عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نورة عبد المهدي صلاح - فلسطين

كعب عال


نورة عبد المهدي صلاححيرة لفت الكلمات وازدحام ملأ السطور. من أين أبدا بلملمة خيوط قصة راقصة ولاعبة جيدة وأنثى متمردة ألبسها العمر ثياب النساء، وقلبها معلق بحياة الطفولة والنقاء؟

من لعبة الطفولة " الحجلة" تبدأ حكايتي، نجتمع أنا وبنات الجيران ونرسم خمسة مربعات ونتممها بدائرة كبيرة، نرمي حجرا أملس لينساب بخفة على الأرضية الخشنة، نقفز من مربع لآخر. نجاحنا أو فشلنا حدود الرسم وقياس المسافة قبل أن نزيح الحجر ليسبقنا للمربع الأخير، لعبة تدربنا عليها؛ أتقناها فاستطعنا أن نتقن الحياة وفن القفز عن همومنا مرة تلو مرة دون أن نتعثر.

ترخي العتمة ثوبها على أزقة الحارة، يجتمع الجيران رجالا ونساء على أصوات ضحكاتنا للتسلية؛ فلا تلفاز ولا أجهزة محمولة يمكن أن تبعدهم عن السهر أمام المنزل والحديث عن همومهم وآمالهم وطموحاتهم، أكواب الشاي وفناجين القهوة وبعض العنب والزبيب ضيافة المجتمعيين. ننام بأحضان أمهاتنا؛ نُحمل إلى الأسرّة ونمثل النوم حتى نمارس طفولتنا حتى الرمق الأخير.

في عتمه الأزقة تعلمنا الحب وتكررت صوره بألعابنا؛ أذكر لعبتي التي صنعتها لي والدتي من قميص قديم لم يعد صالحا للترقيع. قصته جيدا وصنعت منه لعبة، شعرها من الصوف المكرور، عيناها من أزرار القميص، أنفها وفمها وفستانها من بقايا الأقمشة، كانت أجمل لعبة أحصل عليها، كنت أما لها أمارس دوري وأبحث عن الحب الذي كانت جدتي تحدثني عنه قائلة جملتها الشهيرة: "لن تصبحي أما ما لم تعرفي الحب".

أبرع من يرسم خطوط الحجلة صبي يكبرنا بالعمر سنوات، لم يؤذينا أو يحتل مساحة لعبتنا. كان يطرد الأولاد المشاكسين ليبتعدوا عنا، يجلس مساء أمام بيته يشاهدنا ونحن نلعب ويفصل بيننا إن غشت إحداهن باللعب.

يوما قال لي: "حتى تصبحين أنثى كاملة لا تنتهي عن لعب الحجلة، وإلى ذلك الوقت سأنتظر أن أراك وقد نضج العسل الذي تجنيه من كل مربع في الحياة، عندما تصلين للدائرة الكبيرة سألقاك".

في ذلك الحين لم أفهم ما قاله، بعد أيام ذهبت أمي لبيتهم تودعه وترجو الله أن يحفظه في سفره. هكذا هن نساء الحارة يذهبن لتوديع المسافر واستقبال العائد. تابعنا لعبتنا وهو سافر ليكمل دراسته في الخارج.

في ذلك الوقت كنت ابنة اثني عشر عاما. سافر وفي عروقه دماء نقية وحمية لاستقبال الحياة، كنت طفلة والبراءة رفيقة خطواتي، يوم سفره وعدته أني لن أتوقف عن اللعب ولن أبكي إن غشت الفتيات في اللعب.

لعبة الحجلةحلمت بتعليم "الحجلة" (1) لكل من أعرف، ضاعت هذه الفرصة فقد هُجرت اللعبة وساحة السمر بسبب التلفاز ومسلسلاته وألعاب الأتاري التي جمعت الكبار والصغار أمامه شاشة صماء، لا تستمع لهمومهم أو تترك لهم مجالا للحديث.

كبرت بنات الجيران فجأة وتضخمن من كثرة الأكل وقلة الحركة، أصبحن نساء يُطلبن للزواج، إحداهن تزوجت وعادت بعد عام تلبس كعبا عاليا تحمل بين يديها طفل يبكي طوال الوقت، هي أيضا كانت تبكي، بينما كنت ألعب الحجلة وحدي بلا رفاق ومربعاتها تسألني عمن غابوا بإرادتهم أو غيبوا أنفسهم ليعيشوا حياة تسبقهم بسنوات، فلا عاشوا ما يجب أن يعاش ولا تركوا لأنفسهم حرية التمتع بما يعيشون الآن.

في كل مرة تمر سيدات الحارة وهن يلبسن كعوبهن العالية تأخذنني أصوات طقطقة أرجلهن ورشاقتهن في القفز بعيدا عن حفر الماء والطين كأنهن فراشات في حقل جميل. خلسة أخذت حذاء والدتي ومارست دور الكبار. كانت المرة الأولى. مشيت خطوة والثانية ولم أكمل الثالثة حتى سقطت والتوى كاحلي فطلقته لإشعار آخر.

عندما كبرت لم أشتر لنفسي كعبا عاليا فهوايات الطفولة تراجعت كثيرا مع هموم الواقع من جهة، ورداءة الأحذية المستوردة من جهة أخرى حرمني من التمتع بسنتيمترات قليلة لأرتفع مثل نساء الحارة.

عمر يمضي يكتب تاريخي خارج دفاتر الزمن، أجاهد لأصل لما أريد، أملك أحلاما عادية، مخدة نوم هادئة بلا ضجيج، سريرا نقيا بلا أغطية حزن، غرفة دافئة بلا غبار تثير الحساسية، أرجوحة ومساحة للرقص واللعب. هادئة أنا يسكن ملامحي بحر وبعروقي موج يحمل فيضان الروح، عمق لا يهدأ وصراع بين الإحساس وواقع سطر ملامحه على جسدي.

* * *

أن تغيب عن وطنك عشرين عاما وتعود تبحث فيه عن شيء من ماضيك ولا تجد ستشعر بغربتك الحقيقة؛ فكل أيامك خارج الوطن لن تساوي هذه اللحظة.

شاب بعمر السابعة والثلاثين يغزو شعره شيب لطيف، يتأمل بيوت حارته العالية ويبحث عن صفائح الصاج التي كانت لوحا يكتبون عليه أسماء الفائزين بألعابهم الشقية، ينصت لأصوات قديمة كانت تضج بالمكان في ليالي السمر، يبحث عن فتاه تلعب الحجلة تقفز بين شقي قلبه وتداويه من حمى تصيبه في غربته ليتصبب شوقا وحنينا يعود باحثا عنها بعد أن أصبحت امرأة بعمر الخامسة والعشرين.

جلس أمام البيت منتظرا أن يلمح حلمه في وضح النهار، بينما كنت مسرعة كالعادة أوقفني مبتسما وقال: "حتى تصبحين أنثى كاملة لا تكفي عن لعب الحجلة، وإلى ذلك الوقت سأنتظر أن أراك—عندما تصلين للدائرة الكبيرة سألقاك".

سرت قشعريرة في جسدي. رشح مني مسك شممت رائحته، طفولتي ذكرياتي وكثيرا من الكلام وقف في حنجرتي. أخيرا عدت للأرض بعد أن صافحني. لم أنتبه أننا وقفنا ساعة نتحدث عن عشرين عاما من الغربة والذكريات والحياة.

ألقاه صباح كل يوم. نسير معا حتى يحن علينا سائق يحملنا لوسط المدينة، يحدثني باليوم الواحد عن سنة كاملة في غربته كيف كان يقضيها، وقبل أن نفترق نغني ما حفظناه من أغاني زمن جميل نبحث عنه في كل شارع نمر فيه:

"خدني معك على درب بعيد = = مطرح ما كنا ولاد صغار".

نفترق غناء ونعود باليوم التالي ليجمعنا الغناء والذكرى القديمة.

ذات صباح خرجت ألبس كعبا عاليا بناء على طلبه، تعثرت كثيرا إلا أني نجحت باستعادة توازني عندما أمسكت به، ضحكه المثير وما قاله لي قبل أن نفترق جعلني في حالة انتظار دائم:

"ما زلت طفلة كما رأيتك أول مرة. لا أقاوم اشتهاء معانقتك. أنت طفلة لا تعرف من النساء إلا اسمهن، سأسرق منك قبلة. أريدك مستعدة؛ ربما اليوم، ربما غدا، ربما في سماء تحملنا وتطوي ذنبنا بمغفرة في يوم شديد المطر".

كانت قبلته الأولى قصيرة وجميلة وأكثر عنفواننا، بينما عانيت من ألم أسفل ظهري من كعبي العالي. أنستني قبلته وجعي. ومع الوقت صار المطر وقبلته مطلبي.

في صباح أول نيسان ترك لي رسالته المقتضبة معتذرا فيها عن سفره المفاجئ لي. كانت رسالة يتيمة حبست كلماتها بسطرين لا ثالث لهما:

"جنسية ومسكن وعمل دائم. زوجة وطفلان قلبي معلق فيهما. قدر لا يمكن أن أغيره أو أتخلى عنه".

بانكسار تلقيت الصفعة محاولة إقناع نفسي بأنها كذبة الأول من نيسان. مضى نيسان وسطعت شمس الحقيقة بعد أن أصبح الغياب حاضرا لا يحمل أملا بعودته، كنت أتألم من لذة القبلة الأولى والكعب العالي، ومع الوقت ما عدت أميز بين ألم الكعب وألم الشوق فقد أصبح الأمران سيان عندي.

في اليوم الذي تخليت فيه عن كعبي العالي مرتدية حذاء رياضيا لأسير مسافة طويلة نتيجة إضراب في المواصلات العامة، قابلت شابا ألقى علي السلام بحرارة عالية. من الوحمة التي بجينة تذكرته، فقد كان أشقى صبية الحارة وأكثرهم مشاكسة، لم أره منذ أن غادر الحارة بعد أن انتقل والده للعمل في مدينة أخرى، أخبرني أنه يعمل أستاذا في الجامعة. تحدثنا حتى وصلنا لنهاية الشارع. ودعته على أمل أن ألقاه مرة أخرى.

مع الوقت أصبحت مواعدينا متشابهة. نقف ننتظر الحافلة. نتحدث عن الحياة وقسوتها، كنت أحترم قصر قامته فأنا بالأصل لا أملك طولا شاهقا. لأحاديثنا رائحة أعادتنا لأشياء قديمة وتذكرنا كعك اليانسون والباعة المتجولين وحلم كل فتاة وصبي بربح البالون الكبير في لعبة اليانصيب.

تحدثنا عن كل شيء ذي نكهة لا يمكن أن يتذوقها من كان بعيدا عن تلك الأجواء. أمضينا عامين ونصف نسير ذات الطريق، نرمي بهمومنا على أسفلت الشوارع ونتمنى أن تلحقنا أزمة المواصلات حتى لا ننهي أحاديثنا الحالمة. كل ما حولنا كان يقربنا إلا الجامعة التي قررت مؤخرا أن ترسله بعثه للخارج من أجل الحصول على الدكتوراه.

نزل الخبر على مسامعي كالصاعقة، كنا قريبين جدا لنبدأ حياة جميلة، ومع ذلك سرت قشعريرة بجسدي ورشح الدمع من عيني فرحا وألما، يومها ودعني بقبله متوسطة الطول، كتب لي رسالة على ورق الورد بأن أياما جميلة تنتظرني بعد عودته. مرت سنوات وأنا أداري الورد في الظل حتى لا يذبل.

صحوت على كابوس رسالة مكتوبة على ورق أصفر، فقد تزوج شجرة امتدادها من الأرض حتى معانقة النجوم في السماء، فتحسين النسل واجب شرعي.

يومها لم أخرج للعمل ولم أرتد أي حذاء ولم أستطع لعب الحجلة. بعد أيام قررت العودة للعمل. لبست بسرعة ووقفت طويلا أمام أحذيتي: هل اختار حذاء رياضيا أم كعبا عاليا أم أمشي حافية؟

جربت كل أنواع الألم حتى لوى الخذلان عاطفتي وقلبي وإحساسي. أخيرا قررت أن أقفز بين المربعات وأنسى أني وصلت للدائرة الأخيرة أنتظر من لا يستحق الانتظار.

لبست كعبا عاليا وبدأت ألعب الحجلة، وفي كل مربع كتبت: للقبلة الأولى لذة وللكعب الأول وجع خاص؛ للقبلة الثانية لذة وكعب أقل وجعا؛ للقبلة الأخيرة لذة نفقد بسببها كل الوجع.

أيتها النساء: من لم تلعب الحجلة لن تستطيع أن تلبس كعبا عاليا ولن تعرف لذة المشي حافية على أرض ساخنة. العبن ففي اللعب حياة.

= = = = =

(1) الحَجْلة: لعبة للصّبية أو الفتيات. ترسم مربعات على الأرض. ويدفع حجر من مربع إلى آخر بقدم، أثناء رفع الأخرى (حجلا). اللعبة معروفة في فلسطين وسورية والأردن.

(2) لعبة إلكترونية ظهرت في 1972 وهي إحدى ألعاب الفيديو في ذلك الوقت (بالإنجليزية: Atari).

(3) وحمة: علامة على الجسد قد تبدو شبيهة بشيء توحمت عليه (اشتهته) المرأة الحامل.

D 25 أيلول (سبتمبر) 2014     A نورة صلاح     C 7 تعليقات

6 مشاركة منتدى

  • نورة عبد المهدي / فلسطين
    في كتاباتك حنين يعانق حنان .
    لوعة تعانق توق وامل يعانق الياس
    وبين كل عناق وآخر مساحة شاسعة للعب الحجلة أو الختيّلة ( الغميضة) ويبدأ العد 321... الخ علّ بعد أنتهائنا من العد والوصول الى الرقم 10 نجد ما أغمضنا أعييننا املا برؤياه او الحصول عليه.
    صغار كبار تلعب الغميضة ولو على سبيل التغيير ولو على سبيل الحلم.
    دام بوحك
    هدى الكناني


  • عزيزتى نورة...فى قصتك إحساس الطفلة التى تحلم أن تصبح شابة والشابة التى كبرت ومازالت داخلها طفلة وما بين الطفولة والشباب حكاية وطن وأبناء فى الغربة بصفة مؤقتة أو صفة دائمة وهى تبحث بينهم عمن يشاركها رحلة العمر ..دُمتِ ودام نبض قلمك ...تحياتى وتقديرى


  • العزيزة نورة
    من بين كل الحكايات
    تبقى حكايات الحب هي الأحلى والأقسى
    تقبع في الذاكرة عصية على النسيان

    أشكرك على النص الجميل أيتها الجميلة
    كل عام وأنت بخير


  • مرة أخرى تتحفينا بالبوح الجميل واللغة الدافقة كينبوع صاف من أعماق الأرض، فنَحِن إلى شربة من معينه، ونشتاق إلى مراتع طفولةِ زمنٍ جميل، حيث "لا تلفاز ولا أجهزة محمولة" تبعدنا عن همومنا وطموحاتنا المشتركة، و"نمارس طفولتنا حتى الرمق الأخير"، وتظل أحلامنا عادية جدا، فقط، نحلم أن ننام على "مخدة نوم هادئة بلا ضجيج"، وأن يكون لنا سرير "بلا أغطية حزن"، وأن يسكن بعروقنا "بحر موج يحمل فيضان الروح"، وأكثر من هذا وذاك، أن نظل بين أحضان أوطاننا، حتى لا نقع في حرقة الغربة التي قد تنتابنا إذا ما عدنا إليه بعد عشرين عاما أو أكثر، ولا نجد فيه شيئا من ماضينا، ساعتها ستكون أيامنا "خارج الوطن"، كما قلت، لا تساوي لحظة الإحساس بمرارة الغربة... لكننا يا أخت أصبحنا نعاني ما هو أمَرُّ من الغربة، إنه الاغتراب في أوطاننا التي استوطنها قراصنة الأحلام، وخفافيش الظلام... وتلك مأساة أخرى...


  • هل أقف أجلالا،وأحني لك القبعة يا سيدتي،أم أحفر دموعي في ثنايا هذا النص الجميل، لم نتحرر من الذكرى فالنسيان جريمة أحيانا ..والتحرر من ذاكرتنا قد يكون عبودية من نوع آخر،ليس لدي ما أقوله سوى أنك تخطفين عوالمنا الداخلية وتكتبين الكلمات بأنين أرواحنا الحالمة،النص بمجمله متماسك وصادق،واللغة قوية ورصينة، نحن الآن أمام كاتبة تشق مسيرتها الأدبية وتتحدى الموت والظلم،نورة عبد المهدي صلاح شكرا لك من القلب/شكرا لك بحجم الكون لأنك ما زلت هنا ..


  • في عتمه الأزقة تعلمنا الحب وتكررت صوره بألعابنا
    ابدعت في تصوير ورسم تلك المرحلة من حياتنا التي لن تعود
    قلمك مبدع وسردك رااائع ومميز


    • سرني مرورك الشجي ... تلك الحكاية التي امتزجت بين الخيال والحقيقة بين الجمال والألم جعلت هذه المقالة لها صداها بالروح الذي لا يهدأ على النداء .. بمتابعة المسير بالحياة تماما كنهايتها بأن نظل نلعب الحجلة ..

في العدد نفسه

كلمة العدد 100: عود الند تضيء 100 شمعة

"إمبراطورية النظرة المحدقة"

جدارية جرنيكا لبيكاسو

ثقافة الصورة: من الاستعراض الاجتماعي إلى البكاء الجماعي

ثقافة الصورة: ما لها وما عليها