عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

محمد ماكني - الجزائر

أثر التخفيف في التوازن اللغوي


خضعت اللغة العربية كغيرها من اللّغات لسنّة التطوّر، ولكنّها حافظت على سمات تميزت بها عمّا سواها، ومن جملة خصائصها امتلاكها لأوسع مدرج صوتي، وامتداد مخارج أصواتها من أقصى الحلق إلى الشّفتين. هذه الأصوات هي الوحدات التي تسهم في التشكيل البنائي للصيغ الذاتية أو الوصفية أو الحدثية، تتباين نطقا أو صياغة، تركيبا أو تشكيلا.

وللفظ الذات معان كثيرة لا تحدّد إلاّ في السياق الذي ترد فيه، متميّزا عن المباني الإفرادية الحدثية بصفات أكسبته التخفيف والتمكن من باب الاسمية، وبصفات عرضية كالجر والنداء والتعريف والإسناد، وأخرى منها التنوين؛ وخفة الاسم وثقل الصفة؛ وخفة المثنى وثقل الجمع؛ والنكرة أخف من المعرفة؛ وثقل الصفة الحدثية.

التنوين

التنوين ظاهرة صوتية تميّزت بها العربية عن غيرها من اللّغات، وهي تقتضي أن يلحق بالكلمة ضمّتان أو فتحتان أو كسرتان، الحركة الأولى أصلية والثّانية زائدة وهي "نون ساكنة تلحق الآخر لفظا لا خطا ووصلا لا وقفا"[1]، مع "إحداث صوت النون الساكنة الزّائدة في آخر الاسم، وقد وصفت بالزّيادة، لأنه ليس في بنية الكلمة التي اتصل بها، بدليل حذفه في بعض المواضع أو الحالات كالوقف، أو دخول لام التعريف على الاسم المنون"[2].

ويرى سيبويه أنّه "حادث بفعل المتكلم طلبا للخفة، ومن عادة العرب في كلامهم أنّهم ينتقلون من الثقيل إلى الخفيف"[3]، وأيضا "التنوين بالنظر لكميته الصوتية هو قطع للصوت وبه غنّة ورنين، وهو ضد المد"[4]. كما أنّه قد يفرّق به بين الاسم والفعل، فالفعل لا يلحقه التنوين والاسم قد يلحقه التنوين إلاّ ما كان دالا على العلمية والعجمة أو الوصفية.

خفّة الاسم وثقل الصفة

الصفة ثقلت على الاسم "بالاشتقاق [فهي مشتقة من معنى في الموصوف] والحاجة إلى الموصوف، وتحمّل الضمير، ومناسبة الفعل في العمل"[5]. وخصّ الاسم بالحركة لخفّته، وأنَّ الفعل على رأي البصريين مشتق من المصدر التي هي أسماء، والمشتق فرع من المشتق منه، لهذا فالفعل فرع على الاسم.

خفة المثنى وثقل الجمع

أصل التثنية العطف بين شيئين حال المفرد كقولنا "ثنّيت العود إذا عطفته"[6]، وفي التثنية إطالة وتكرار للتركيب الإسنادي نحو قولنا: "قام الزيدان وذهب العُمَران. فأصلهما: قام زيد وزيد، وذهب عمرو وعمرو. فحذفوا أحدهما وجاءوا بعلامة التثنية وألحقوها للآخر عوضاً عن الأول للإيجاز والاختصار"[7].

ويرتبط ثقل الحركات وخفتها بعامل آخر على ما رواه السيوطي عن الخليل في ردّه عن رجل سأله عن الفرق بين الحركات، قال رجل للخليل: "لا أجد بين الحركات فرقاً، فقال له الخليل: ما أقلّ ما يميز أفعاله، أخبرني بأخف الأفعال عليك، فقال: لا أدري، قال أخف الأفعال عليك السمع لأنّك لا تحتاج فيه إلى استعمال جارحة إنما تسمعه من الصوت وأنت تتكلّف في إخراج الضمة إلى تحريك الشفتين مع إخراج الصوت، وفي تحريك الفتحة إلى تحريك وسط الفم مع إخراج الصوت، فما عمـل فيه عضـوان أثقل ممّا عمــل فيه عضو واحد فالضمة تحتـاج إلى تحريك الشفتين وضمهما وتدويرهما ومطّهما، أمّا الفتحة فتحتاج إلى تحريك وسط الفم من إطلاق النفس حرًا"[8].

ومن هذا فالخليل يربط الثقل والخفة بالسمع والتذوّق وبعَمِل أعضاء النطق وعددها.

إنّ ما يتميّز به النظام اللغوي عدم مراعاة "خفة الحركات أو ثقلها في نفسها فقط، وإنما يراعي أشياء أخرى مثل: الثقل المعنوي، نتيجة لثقل المثنى والجمع السالم عن المفرد – أن المفرد يُعرب بالحركات، وهو إعراب أصلي، والمثنى والجمع يعربان إعرابا فرعيّا، والإعراب الأصلي أخف من الإعراب الفرعي، وهو المفرد، والمفرد أكثر من الجمع، فالخفة ناسبت الكثرة، والثقل ناسب القلة، ووجدنا أنّ نون التثنية تختص بالكسر، لخفّة المثنى عن الجمع، فكان من نصيبه الكسر الثقيل، واختصّت نون الجمع بالفتح لثقل الجمع، فأعطي الأخف للأثقل، وأعطيت التثنية- لخفتها – الكسر ليتعادلا خفة وثقلا"[9].

وتمثيلا لذلك حال نصب جمع المذكر السالم:

[مسلمي]نِ = مسلمَيْنِ (مثنى خفيف + ثقل الكسرة) يعادل[مسلمي]نَ= مسْلِمِينَ (ثقل الجمع +خفة الفتحة).

= فالتثنية أكثر من الجمع خُصّت بالفتحة، لأنّ الفتحة أخف من الكسرة فسايرت الكثير من الكلام.

= المثنى وضع قبل الجمع وفيه الألف فقد كسرت النون لهذا الالتقاء، وبما أنّ الجمع وضع ثانيا فكان لابدّ من مخالفة المثنى، وله الحق في الفتحة، تلك الحركة الخفيفة التي تناسب الجمع.

= إنّ نون التثنية كسرت على أصل التخلص من التقاء الساكنين، فلم يجمع بين كسرتها وكسرة ما قبل الياء فرارا من ثقل كسرتين بينهما ياء، ثمّ عكسوا ذلك في الجمع ليحصل الفرق بينهما، وليعتدل اللفظ لوجود ياء بين فتحة وكسرة في كلّ منهما"[10].

كما أن الألفاظ المفردة عند تشكّلها من أصوات متقاربة المخارج تثقل نطقا على اللّسان، كقول الشاعر:

وقَبرُ حَربٍ بمكانٍ قَفرٍ = = = ولَيسَ قُربَ قَبرِ حَربٍ قَبرُ

و"تخفّ حال إدخال أصوات المدّ فيها، فتصير جموعا"[11]:

وقبور حروب بأماكن مقفرة = = = وليس قرب قبور حروب قبور

النّكرة أخفّ من المعرفة

النكرة أو التنكير تقابل التعريف وفي تعريفها "أنها كل اسم شائع في جنسه لا يخص به واحد بعينه دون آخر كقولك: "رجل وفرس وثوب وغلام"[12]، وما أشبه ذلك، أما حدّ المعرفة فقد جاء في اللسان: "ﻋﺮﱠﻓﻪ اﻷﻣﺮَ أﻋﻠﻤﻪ إﻳﺎﻩ، وﻋﺮﱠﻓﻪ ﺑﻴﺘﻪ أﻋﻠﻤﻪ ﺑﻤﻜﺎﻧﻪ، وﻋﺮﱠﻓﻪ ﺑﻪ وَﺳﻤﻪ، وﻋﺮﱠﻓﺘﻪ ﺑﺰﻳﺪٍ أي ﺳﻤﻴﺘﻪ ﺑﺰﻳﺪٍ، واﻟﻌﺮْفُ ﺿﺪﱡ اﻟﻨﻜﺮِ"[13] وهما صفتان ذاتيتان خاصّتان بالاسم دون الفعل، وأقسام المعرفة محدودة في سبعه هي: "الضمائر، وأسماء العلم، أسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، والمحلى بالألف واللاّم، والمضاف إلى المعرفة، والمنادى"[14].

وعليه فالمعارف أقل من النكرات لأنّ لفظة رجل يمكن أن تطلق على كل أفراد الجنس بخلاف زيد أو عمرو وغيرهما من الأسماء لذلك كانت النكرة أخف من المعرفة، وهي "أشدّ تمّكنا؛ [الأشياء إنَّما تكون نكرةً ثم تعرَّف] لأنّ النكرة أوّل، ثمّ يدخل عليها ما تعرّف به فمن ثمّ أكثر الكلام ينصرف في النكرة"[15]. وهي أعمّ وكثيرة الاستعمال والشّيوع وأصل المعرفة، لأنها لا تحتاج في دلالتها إلى قرينة.

ثقل الصيغة الحدثية

الفعل صيغة إفرادية ذات دلالة على الحدث الموصول بالزّمن وتركيبها الصّوتي ثنائي مضعّف، أو ثلاثي ولها مادّتها ووزنها وشكلها، فالمادة "هي مجموع الصوامت العامة في نشأتها من الثلاثي الأصلي إلى السّداسي المزيد، ثمّ كلّ ما زاد عنها بالإسناد التصريفي، أما الوزن فيقصد به صائت الوسط من الصيغة الحدثية، وأخيرا الشكل وهو المكون الصّوتي الثّالث من مكونات الصيغة الحدثية الذي يميّز دلالة الصّيغ المتّفقة في المادة"[16].

من مكوناتها المجرد والمزيد، وقسّمه اللغويون حسب الحال إلى ماض وحاضر ومستقبل وهو "أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء وبنيت لما مضى ولما يكون ولم يقع وما هو كائن لم ينقطع‏.‏ فأما بناء ما مضى فذهب وسمع ومكث وحمد‏.‏ وأما بناء ما لم يقع فإنه قولك آمراً‏:‏ اذهب واقتل واضرب ومخبراً‏:‏ يقتل ويضرب‏.‏ وكذلك بناء ما لم ينقطع وهو كائن إذا أخبرت"[17]. كصيغتي الماضي أو المضارع المبنيان للمجهول.

الفعل بمنزلة المركب يفتقر إلى الاسم ولوازمه تكون الفاعل أو المفعول، وأن الفعل لا يفيد إلا بالاسم بينما الاسم قد يستغنى عن الفعل، ويفيد مع جنسه في التركيب الإسنادي الاسمي، ومدلولاته الحدث والزمان، وأنَّ الاسم أكثر استعمالاً من الفعل والشيء، إذا كثر استعماله خفَّ على اللسان، كما أن الاسم يلحقه التنوين و"هو دلالة على خفة الاسم بكونه معربا منصرفا وتمكّنه في باب الاسمية [الاسم المنصرف نحو: رجل، مدرسة]، لكونه لم يشبه الحرف فبني، ولم يشبه الفعل فيمنع من الصّرف، إذ أنّ الفعل لا ينوّن لثقله بخلاف الاسم ولهذا يطلق على هذا النوع من التنوين بتنوين التمكين "[18] وغير المتمكن كأسماء الإشارة والموصولة والضمائر.

الموازنة بين عناصر التركيب

وبالنظر إلى عناصر التركيب الإسنادي نحد أنّ الفعل يلحقه الجزم والسكون تخفيفا لثقله، بينما يلحق الاسم الكسر، ولثقل الفعل وجزمه، مع خفّة الاسم وكسره [قوّة الكسرة] حدث تناسبا وتعديلا في التركيب.

كما يعتدل التركيب حال إسناد الأفعال الناقصة أو الأسماء المشبّهة بالفعل لأنّ هذه الأدوات تتّصل بالضّمائر نحو: كأنّه، ولأنّك، وإنّه وإنّك، وتعمل في الجملة الاسمية من نصب للاسم ورفع للخبر حال التشديد، وإهمالا عند التخفيف، كما يفعل الفعل في رفع الفاعل ونصب المفعول به. هذا التخفيف يترتّب عنه مخالفة الإعراب [19]، وفي التركيب الإسنادي نجد أنّ المبتدأ والخبر يكونان مرفوعين إظهارا فتظلّ حركة الإعراب ظاهرة أو العدول إلى الإعراب التقديري هروبا من الثقل، نحو: جاء الفتى، ورأيت الفتى، ومررت بالفتى، وجاء غلامي.

إذا شدّدت النون المتحرّكة في (إنّ) أو ما يماثلها من الأدوات عملا، فإن اسمها يأتي منصوبا وخبرها مرفوعا نحو: إنّ اللهَ قادرٌ.

التعليل الصّوتي لتحوّل الحركة الإعرابية للفظ الجلالة (الله) وهو المبتدأ، من الضمّ إلى الفتح، هو أن هذه الحروف شبيهة بالفعل ولها "ثقل معنوي، والحرف الأخير منها مثقل مشدّد، يقتضي تخفيف ما بعده بالفتح لذلك جاء لفظ الجلالة منصوبا. أمّا خبر كان أو أخواتها، فإنّ التركيب قد طال في الجملة حينما دخلت عليه "كان" فقد أضيف إلى التركيب عنصر فعليّ، وهو ثقيل فحقّ لخبرها أن ينصب، وليس بعيدا عن الذّهن ما يقوله النّحاة أنّ الخبر إنّما هو مفعول به في جملة "كان" أي أنّه فضلة أو في حكم الفضلة ولهذا استحقّ النّصب لاستطالة التركيب، فأخوات "كان" ليست مشدّدة وقد احتوت على ثقل معنوي يتطلّب تأخير الفتحة إلى العنصر الاسمي الثّاني للجملة "[20].

= = = = =

الهوامش

1= ابن هشام الأنصاري، أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة المصرية، ج1، ص14.

2= حسن عباس، النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة، دار المعارف، مصر، ط3، ج 1، ص22.

3= سيبويه، الكتاب، تحقيق عبدا لسلام هارون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1395هــ/ 1975م. ج3، ص507.

4= سميرة رفّاس، الملامح الدلالية للتشكيلات الصوتية في المباني الإفرادية من ديوان الربيع بوشامة، رسالة مقدمة لنيل شهادة الماجستير، كلية الآداب واللّغات والفنون، جامعة وهران السانية، الجزائر، 2002/2003م، ص45.

5= السيوطي، الأشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ج4، ص81.

6= أبو البقاء العكبري، اللباب في علل الإعراب، دار الفكر، دمشق سوريا، ط1، ج2، ص49.

7= علي سليمان بن أسعد بن إبراهيم حيدرة اليمني، كشف المشكل في النحو، باب التثنية، ص45.

8= السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، شرحه وضبطه وصححه: محمد أحمد جاد المولى وآخرون، دار الجيل، بيروت،، ج1، ص346.

9= احمد عفيفي، ظاهرة التخفيف في النحو العربي، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط1، 1417هـ/1996م، ص238.

10= المرجع نفسه، ص239.

11= سميرة رفاس، نظرية الأصالة والتفريع الصوتية في الأثار العربية، رسالة دكتوراه، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة الجيلالي اليابس، سيدي بلعباس، الجزائر، 2007/2008م، ص233.

12= ابن الناظم، شرح الألفية لابن مالك، تصحيح وتنقيح محمد سليم اللبابيدي، مطبعة القّديس جارجيويس، بيروت، 1312هـ. ص30.

13= ابن منظور، لسان العرب، باب العين، مادة (عرف)، المجلد، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد احمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، مصر، ط1، ص 2898.

14= ابن الناظم، شرح الالفية لابن مالك، ص30.

15= سيبويه، الكتاب، ج1، ص20.

16= مكي درار، المجمل في المباحث الصوتية من الأثار العربية، دار الأديب للنشر والتوزيع، 2004، ص118.

17= سيبويه، الكتاب، ج1، ص12.

18= السيوطي، الاشباه والنظائر في النحو، تحقيق عبد العال سالم مكرم، مؤسسة الرسالة، ج1، ص 322.

19= مخالفة الاعراب مذهب البصريين، لأنّهم احتجوا على أنّ (أنْ) المخففة تعمل النصب في الاسم، أمّا الكوفيون فذهبوا إلى(أنّ) و(إنّ) لا تخفّف البتة، وتعمل النصب في الاسم، وإنّما (إنْ) هي حرف ثنائي الوضع غير مخفف، وهي نافية مهملة لا توكيد فيها. ينظر: أبو البركات الانباري، الإنصاف في مسائل الخلاف، تحقيق جودة مبروك محمد مبروك، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط1، 2002م، ص164.

20= أحمد عفيفي، ظاهرة التخفيف في النحو العربي، ص244.

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A محمد ماكني     C 1 تعليقات