ومبارك بعده.

إن كانت الأغنية وطنية فهذا لا يعني أنها ثورية. هناك أغاني وطنية كثيرة خلال عصر مبارك مثل "النسر المصري شق السماء" الذي غناها الفنان المصري علي الحجار وكانت عن مبارك و"عظمته"، أي هي أغنية متحالفة مع النظام. هذه الأغاني الوطنية عادة ما تأخذ شكلا شوفينيا وانعزاليا. هذه الأغاني لا تشبه أغاني الشيخ إمام ومارسيل خليفة وفيروز وجوليا بطرس وآخرين.

أما بخصوص تصنيف أغاني الشيخ إمام فيمكن القول إنها ماركسية الطابع، ثورية اللهجة، ساخرة النبرة، ووطنية الميول مع أنها تخاطب كل شعب منكوب ومكبوت وتعتمد على الأشعار العامية الشعبية.

جوليا بطرسأما مارسيل خليفة فأغانيه الوطنية ليست ساخرة بل يسودها الشجن في عمق ثوريتها. جوليا بطرس تعتمد الغناء المقاوم المباشر والمحرض وبعيدة تمام البعد عن السخرية.

أما زياد رحباني فهو مدرسة موسيقية وخاصة في الجاز العربي والسخرية من السياسيين وشخصيات المجتمع المعاصر، حتى أن بعض المصطلحات التي بتنا نستخدمها في وصف الحالة التي نعيش فيها مستوحاة من أعماله الفنية (غنائية ومسرحية) مثل "العقل زينة" و"لتعمل ثورة على النظام لازم أول شي يكون في نظام" وغيرها من أقوال.

كل من هؤلاء مدرسة في الموسيقى وهم خارج المنافسة.

(س) لديك وجهة نظر ملخصها أن الفنان محمد منير جاء بمشروع جدير بالاهتمام. ما هو الجديد في مشروع/ظاهرة محمد منير؟

محمد منير(ج) محمد منير ظاهرة عصره ومدرسة في الموسيقى رغم مزاعم المعترضين على فنه بحجة عدم الالتزام بمعايير الموسيقى القاهرية. وهذه تصنيفات برجوازية تتخذ للموسيقى معايير وتصانيف جمالية حادة وغير متغيرة. فإن واكبنا نظرية برتولت برخت عن الفن والثورة، نرى أن الفن يستجيب إلى عصره ويأخذ لنفسه أشكالا جمالية جديدة ليست بالضرورة منفصلة عن سابقها من تراث صنع الموسيقى (العربية في هذه الحالة).

لا أتحدث هنا عن شخص محمد منير ولا عن توجهاته السياسية الطفولية في المرحلة الأخيرة وخاصة في تحالفه مع نظام عبد الفتاح السيسي، رغم ما على هذا النظام من مآخذ، مثل الموقف تجاه الحصار المفروض على غزة، وداخليا فض الاعتصامات بالقوة، ومنع التظاهر والاعتصام، واعتقالات واسعة النطاق. أتحدث عن محمد منير الذي يمثل مشروع الشاعر الصعيدي الفذ عبد الرحيم منصور وابن النوبة، الملحن احمد منيب، الذي غنى منير معظم أغانيه، حتى أن هذه الأغاني بالذات لم تنتسب لمنيب، وقد عرفها الناس بصوت منير.

من الضروري الإشارة إلى التمييز العنصري ضد ذوي البشرة السوداء أو السمراء، وهذا من بقايا الوعي الاستعماري في المنطقة. أما النوبي في التاريخ العربي المعاصر فهو منكوب، وقد هُجّر من أراضيه خلال الحكم الناصري استجابة لرغبة جمال عبد الناصر في بناء السد العالي، وهذا رمز من رموز مقاومة الاستعمار في تلك المرحلة والتي رسخت حب الجماهير لشخص ناصر.

لكن النوبيين لم يندمجوا في قراهم الجديدة. وما وُعدوا به لم يحقق بعد استلام السادات للسلطة. هم مهمشون وموضوع دسم للسخرية في أفلام مصرية خمسينية ومعاصرة، ويُصورون على أنهم أقل شأنا وذكاء من المصري القاهري. مثلا، هناك أغنية الفنانة اللبنانية هيفاء وهبي للأطفال حيث تقول "القرد النوبي" والتي تم تعديلها لاحقا والتي تؤكد على اختلاف النوبي بناء على لون البشرة السمراء الداكنة.

أغاني محمد منير الأولى بدأت مع عبد الرحيم منصور الذي كتب أغنية "شجر الليمون" ولحنها منيب، وهي تتحدث عن شجر الليمون القوي الذي يُسحق على أرضه، وهو "ذبلان على أرضه" لأنها مغتصبة ومحتلة و"كل شيء بينسرق مني/العمر والأيام" أي تجسيد لتجربة اللاجئ المنكوب، الذي يقضي حياته منتظرا ساعة العودة، وهذا الانتظار القاتل.

هذه الأغاني كتبت في عصر التطبيع الساداتي مع دولة التفرقة العنصرية إسرائيل، والانفتاح الاقتصادي، والتبعية الغربية العمياء وتهميش القضية الفلسطينية في الوعي العربي (والمصري) وشيطنة الفلسطيني. كان للاجئ والفقير والمغترب والمرأة (بنت البلد) والوطن مركزية في الأغاني المنيرية فتجد أغنية "أتحدى لياليك" لسناء محيدلي، اللبنانية الشهيدة التي اختارت الشهادة سبيلا للدفاع عن الجنوب اللبناني الذي كان تحت الاحتلال الإسرائيلي. من كتب لسناء أغنية؟ ومن ذكر الجنوب من فناني النخبة؟

وغنى منير أغاني منيب النوبية مثل شمندورة وحنينا باللغة النوبية وهي تتغزل بالفتاة النوبية السمراء. الحبيبية السمراء أو مصر، وهويتها الأفريقية كانت تيمة غالبة على الأغاني الوطنية في وقت طمست هذه الهوية وضعف الدور المصري في محيطه الأفريقي خلال حكم السادات ومبارك بعده.

فاذا يكون المشروع المنيري قد شكل استمرارا للوعي الناصري ولكن من خلال استخدام الصور الرمزية وغير المباشرة، فتبدو للمستمع خفيفة وغير سياسية ولكنها عكس ذلك تماما.

أغنية رومانسية مثل "الليلة يا سمرا" عن الوطن. قد يرقص المرء على أنغامها ويغنيها لحبيبته. أغنية "بنات" الحديثة قد نستمع ولا ندرك عمق وجع "بنت البلد" لأنه "في بلدي البنات/ماشية وظابطة في ايدها الساعات/ولما بتقفل بيبان البيوت/ولما بينزل ظلام الحارات/بتجري تروح/تقدر تعاند وتقدر تثور/لكن ساعات، دق الساعات بيجرح حاجات ويخنق حاجات."

في هذه الأغنية تجسيد لحياة المرأة العادية في مجتمعنا العربي: فهي لا تتغنى بأبرز صيحات الموضة والسيارات كما في فيديو كليبات روتانا، بل هي مخنوقة وتصارع دوما مجتمعا قاسيا. هي أغنية ذات معان نسوية مستوحاة من الواقع وغير مستوردة من نسوية لورا بوش الكولونيالية التي تريد أن تحرر المرأة الأفغانية من الرجل الأفغاني مثلا.

الشاعرة كوثر مصطفى هي من كتبت "بنات" وكانت قد تعاونت مع منير في فيلم "المصير" ليوسف شاهين الذي كان فيه منير رجلا غجريا. والغجر يصورون كأقلية مهمشة في الفيلم الذي احتوى على الأغنية الأيقونية "علّي صوتك".

ورغم أن منير بدأ مسيرته في نفس العام الذي برز فيه مارسيل خليفة، في 1977، إلا أنهما مختلفان مضمونا وشكلا. ولكنهما متفقان على نفس المبدأ والتوجه. يبقى خليفة "أغنية سياسية بديلة" ومنير "أغنية شبابية". وهذا ما يميز المشروع المنيري عن غيره، وهو ما اسميه "صناعة الثقافة البديلة" أو (the alternative culture industry).

(س) محمد منير صار في السنوات الأخيرة ضيفا في برامج تلفزيونية تذيعها قنوات تلفزيونية تجارية، هل تغير محمد منير، أم تغيرت القنوات التجارية؟

(ج) لا يمكننا أن نمنع محمد منير من أن يكون ضيفا في هذه البرامج، فهي قريبة من الناس ويستطيع عبرها التقرب منهم ومخاطبتهم. هذه القنوات التجارية يمكن استخدامها كوسيلة. ولا يجدر على الفنان التكبر أو التعالي ورفض الظهور عليها، فأكثرية الشعب يشاهدها. لا أحبذ النزعة البرجوازية في التعاطي مع أي نوع من أنواع الفن، حتى الفيديو كليبات المبتذلة هي "فن" وهي تعبر عن حالة المجتمع والنظام السياسي الغالب فيه. هي نوع من الفن الذي يمثل قيم وتطلعات الرجعية وطبقة رجال الأعمال العرب الفاسدة، خاصة في رؤيتهم للمرأة.

لدى منير بعض الأغاني التي صُنفت بـ"هابطة" مثل أغنية "الحظ والصدف" وأعتقد أنه يحاول الهروب من الأغاني والأعمال التجارية ولكن يقع في فخها أحيانا.

بعد رحيل عبد الرحيم منصور وأحمد منيب، وهما أعمدة المشروع المنيري، اختلفت أغاني منير ولكنه ظل مستعينا بأعمال احمد فؤاد نجم والأبنودي وجمال بخيت. ويجدر الذكر هنا أن مارسيل خليفة صار يقوم بإحياء حفلات لا يستطيع المواطن العادي حضورها بسبب سعر بطاقاتها المرتفع. في نظري هذا أمر خطير ومعيب.

(س) هل تتفقين مع بعض الآراء التي تعتبر عملا فنيا أو أدبيا معينا محرضا على الثورة أو على الأقل مبشرا بها؟

(ج) طبعا. هناك أغاني محرضة على الثورة ومنها غير الملتزم بأسس الموسيقى العربية. قد منع جهاز الرقابة لنظام مبارك أغنية محمد منير "ازاي" المحرضة في أكتوبر 2010. وبعد انتشار المظاهرات وانتفاض الشارع المصري في 25 يناير، عاد وأطلقها وسماها البعض "أغنية الثورة."

تجدر الإشارة هنا إلى الأغنية العملاقة "حدوته مصرية" التي كتبها منصور وأضحت نشيدا وطنيا بين الناس العاديين. كلماتها قوية ولاذعة، وهي هجوم مباشر على النظام الفاسد والسائد في مصر ومحرضة على الثورة. وأذكر منها معانيها المعادية للعنصرية و"رفض الآخر" وخاصة في زمن الحروب الأهلية والطائفية:

"أمد ايدي لك/ليه ما تقبلنيش؟/لا يهمني اسمك ولا عنوانك/ما يهمني لونك، مكانك/يهمني الإنسان ولو ما لوش عنوان/يا ناس يا مكبوتة هي دي الحدوتة."

هذه الأغاني ليست بديلة، بل تصدر عن صوت مغني شبابي (نوبي) ضمن ما يسمى بالأغنية السائدة أو (mainstream)، وهذا ما يميز أعمال منير: يغني من داخل بوق النخبة، ضد النخبة.

بدأت الأغاني الثورية في مطلع القرن العشرين مع سيد درويش وأشعار بيرم التونسي الذي على خطاه مشى الكثيرون مثل صلاح جاهين وفؤاد حداد وجماعة ابن عروس في الشعر العامي خلال منتصف الخمسينات. أشعارهم العامية محرضة وثورية وتحتضن الشعارات الناصرية من حيث مبدأ العدالة الاجتماعية.

سيد درويش هو رمز سياسي ثوري وموسيقي مبدع أيضا، وما فعله بالأغنية العربية من تغييرات ضمنية حولته إلى "رائد الأغنية العربية." أما ما يميز فنه فهو الواقعية المستوحاة من حال المواطن والمواطنة والفلاح والفلاحة والسقايين والحمالين إلى آخره. ابدع في الموسيقى وفي مخاطبة هموم الناس وتصوير معاناتهم وواقعهم وخاصة المهمشين منهم، ومسرحه الغنائي شكل إلهاما للأخوين الرحباني بعده في 1950.

أعاد سيد درويش التيمة الشعبية إلى الواجهة وحولها لأغاني في غاية الجمالية والإبداع. فهنا يتفق الإبداع والتوجه السياسي اليساري والملتزم. وقد كان محط حقد وملاحقة الاحتلال البريطاني والطبقة الحاكمة خلال حياته الفنية القصيرة. هو أول من غنى للمرأة العربية في:

ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم/قومي اصحي من نومك بزياداكي نوم/وطالبي بحقوقك واخلصي من اللوم/ليه مانكونشي زي الغربية/ ونجاهد في حياتنا بحرية.

أغنية على ألحان الوالتز الجميلة وكانت استجابة للحركة النسائية الأوروبية في سبيل حق المرأة السياسي في التصويت.

أغنيته "بلادي بلادي" أضحت نشيدا لفلاحي الثورة العرابية، وعندما قطع الإنكليز كل وسائل الاتصال والتنقل خلال ثورة 1919، قام بتلحين أغنية "لحن الشيالين" الذي استوحاه من غناء الشيالين فعلا.

(س) هل هناك مبادرات أو مشاريع فنية واكبت محاولات التغيير في الدول العربية ولفتت اهتمامك كباحثة؟

(ج) لقد لفتني الفنان المصري/المغربي مصطفى سعيد وخاصة مبادرته الفنية "التغيير من الداخل" حيث أن المبدأ بحد ذاته ثوري على كل ما هو سائد. يجب التنويه هنا أن العالم العربي يشهد تغييرات جذرية متواصلة منذ أواخر عام 2010 مما يربك الفنان والإنسان العادي، لذا يجب إعطاء الفن فرصة ليبلور هذه التغييرات ويستوعبها.

هناك طبعا فنانون ملتزمون كخالد الهبر وريم البنا ومي المصري وجوليا بطرس وفرقة اسكندريلا، ولكنهم غائبون عن مواقع الفن الغالب والأغنية الشبابية، وعندهم جمهورهم الخاص الذي يلتزم نفس المبادئ اليسارية والتقدمية.

(س) ما هو تقييميك لدور مواقع مثل يوتيوب وفيسبوك وتوتير وغيرها في تسليط الضوء على مبادرات فنية سبقت أو واكبت حركات المطالبة بالتغيير في الدول العربية؟

(ج) مواقع اتصال تسهل التنسيق بين الناشطين ولكنها ليست أولى من الشارع لتحقيق التغيير المستحب. خلال حرب الإبادة الأخيرة على غزة، استخدمها ناشطون لصد الخطاب الصهيوني ونقل الرواية الفلسطينية إلى عالم يهيمن عليه الإعلام المنحاز للصهاينة. مواقع التواصل هي سيف ذو حدين: تستخدم لترسيخ الخطاب السائد ولمحاربته أيضا.

(س) تشيرين في مقالتك أيضا إلى أن الطرب لم يعد غاية الغناء. أليس الطرب في الغناء العربي ميزة إيجابية تحسب له، وليس سلبية تؤخذ عليه؟

(ج) الطرب جزء من تراثنا العربي الإسلامي الموسيقي؛ والموسيقى العربية مستوحاة من التراتيل المسيحية القديمة والإنشاد والتجويد القرآني، ولكن لكل حقبة فنها. هذا لا يعني أن ننفصل عن التراث، بل أن نواكب الواقع عبر مخاطبته فنيا والتغيير من داخل التراث وليس فرض معايير غريبة عنه في تصنيع الموسيقى كما حصل في العالم العربي بعد الانفتاح، وأخيرا بموجة الفيديو كليبات والعري والتي تعزز أساليب وأنماط حياتية فاخرة وفاحشة الثراء، و"الماركات" غير المتاحة لطبقة الشعب الكادحة والتي لا تمثل الناس وبعيدة عن همومهم ومشاكلهم، والأخطر أنها تحول دون معرفتهم مصادر القمع هذه. وتغربهم عن بعضهم البعض من خلال الفروقات الطبقية التي تعززها، وعن أنفسهم من خلال حجب إدراكهم لواقعهم ومسببه.

هذه الأغاني انفصلت عن تراث الغناء العربي واستبدلته بأساليب غربية لتصنيع ونشر الأعمال الموسيقية. وقد مُولت ودعمت هذه الثقافة الفنية أولا من خلال أموال النفط والغاز والقوى الرجعية في العالم العربي. وتمثل في مضمونها أسلوب حياة النخبة والطبقة البرجوازية الموالية لقوى الاستعمار الغربي والإمبريالي.

= = = =

(1) Natalie Abou Shakra، "Identity Politics and Resistance: The Case of Mohammad Mounir". BRISMES Annual Conference، 2012.

http://brismes2012.files.wordpress.com/2012/02/natalie-abou-shakra-identity-politics-and-resistance.pdf

أغنية "علّي صوتك بالغنا" لمحمد منير، من فيلم "المصير" (إخراج يوسف شاهين)

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A نتالي أبو شقرا     C 0 تعليقات