مرام أمان الله - فلسطين
تحبين أنصاف الأمور
قال لي ذات يوم: "تحبين أنصاف الأمور". ربما كان محقاً، فأنا أكره النهايات. لكنّه حتماً مخطئ أيضاً؛ فأنا أعشق الحدود.
ربما انصياعي الضمني لفكرةِ حتميةِ النهايات كان مبالغاً فيه، أو ربما انتابني شعورٌ تراكميّ بالخذلان من ممارسات الزمن التي تعبثُ -بكلّ فضولٍ- في ترتيب الفصول في أعمارنا. لكنّه قالها مرتعداً وكأنّ هاجسَ الخوفِ من الرحيل قد استوطنَ لحظتها كلَّ مواضع الأمان في نفسه.
وما بين الحدود والنهايات، سكنتْ الذكرياتُ المتأرجحةُ نحو الحياة حيناً، ونحو الرحيلِ الباردِ أحياناً.
لم أسكنْ يوماً في المنطقةِ الرمادية، فكنتُ دائمةَ الاقترابِ من الحدود الحاسمة، على الرغم من هوسي السلبيِّ باقترابِ النهايات. وكان هو أكثرَ التصاقاً بالمناطق الوسطية، وأكثر ابتعاداً عن رسم الحدود؛ ليس خوفاً من مواجهة النهايات، وإنما خوفاً من وضوحِ الحدودِ وارتسامِ الألوانِ النقية.
قد يكون شعورُ الفقدانِ الذي عشتُهُ منذ زمنٍ هو ما تركَ تلكَ الغصةِ المشبعةِ بالمرارةِ الفائحةِ في ذهني، حتى أصبحتُ أكرهُ النهايات، لكنّهُ وفي ذاتِ الوقت قد أفقدني الشعورَ بالحرص على ما قد أخسر عند اقتراب أجله، فأصبحتْ اللامبالاة تترصد لهاجس الخوف ذاك.
صراعٌ يَشفُّ عن عدم نضوج فكرة "القرار" بعد؛ تلك هي العبارة التي أوجزتْ المشهدَ حينها. لكنّه لم يكن قادراً على فهم ذلك في حينه. وقد يكون محقاً مرةً أخرى؛ فنضوج فكرة "القرار" بخوض غمار الجنون هو بحدِّ ذاته جنونٌ وإنْ كان "قراراً"؛ فالعقلُ يدركُ أنه وبسبقِ الإصرار يَنزِعُ إلى كسر الأسوار الشاهقة في لحظة تمردٍّ بكلِّ عقلانية متعمَّدة.
كنتُ أنا الجريئة القافزة على حواجز الصمت، المفعمة بأقوال نزار حين نظم: "إني لا أومن في حبٍّ لا يحمل نزق الثوار، لا يضرب مثل الإعصار، لا يكسر كل الأسوار"، وكان هو المترصد للّحظات الهاربة في بقعة الظلّ، يختلسها بين الفينة والأخرى، أو قد يكتفي بمجرد المراقبة الآمنة من بعيد.
لكنّ صراع الإحداثيات كان دائم الهمس في أذني، دائم الوسوسة بالتقدم نحو الحدود حتى وإن كانت حدوداً لنهايةٍ محسومة، كان ذلك أقربَ إلى التعبير عما يجول في خاطري آنذاك. فأنا لستُ تلك الأنثى المتربعةَ على عرش الانتظار لمراسم الحبّ، فقد كانت اللبؤةُ المتمردةُ في ذهني تقودني نحو انتزاع الشمس من رحم المساء، واجتثاث الألق من غبار اللحظات الخماسينية المشوّشة لصفاء الصيف المسافر. تلك اللبؤة التي لم يستطع هو أن يسمع حتى أنينَها القاسي وقت الغياب، أو يرى دموعَها المختبئةَ وراء ملامحها الثاقبةِ كبرياءً.
وعلى الرغم من محاولاتها المتواصلة للاقتراب من المساحات الموحدة اللون، وعلى الرغم من قناعاته العمياء بتمسكها بأنصاف الأشياء، إلا أنها ظلّت تلهث وراء النأي بدواخلها، لتحط ّ رحالها أخيراً في جزيرةٍ يحيطها الماء الصافي من كل الجهاتِ على مدّ البصر، سماؤها شتاءٌ شمسُه آفلة، متلبّدةٌ بغيوم الغياب، ونجومها دائمةُ الاعتذار عن الحضور.
كانت تلك هي الإحداثيات المكانية التي قد تسهم في تفكيك المشهد، إعادة ترتيب الألوان، والهروب من ضوضاء الصراع. فهناك كل الأشياء واضحة، مكتملة إلى حد الركود. الشتاء هناكَ يبكي جهراً دون أن يخفي دموعه، والشمس كسلى ولا طاقة لها على منح الوهج، والنجوم من شدة صدقها لا تستطيع الحضورَ مُراءاةً أو تكلفاً، فللألم مذاقٌ لا يمكن تجاهله.
كان المشهد عارياً من كل محاولات التجميل، على الرغم من أنّ كلّ الأشياء كانت قد غيّرت من ملامحها، إلا أنها لا تكذب.
لكنّه بقي وحيداً في زحام الأنصاف، مدّعياً أني من يحب أنصاف الأمور؛ على الرغم من أني أنا من استبق النهايات الدراميّة المغلقة قبل حدوثها، حتى رسمتُ نهايةً مختلفةً تليقُ بأنصاف المعاني التي ادّعاها.
◄ مرام أمان الله
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
3 مشاركة منتدى
تحبين أنصاف الأمور, زينب الكليبي - اليمن | 25 أيلول (سبتمبر) 2014 - 14:02 1
جميلة جدا تلك العبارات الراقية و يكفي العنوان - تحبين انصاف الأمور
تحبين أنصاف الأمور, مها | 25 أيلول (سبتمبر) 2014 - 18:46 2
ابدعت في كلماتك التي تهمس صدق الصدق ووضوح اللون والجزم في المواقف شاهدت قصة حقيقة واقعة في ايامنا نعم نحب انصاف الامور لا انصافها
تحبين أنصاف الأمور, أوس حسن | 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2014 - 12:40 3
نص ناضج وعميق ..وفيه ضربات أدبية مميزة،والتساؤلات الفلسفية كانت حاضرة وبقوة في هذا النص الجميل/ تمنياتي لك بالتوفيق والاستمرار/ تحياتي