فاطنة بولغيتي - الجزائر
مظاهر التّفكير الخرافي في المجتمع الجزائري
لكل مجتمع ثقافة شعبية تصنعها أفراده، و تراثا يزخر به يجعل كلّ من ينتمي إليه يفاخر به ويتغنى به، لكن قلّما نجد من يقف ازاءه متبصّرا، ينقّب عن زلّاته وهفواته، هذا بسبب البعد الثّقافي أو الاجتماعي أو النّفسي الذي يخلّفه التّراث في كنه أي إنسان مهما كانت انتماءاته وتوجّهاته.
المجتمع الجزائري واحد من المجتمعات العربية التي تزخر بثقافة شعبية غزيرة ومتنوعة بمركّباتها المختلفة، من تراث شعبي وقيّم وأخلاق وعادات وتقاليد وأنماط سلوكية وإبداعات، ولا نعتقد أنّنا نبالغ إذا قلنا إنّ التّراث الجزائري تراث غنيّ من حيث الكيف والكمّ، فمن حيث هذا الأخير، فهو يملك كمّا هائلا من الأمثال والحكم والأزجال والحكايات، والفنون الشّعبية في مجالات عديدة ومختلفة مثل: الرّقص والغناء واللّباس والطّعام والصّناعات اليدوية وغيرها.
والثقافة الشعبية هي عصارة فكر وتجربة، وحصيلة تاريخ طويل من التّفاعل بين الإنسان وبيئته الجغرافية، بتنوّع تقاسيمها وتراسيمها من المدينة إلى الرّيف، ومن السّاحل إلى الصّحراء، وكلّها موروثات معظمها لا يزال حيّاَ ومتداولا حتّى اليوم، يعملون بعفوية تامّة على ترسيخها وتأصيلها في نفوس الأجيال وعقولهم، وهذا ما يدلّ على أنّ التّراث والتّاريخ قادران على الحفاظ على شخصية وهوية الإنسان العربي رغم متغيّرات العصر. أمّا من حيث الكيف، فيتميز المجتمع الجزائري بما يتميّز به التّراث العربي عموما من أصالة وذوق خاصّ، وحسّ إنساني عالٍ، ومشاعر غزيرة، والتأقلم مع الظّروف والانفتاح على الآخر.
لكن الافتخار بهذا التّراث الزّاخر والمتميّز لا يمنعنا بأي حال من الأحوال أن نقف عند سلبياته، التي يمكن أن نجملها في نقطة سوداء، وهي أنّ هناك نزعة نحو المعتقدات الخرافية، فالخرافة تلعب دورا كبيرا في حياة أفراد المجتمع الجزائري بشكل كبير، ليس فقط باعتبارها جزءا من الموروث الشعبي، وإنّما لتحكّمها وسيطرتها أيضا على نمط تفكيرهم وتعاملهم مع البيئة والظّواهر المحيطة بهم.
ونحن هنا لا نقصد الخرافة كعالم خيالي أو أسطوري الذي تنسجه حكايات وقصص الجدّات في ليالي السّهر والسّمر، وإنّما الخرافة المعطّلة للعقل والعقلية العلمية التي تشمل ممارسات الشّعوذة والدّجل والتّنجيم، وتعاطي السّحر والتّطير والإيمان بالأشباح والاعتقاد في الأموات والأولياء وفي بعض الحيوانات، والتّواصل مع الجنّ وما إلى ذلك من مئات الخرافات التي تسيطر على عقولنا ونؤمن بها، بل وتتحكّم في حياتنا بالرّغم من التّطوّر العلمي ودخول معطيات التكنولوجيا في مفردات التّعامل اليومي للنّاس.
وإنّنا مهما حاولنا أن نشمل استيعاب هذا المخزون الشعبي الخرافي بأكمله، فإننا لا نستطيع ذلك لكثرة تشعّبه وتوسّعه، ولأنّه يصعب الفصل بين العادات والتّقاليد، وبين المعتقدات؛ إذ المعتقد يخصّ الجانب الدّيني والرّوحي والسّلوكي الخاصّ بتفكير النّاس، وبالتّالي يصعب الفصل بين السّلوك العملي وبين ما يفكّر فيه هؤلاء وما يعتقدون به[1].
وعلى أيَّة حال فسنركّز هنا على أهمّ وأبرز المعتقدات الخرافية في الموروث الحياتي لأفراد المجتمع الجزائري، حتّى يمكن الاستخلاص منه طرائق تفكيره، وأصل العقيدة التي يؤمن بها. ولعلّ من أهمّ مظاهر التفكير الخرافي الجديرة بالذّكر الظواهر التالية.
1- زيارة الأولياء والصّالحين:
المجتمع الجزائري متديّن بطبعه. يدين بالإسلام ويعتزّ به ويَغَارُ عليه، وإن كانت شعائره -في الغالب- تقام على النّحو الضيِّق في حدود معرفتهم به، باستثناء من تَلَقَّوا علوم القرآن والحديث من الكتاتيب والزوايا، والجامعات الإسلامية في وقتنا الراهن. وإلى جانب الدّين، نرى شريحة كبيرة من فئات المجتمع يعتقدون في كرامات الأولياء الصّالحين، فيقومون بزيارة أضرحتهم والتّبرّك بها أملًا في أن يكون ذلك خيرا ينالون به بركة هذا الشّيخ، أو ذلك الوليِّ.
كما أنّهم يَنْذِرُون النّذور بأسمائهم، ويذبحون الذّبائح عند قبورهم، اعتقادًا منهم بأنّ ذلك سبب من أسباب قبولها وحلول البركة، الأمر الذي جعل مقامات أضرحة الأولياء الصّالحين، تتمتّع بمكانة مرموقة في الوعي الفردي والجمعي لدى العديد من أفراد المجتمع، عند الرجل والمرأة، المتعلّم والأمّي، المثقّف والجاهل.
وبقدر ما يسود اعتقادهم بأنّ أولياء الله الصّالحين يمكنهم التوسُّط بين الإنسان وربّه، ويساعدون على إيصال الدّعوات والصّلوات وإبلاغ نجواهم العميقة، هم يُوقِنون بأنّهم يتمتّعون بطاقاتٍ خارقة فوق بشرية، قادرة على البطش وإنزال العقاب وفرض الخضوع والرّكون. وإلى هذا الاعتقاد تعود تسميتهم للأولياء الصّالحين بـ"حُرَّاس البِلَاد" أو "رِجَال البِلَاد"، فهم الذين يسهرون، في اعتقادهم، على حمايتها وأمنها وخدمة ساكنيها. فكم من امرأة قُضيت حاجتها ونالت مرادها، بعد أن تراءى لها الوليّ الصّالح وهي بين اليقظة والنّوم في صورة شخص يتمتّع بالبياض في لحيته وعباءته وعمامته! وكم من رجل تراءى له أحد الأولياء في صورة ثعبان رهيب أو وحش مروّع، أو شبَّت النّار في بيته بعد ما تجرَّأ على ذكره بالسّوء في السّر أو العلن!
العديد من الحكايات الغريبة تروي علاقتهم الرّوحية بأوليائهم، وإن كانت عموما لا تُصَدَّق، لأنّها أقرب إلى الخوارق منها إلى ما يمكن أن يصدِّقه العقل، ولهذا تجد معظمهم لا يجرؤ على إبداء الريبة والاستخفاف بأولياء الله، مخافة أن تصيبهم اللّعنة ويلحق بهم غضب وبطش وليّهم أو "حارسهم" كما يعتقدون. فتراهم يطوفون بها مشعلين الشّموع وعيدان الطيب، حاملين البخور، يقبِّلون أركانها وأعتابها، يتمسَّحون بترابها وجدرانها، ويسجدون ويقفون أمامها خاشعين متذللين متضرّعين سائلين مطالبهم وحاجاتهم، من شفاء مريض، أو حصول ولد، أو تيسير حاجة، أو قضاء دين أو تفريج كربة، وأمور شتّى يعتقدونها.
وربما نادوا صاحب القبر: "يَا سِيدِي فلان جِئْنَاكَ مِنْ مَكَان بَعِيدْ فَلَا تُرْجِعْنَا خَائِبِين"، وتجد بعضهم يتّخذ ذكر اسم الشّيخ أو الوليّ، مستغيثًا به، عادةً له وديدنه إن قام وإن قعد وإن عثر، وكلّما وقع في ورطة أو مصيبة أو كربة إلا استغاث به، ذلك أنَّ العامَّة من النّاس يعتقدون أنَّ الوليّ حينما يموت تظلّ روحه تنتقل بكلّ حرّية في كلّ مكان، ولقضاء الحاجة فعلى الطّالب أن يستنجد باسمه ليتمَّ له ما أراد.
كما يعتقد هؤلاء أيضا أنَّ هناك من الأولياء من يقضي جميع الحوائج، في حين هناك من الأولياء من هو موكّل بقضاء حاجة واحدة، فهناك من وُكِّلَتْ له وظيفة الكشف عن الصّادق من الكاذب في حالة ما إذا تحاكما اثنان في قضية ما: كالسّرقة أو الاعتداء، فيتقابل الخصمان أمام الضريح ويحلفون باسمه بإثبات الأمر أو نفيه، ويزعمون أنَّ الجاني ستظهر عواقب حلفه الكاذب قبل أن يعود إلى بيته، كأن يصاب بالعمى أو يُشَلَّ أو يُصَمَّ.
وهناك من الأولياء من قلَّدوه وظيفة فكّ رباط المرأة العاقر أو التي تأخَّر حملها، فعليها بزيارته، وينبغي عليها قبل ذلك أن تشدَّ وسطها بحزام قبل أن تقدم إليه، لأن هذا الحزام هو الذي سيكون علامةً إن كانت ستظفر بالولد أم لا، فإن حُلَّت عقدة الحزام لوحدها أثناء زيارتها للضريح فلتستبشر خير، وإن بقيت معقودة فلا حظَّ لها في الولد.
كما منحوا أولياء آخرين وظيفة نزع أو إخراج الجنّ من الشّخص المتلّبس به، وحتّى يتمَّ شفاؤه عليه أن يقبع بالضّريح على الأقلّ ليلة واحدة، وقبل أن يغادر الضّريح عليه أن يخلِّف شيئا من ملابسه، ويعلِّقه بإحدى الأماكن أو بالأشجار الكائنة بضواحي الضّريح، وهلمَّ جرًّا.
وللوَلَاء والتّقديس الشّديدين المشبعين بالخوف أحيانا، تجد نسبة عالية من النَّاس قد تحنث إن أقسمت بالله عزَّ وجلَّ، لكنَّها لا تحنث أبدا إن هي أقسمت بأوليائه الصّالحين، ضِفْ إلى ذلك أنّهم يُسمُّون أولادهم عليها، ويقيمون لهم ولائم ومواسم خاصّة تعرف باسمهم، ويشدُّون إليها الرّحال نساء ورجالا، كبارا وصغارا، من كلّ صوب وحدب، غير مكترثين لعناء السّفر ولا لبعد المقرِّ، ولا لحرارة الشّمس ولا لهطول المطر.
والحقيقة التي ينبغي تأكّيدها، أنه يستحيل حصر كل الأضرحة التي تمتدّ على طول شريط الإقليم الجزائري، فلا تكاد قرية تخلو من مقام لضريح ولي صالح أو قبَّة كما يسمّونها، فلكلّ قرية ولِيُّها أو أكثر سواء كانت كبيرة أو صغيرة، وتختلف شهرة هؤلاء الأولياء وتتفاوت بقدر الأساطير التي نُسِجت حولهم، وتبعا لذلك ذاع صيت بعضها وتجاوز حدود القرية أو الجهة وأصبح رمزا معروفا في كلّ البلاد، في حين يبقى بعضهم محدود الشّهرة ويدين له أهل القرية بالولاء.
الغريب أنه يبنى المقام أو القبَّة عادة وسط القرية، توارثت الأجيال اليقين بأنه لوليٍّ صالح، لكن في معظم الأحيان لا أحد يعرف شيئا دقيقا ومؤكَّدا عنه، باستثناء بعض الأساطير التي هي أقرب إلى الخوارق منها إلى الحقيقة. كما قد نجد بعض المقامات لا تحوي أي ضريح، ولكنها اُتُّخذت مَعْلَمًا أو رمزا لوليّ صالح له من المكانة في قلوب محبيه والمعتقدين فيه.
وبعد العشرية السّوداء، كما يسمّيها المحلّلون السّياسيون، قلَّ إقبال هؤلاء على زيارة الأولياء الصّالحين، إن لم نقل أنّهم انقطعوا عنها كليةً، لكن هذا الانقطاع كان إجباريا ورغما عنهم، فهم يصرِّحون أنّهم ما كانوا ليقطعوا عهدهم بها لولا ردع الإرهاب الذي قام بحرق العديد من الأضرحة، وبثَّ في نفوسهم الرّعب والخوف، والآن يعملون على إحيائها من جديد وعادوا يشدُّون الرّحال إليها بلهفة وشوق كبيرين بعد أن استقرَّ حال البلاد.
لعلَّ ما يميِّز الأضرحة الذائعة الصّيت، هو التّجمّع الكبير الذي يقام عندها كلّ سنة ويسمى "الوَعْدَة"[2]، وهي وليمة كبيرة تقام عند ضريح الوليّ الصّالح كقربان، ولها مواسم معلومة. ففي يوم معلوم من كلّ سنة كان المنادي أو (البرَّاح)[3] كما يسميه أهل المنطقة يعلِن عنها، خلال جولة تقوده إلى كل قرى المنطقة وأسواقها مشيا على الأقدام لإعلام النّاس بموعد "وَعْدَة سِيدِي فُلَان".
وفي السّنوات الأخيرة أصبح المنظّمون لمثل هذه التّجمعات يستخدمون الوسائل الحديثة، لا سيما وقد أصبحت دعمًا رسميًّا، ورُصِّدت لها ميزانية خاصّة من الأموال وسهّلت لها الطّرق، وحظيت بإعلام واسعٍ، فتوالى الحديث عنها في الإذاعات والتلفزيون وفي الجرائد والإنترنت. ويَفِدُ إلى المكان الآلاف من النّاس من مختلف الأجناس والأعمار لقضاء يوم أو أيّام للتبرّك وللتنفيس، في جوّ المدائح وقرع الطّبول والأهازيج والرّقص المصاحبة لما لذَّ وطاب من أنواع الأطعمة.
كما أنّه يتمّ في بعضها تلاوة القرآن الكريم، والعزم على ختامه ابتداءً من صلاة العصر إلى غاية صباح اليوم الموالي، وهو ما يعرف "بالسَّلْكَة"[4]، ويَعْقُبُ ذلك تلبيس ضريح الوليّ حلَّة جديدة بحضور الأشراف وشيوخ مختلف الطّرق المنتشرة في هذه المناطق، وعموما طقوس هذه "الوَعْدَات" تتشابه وإن اختلف مكانها وزمانها.
وتنتشر هذه الظاهرة في القرى والمدن، حيث يعمل النّاس على إحيائها في مواسم معيّنة ويستمرّون في إقامتها، اعتقادا منهم أنّ عدم إقامتها قد تؤدّي إلى تأخير نزول الغيث أو زوال البركة أو اشتداد المحن، فديمومة هذه الظاهرة ترتبط ارتباطا وثيقا بواقعهم الاجتماعي. وهذا ما جعل الذين يتخلفون عن موكب "الوعدة" أن يكتفوا بإقامتها في بيوتهم، فيقومون بطهي الطّعام الذي يكون في الغالب عبارة عن "كسكس"، وتوزيعه على الجيران والمارّة، على أنَّه طعام "سيدي فلان".
ولـمّـا جاء الاستعمار الغاشم لمس من الشّعب الجزائري مدى تقديسه للأولياء الصّالحين وزيارة أضرحتهم، وكيف أنّه يقدِّم لهم النّذور والقرابين ويستغيث بهم، ويتحاشى ذكرهم بسوء، ويحلف بالله حانث ولا يحنث إن حلف بالأولياء، فاستغل بحسِّه الماكر هذا التّقديس لأولياء الله الصّالحين، وأخذ يشجِّع له ببناء قبب هيكلية جديدة على حدود المزارع التي استولى عليها، كحرز يمنع تهجّمات الثّائرين على محاصيل مزارعه وممتلكاته.
إن مفهوم الوِعْدَة لم يحسم فيه بعد؛ نظرا لغياب الدراسات الأنثروبولوجية الجادّة في هذا المجال، إلَّا أنه لا يستبعد فرضية أن تكون الوعدة حديثة العهد ترتبط بسقوط غرناطة وبأهلها الموريسكيون[5]، الذين طردوا من الأندلس واستقروا بشمال إفريقيا بما في ذلك الجزائر، وباتت ظروفهم الجديدة تحتم عليهم تجديد موعد للتلاقي، وكان ذلك مع نهاية فصل الصيف وبداية فصل الخريف. وعند التقاء الجموع كانت تنصب الخيام وتذبح الذبائح تتخللها القراءات شعرية والموسيقى والرقص الذي اشتهر به المجتمع الأندلسي، خاصة في مجال التوشيح والزجل وغيرها من الفنون.
وعند انتهاء اللقاء الذي كان يدوم لأيام ويأخذ شكل الاحتفال الشعبي، تفترق الوفود ضاربة لنفسها موعدا للعام المقبل في نفس الموسم والمكان، ومن هنا أخذ الاحتفال اسم "الوِعْدَة" وربما كانت في الأصل (الوعد) ثم تأنثت التّسمية مع مرور الزمن تماما، مثلما تغيّرت أمكنة وأزمنة حدوثها مع تغيير أحوال المجتمع الجزائري[6]. ومن ثمَّ اتخذت "الوعدة" طابع القداسة[7]، وأصبح المحافظة عليها من الأهمية بمكان بالنسبة لجميع أفراد القبيلة أو العشيرة، فالاحتفال السنوي الذي يقام على شرف شيخ الزاوية أو صاحب الضريح، كثيرا ما يشكل ظاهرة مقدسة بالنسبة للقبيلة والتي لا يجب تركها بل إقامتها في الوقت المحدَّد مما يؤدي إلى ترسيخها في أفكار البسطاء كواجب مقدس تجاه الولي[8].
عموما إنّ موضوع زيارة الأضرحة وما يصاحبه من طقوس، موضوع شائك ومثير في نفس الوقت، وتدور حوله الكثير من الأساطير التي تحوَّلت إلى موروثات ثقافية، وهذا المعتقد موجود لدى شعوب عديدة وليس عند الجزائريين فقط، ومنتشر بين جميع الفئات ذات القيمة العلمية والاجتماعية؛ لأنّ الخرافات الشّعبية لها سطوة الحقائق العلمية، وهذا هو سبب رسوخها في المجتمعات التي تنشأ فيها.
2- الذبح على عتبة الباب:
هذه عادة أخرى من العادات التي يصعب التّوصل إلى معرفة جذورها، غير أنّه من المتعارف عليه بين النّاس أنّ الذّبح على عتبة المنزل الجديد وقبل دخوله، من أهمّ الأسباب لدفع العين ولجعل البيت مباركا، ولتجنّب المآسي والحوادث غير المستحبّة. ولا تزال هذه الظّاهرة تمارس حتّى اليوم في كثير من المناطق فداءً وقربانا لساكني الأعتاب، من الجنّ والأرواح الشّريرة التي تسكن الأعتاب حسب معتقداتهم. "فالذبيحة تتمّ استرضاءً لهذه الأرواح، واستئذانها للدّخول إلى البيت ومنعها هي من الدّخول إليه، حتّى لا يصبح "مسكونًا." حتّى البدو الرّحل يقومون بهذا الفعل قبل نصب الخيمة، ويستأذنون الجنّ لنصب خيامهم.
العتبة حسب الاعتقاد السّائد في المجتمع الجزائري، طالما كانت هي مسكن الأرواح الشّريرة، فهي المكان الأفضل لممارسة السّحر ورطم الأحجبة أو دفن عظام أو رشّ ماء مسحور، إمّا لإلحاق ضرر أو جلب منفعة لأهل البيت عن طريق السّحر وفنونه، أي أنّ "العتبة هي الفاصل الرّمزي بين الدّاخل والخارج، كما أنّها الممرّ الإجباري للشّخص المراد إيذائه عند الدّخول إلى المنزل والخروج منه"[9].
ففي أوّل ليلة من حلول البيت الجديد وقبل أن ينام أهل البيت، تعمد ربّة البيت أو الجدّة إلى طلاء زوايا البيت بالحنّاء وماء الزّهر، مبتدئةً بالعتبة مبدية بهذا الفعل حسب معتقدها، حسن نواياها تجاه البيت الجديد وعتبته التي ستحلّ خيرها وبركتها عليهم، لأنّ العتبة "تمثّل عمليًّا الحدّ الفاصل بين الخاصّ المتجسّد بالمنزل، حيث الطمأنينة والأمان والراحة والخصوصية الذّاتية للأسرة، وبين العام حيث التّعاطي مع الآخر المختلف، حيث الصراع والكدِّ والخطر"[10].
3- ربط البنات لحماية الشرف:
إن عذرية الفتاة تشكّل أهمية بالغة في المجتمع الجزائري؛ لاسيما في المناطق الصّحراوية والقرى والأرياف، ونظرا لهذه الأهمية تلجأ بعض العائلات للقيام بعادات توارثتها عن الأجداد بحجَّة حماية شرفهم بالدّرجة الأولى، ومن ثمّة شرف بناتهم، لما يكتسبه هذا الشّرط الجوهري للفتاة من أهمية بالغة خلال مرحلة العزوبية، فإن الحفاظ على عذريتها يعدّ من المسلّمات، بل من الواجبات والمهام الأساسية التي تلقى على عاتق الأمّ والجدّة والخالة والعمَّة كذلك[11].
بعض العائلات تلجأ إلى بعض الطّقوس الهادفة إلى تحصين البنات من الاغتصاب، وهو ما يُعرف بـ"الرّبط"، وعموما فإنّ مثل هذه العمليات، تضفي نوعا من الطمأنينة حتّى ولو كانت وهمية لدى الأمّ والخالة والجدّة، كونها تحمي الفتاة من خطر الانزلاق بإرادتها أو بغير إرادتها. وتقرّر بعض النّساء أنَّ عملية الرّبط لها فائدة كبيرة للفتاة، خاصّة في يومنا هذا حيث أصبحت تتغرّب بعيدا عن أعين الأهل، وتسافر بمفردها متعرضة للعديد من مخاطر الاعتداء على شرفها. بل هناك من النّساء من تتأسّف على بعض العائلات التي نسيت هذه الأعراف، وتركت بناتهن من دون رباط تصول وتجول وتغدو وتروح، عرضة للاغتصاب الذي يحوِّل حياة العائلة إلى جحيم، ويجعل حظّ الفتاة في الزواج قليلا، إن لم نَقُل إنّ الكثيرات سيرفضن الزواج خوفا من اكتشاف أمرهنّ.
وهناك من العائلات من أقرَّت أنّها تخلّت عن هذه الممارسات؛ لـمّا علمن أنّها ضرب من السّحر الذي شدَّدت الشّريعة الإسلامية على النّهي عنه، لكنَّ سنوات الجمر التي اكتووا بنارها خلال العشرية السّوداء التي مرّت بها البلاد، خاصّة سكان القرى والأرياف، استدعت منهم أن يعودوا إلى مثل هذه الممارسات حفاظا منهم على بناتهم وشرف أهلهم. في حين نجد أنّ هذه الظّاهرة باتت تتقلّص شيئا فشيئا في التجمّعات الحضرية والمدن، حيث توّفرت عنها بدائل كالإجهاض والاختفاء عن المجتمع في أحياء المدينة الكبيرة، وعمليات التدليس.
وتتمّ عملية الرّبط قبل بلوغ الفتاة، أي قبل أن تشهد أوّل حيضة. أما عن وسائل وطرق الرّبط فهي تتنوّع من طرق سهلة الاستعمال والفكِّ، إلى أخرى معقَّدة لدرجة أن الشّروع في فكِّها مرة أخرى يستلزم تدخّل كهّان أو عرافين حاذقين، الأمر الذي يجعل ليلة الدّخلة ليلة جحيم فينغصّ على العروسين فرحتهما، وقد يستمرّ معهما هذا التعقيد لعدّة أيّام إن لم نقل شهورا.
تعدُّ طريقة الرّبط بالمنسج من أشهر الطّرق في المجتمع الجزائري، كون جلِّ النساء يمارسن حرفة النّسيج، بحيث تحدث هذه العملية عندما يكون الشّيء المنسوج عبارة عن جلابة أو برنوس نُسِجَ خصّيصا لرجل أعزب، وقبل أن تُفَكَّ أدوات المنسج، يُطلب من الصّبية في سرّية تامّة أن تقوم بالدّخول والخروج سبع مرات من أحد جوانب المنسج المثبت بقطع من اللّوح أفقيا وعموديا، وفي كلِّ مرّة تدخل فيها المنسج تنتظرها إحداهن لتدقَّ بين كتفيها "بالخلّالة"[12]. والبنت المسكينة تظن أن النّسوة يلعبن معها، فتدخل وتخرج من المنسج وهي تمرح وتضحك. وتقول إحدى النّساء ذات خبرة في هذا المجال إنَّ فكَّ الفتاة التي تمّ ربطها بهذه الطّريقة، يتمّ بإحضار كامل لوازم المنسج والاستحمام فوقها حتى تتخلّص من الرّباط، وتكون قادرة على معاشرة زوجها بعد أن أحصنت طيلة فترة عزوبيتها.
وهناك طريقة الرّبط بإطار الغربال الذي يعدُّ وسيلة أخرى لتحصين الفتاة؛ إذ تقوم البنت بإدخال هذا الإطار من رأسها إلى قدميها سبع مرات، وفكُّه يقتضي العكس، أي إدخاله يكون من قدميها إلى رأسها.
إلّا أنّ هناك طريقة أخرى نوعا ما قاسية ترويها العديد من المتمرّسات في هذه العملية، والمتمثّلة في جرح فخذ البنت بشفرة حلاقة، وعند خروج الدّم تُبلَّل كمية من الجبن المجفّف وتعطى للبنت لتأكلها، وبنفس الطّريقة يتم فكُّ هذا الربط.
وآخر طريقة تمكّنت من معرفتها، هي أخذ البنت إلى إحدى العجائز، التي ستقدّم لها سبعة تمرات تردّد البنت قبل أكل كلّ تمرة عبارة (أَنَا حَيْطْ وَهُوَ خَيْطْ) إشارة لكونها مثل الحائط أقوى من الرّجل الذي سيحاول اغتصابها. أمّا عند فكِّ هذا الرّبط الذي سيتمّ قبل الدّخلة بساعات، فإن الطّقوس نفسها سَتُمَارَسُ، ولكن هذه المرّة الفتاة ستردِّدُ عبارة (أَنَا خَيْطْ وَهُوَ حَيْطْ) أي أنّ الرّجل هذه المرّة سيتمكَّن منها.
هذه بعض الممارسات استطعت أن أستشفّها من المجتمع الجزائري، وهي تدخل ضمن الطّقوس السّحرية التي تعبّر عن مدى التخوّف الذي توليه الأسرة لقضية الشّرف وعذرية الفتاة، وهي طقوس ضاربة في القدم تبدو لهم أنّها الوسيلة النّاجعة لحصانة الفتاة.
4- معتقد في طلب المطر (لالّة حليمة):
كان الرّجال إذا تأخّر المطر يُصَلُّون صلاة الاستسقاء، بينما كانت النّساء والأطفال يقمن بالاستعانة وطلب العون من الله لهطول المطر بصنع هيكل "لَالَّة حْلِيمَة"، وهي عادة متوارثة كُنَّ يمارسنها بعض النّساء في الماضي القريب، لا سيما المتمركزين بالمناطق السّهلية والسّاحلية، طلبا في الاستسقاء عندما لا تسقط الأمطار في فصلها ويشتدُّ الجفاف.
تعمِد نساء القرى إلى إلباس الصبايا ملابس جميلة بعد أن يقمن بتجهيز هيكل "لالّة حليمة"، وهو عبارة عن ملعقة طعام من خشب، تُثبَّت عليها من جهة الأعلى قطعة خشبية بمثابة الكتف واليدين، ثم يكسى هذا الهيكل بثياب الفتيات، ويزيَّن بالحليّ الذّهبية والفضية، ويُغَطَّى الوجه بقطعة من القماش، فتبدو "لالة حليمة" عندئذ في صورة امرأة بكامل لباسها وزينتها. ثم يرفع هيكل "لالة حليمة" من طرف بعض الصّبايا، ويطفن به من بيت إلى آخر ومن ورائهن موكب الفتيات والأطفال الصّغار، وهم يردِّدون مقاطع غنائية بحركات راقصة، يقولون فيها:
غَنْجَة غَنْجَة حَلَّتْ رَاسْهَا[13]
يَا ربِّ تْبَلْ اخْرَاصْهَا[14]
وْالنَّعْجة عَطْشَانَة == يَرْوِيهَا مُولَانَا
وْالبقرة عطشانة == يرويها مولانا
والدّجاجة... والأرنب... والمعزة... وهكذا حتّى يأتون على ذكر معظم البهائم الأليفة.
ويقف الموكب أمام كلّ بيت فترشُّ ربّة البيت على أفراده الماء، ثم تعطي شيئًا من الحبوب أو البقول أو الخضر (القمح، العدس، البصل ...). وهكذا ينطلق الموكب من جديد إلى بيت آخر، حتّى تتم زيارة كل البيوت.
ثم يجتمع الموكب في ساحة ويظلّ هيكل "لالة حليمة" مرفوعًا، وتطبخ التبرّعات التي جمعت في قدر، ثم تُوزَّع وتُؤكل كصدقة أو قربان. وهناك من النّساء من يلتحمن ويقمن بإعداد طعام "الكسكس" بما جمع من التبرّعات. وعندما ينضج يجتمع كلّ من النّساء والفتيات والصّبيان على قصعة الطّعام إلى أن يأتوا عليها، ويسود عندئذ جوٌّ من الاستبشار، فإن هطل الغيث فرحوا وغنّوا، وإلا جرت إعادة مشهد "لالّة حليمة" مرّة أخرى حتّى يستجيب الله لدعوات الصّغار وتوسلاتهم ونواياهم البريئة.
إن تحليل هذا الطّقس يضعنا أمام تساؤلات كثيرة، والسّؤال الأساسي يتمحور حول "لالّة حليمة": فمن هي؟ ومن تكون؟ والواقع أنّنا لا نجد إجابة لدى النساء الجزائريات، فهُنَّ كُنَّ يمارسن هذا الطّقس لاعتقادهم أنّه يجلب المطر دون معرفة المقصود، وهناك من أشارت إلى أنَّ "لالّة حليمة" مقصود بها السّيدة حليمة السّعدية مرضعة الرّسول، صلى الله عليه وسلم، وإقامة هذا الهيكل تيمنًا بها، لعلَّ بركة الله تحلُّ عليهم فيغاثون، مثلما حلَّت البركة على قوم حليمة السّعدية لمـّا وافقت على إرضاع نبيِّنا الكريم.
5- بعض المعتقدات الشائعة إزاء بعض الحيوانات:
الحيوانات في سلوكها الفطري اليومي وتصرّفاتها الطّبيعية قد تدفع النّاس تحت تأثير حالاتهم النّفسية والاجتماعية إلى تأويل تلك التّصرفات على أنّها أحداث ستقع، استنادًا إلى خلفية فكرية طبعتها المعتقدات في الذّاكرة، وتناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، فمن جملة الحيوانات التي فرّضت هيمنتها في المعتقدات الشّعبية في الأوساط الجزائرية نذكر:
= السّلحفاة: لهذا الحيوان قيمة كبيرة ووظائف عديدة بحيث لا يمكن الاستغناء عنه، فهو من يجلب الرّزق إذا تركته يسرح في أرجاء البيت، وهو من سيُسهِّل مرحلة المشي عند الطّفل إذا غسلت أرجل الطّفل فوق درقته، وهو من سيجلب الحظّ للفتاة العانس إذا تبخرّت على بيضته.
= نهيق الحمار: يدلُّ على مرور الشيطان فلا بدَّ من التعوّذ منه.
= صياح الدّيك: يبتهجون ويتبرَّكون بصوته، وصياحه دلالة على موعد صلاة الفجر.
= البوم: يتشاءم النّاس من البوم سواء شاهدوها أو سمعوا نعيبها، فهي دلالة عن سماع خبر وفاة.
= الغراب: هو مثل البومة يعتبره النّاس نذير شؤم نظرًا لصوته وشكله القبيح. وما إن يشاهده أحد من العامّة حتى يستعيذ بالله خوفًا من مصيبة قادمة خصوصًا إذا نعق أمامه. وإذا سمعت ربَّة البيت غرابًا ينعق أو بومًا ينعب في فضاء دارها، تناولت سكينين من المطبخ وضربت إحداهما بالأخرى حتى يتوارى بعيدًا.
= القطُّ الأسود: لا بدَّ من الحذر منه وتجنُّب إيذائه، فهو جنيٌّ في صورة قطٍّ.
6= بعض المعتقدات الغـيـبـيـة الشّائعة:
هي كثيرة جدّا ويصعب حصرها ويعوّل عليها أكثر، فمثلا:
= حكُّ الكفِّ: إذا حكَّ المرء الكفَّ الأيسر فمعنى ذلك أنه سيصرف مالا، وإن حكَّ اليد اليمنى فإنّه سيقبض مالا. أو ربّما العكس عند أخرين.
= حكُّ القدمين: يدلُّ على سفر أو ركوب مركب.
= تحريك المقص في الهواء وكأنك تودُّ قصَّ شيء: فهذا الفعل مستهجن لأنّهم يعتقدون أنّ ذلك سيجلب فتنة بين أهل البيت، فيؤول الأمر بهم إلى تفرقتهم وقطع العلاقات بينهم.
= تناثر العجين من بين اليدين أثناء عجن الخبز: فذلك نبأ عن حلول زوار أو ضيوف، والعجين الذي تطاير من القصعة هو من نصيبهم.
= وقوع عِصابة[15] المرأة: فذلك يُنْبِئ بأنَّ هنالك من يتحدّثون عنها في غيبتها، سواء بالخير أو بالشرّ.
= رفيف الأجفان العلوية: إذا اهتزَّ أحد الجفنين بصفة متواصلة فهو يُنْبِئ عن قدوم شخص طال غيابه.
= سقوط اللّقمة من اليد: فهذا نبأ عن مكروه سيقع أو خبر سيِّء سيأتي.
= إذا لبس أحدهم شيئا من أغراضه مقلوبا: فهذا يُنْبِئ على أنَّه سيلبس شيئا جديدا.
وأمور غـيـبـيـة أخرى يصعب حصرها ولا يتّسع المقام لذكرها. ضف إلى كلّ ما سبق، تلك القصص الخرافية كقصّة أمّنا الغولة وأمّ أربعة وأربعين التي اختلفت مسمّياتها في مجتمعنا، وإن كانت تسير إلى ذات الخرافة بخوارقها وقدراتها السّحرية والانتقامية، وغيرها من الروايات والمعتقدات التي أتت إلينا من الموروثات الشّعبية، فحياتهم اليومية لازالت تعجّ بهذه المعتقدات على الرّغم من التحوّل الكبير، الذي تشهده المجتمعات العربية على الصّعيد الثّقافي والاقتصادي والاجتماعي.
هناك عادات وتقاليد وأعراف لها من القداسة في نفوس النّاس ما ليس للحكم الشّرعي الربّاني، ممّا يدل على أنّ الرّواسب الوثنية لا زالت قائمة في نفوسهم ومتغلغلة في سلوكهم، وأنّ هذا المجتمع تتنازعه ثقافتان متضادتان، الأولى ثقافة دينية محبّة لدين الله ورسوله، والأخرى ثقافة وثنية تغرق في وثنيتها وتتنافى مع هذا الدّين كلّيةً، ولا نستثني هنا فئة المتعلّمين من الأمّيين، ولا البيئة الحضرية دون البيئة الرّيفية، ولا الذّكور دون الإناث، ولا الأوساط الشّعبية الغنيّة دون الفقيرة، فهم في هذا سواء، لأنّ الرّواسب الخرافية ماثلة فيهم ومتغلغلة في أغوارهم، حتّى أنّ تفكيرهم وسلوكهم المصقول بالخرافة يظهر عفويا، وينتقل إلى الأجيال في إطار ترسيخ الموروث الشّعبي. فمن أطلقها؟ ومن أين نشأت؟ وما هو التّفسير والتّحليل النّفسي لانتشارها؟ وإلى أيّ حدّ نؤمن بها وما مدى توغّلها في ثقافتنا العربية، وما مدى ارتباطنا بها وتحكّمها في حياتنا؟ وما هي الفئات الأكثر إيمانا بها؟
من المتّفق عليه أنّ هناك نوعين أساسين من التّفكير: التّفكير العلمي، والتّفكير السّحري الذي تعتبر الخرافات نتاجه. إلّا هناك عوامل تعمل على ترسيخه في العقل الباطن للفرد الذي يهيمن عليه التّفكير السّحري، ألا وهي: الخوف من المجهول والرغبة الجامحة في معرفته، ومن ثمّة السّعي في درء الخطر الكامل لهذا المجهول. كلّ هذه الأمور تدفع في اتجاه التّفكير الخرافي الذي يقوم أساسا على استخدامٍ خاطئ لمبدأ السّببية، وهو نسبة الحوادث إلى أسباب زائفة، ويبدأ هذا الإحساس بالتّفريخ، بمعنى أنّ هذه الصّور السّحرية تأخذ طابعا شعبيا، لأنّها أخذت تنتشر بصورة حيّة لتحقّق الوظائف التي ذكرناها سابقا، وانتشارها يعود إلى عدّة أسباب نذكر منها:
=1= غيبة التّنشئة على مبادئ التّفكير العلمي وربط النّتائج بأسبابها الحقيقية، وبذلك تنتشر هذه المعتقدات بين النّاس الأقلّ تعليما.
=2= غيبة التّفكير النقدي، فنحن لا ننشئ أطفالنا على هذا النّمط من التّفكير، ولا نطلب منهم التّأمّل في كلّ ما يتعلّمونه ويتلقونه، لأنّنا نهتم بقضية الطّاعة والانصياع أكثر من أي شيء آخر، هذا ما يفسّر انتشار هذه الخرافات حتّى بين طبقة المثقّفين وبنسب عالية.
=3= قضية الرّمزية والتّشابه وإسقاطها على أحداث الواقع، التي تلعب دورا مهمّا في حياتنا، مثل تحريك المقصّ في الهواء وعلاقته بخرافة حدوث المشاجرة، وذلك للتّشابه الكبير الحاصل بينهما، فالمشاجرة لها طرفان والمقصّ له طرفان، المشاجرة لها صوت، والمقصّ عندما يفتح ويغلق له صوت، المشاجرة تقطع العلاقات، والمقصّ يقطع الأشياء، وبالتّالي يُؤخذ هذا الرمز لكثرة التّشابه بينهما ويُربط بينهما. الأمر نفسه بالنّسبة للغراب الذي يراه النّاس نذير شؤم، و السرّ في ذلك يرجع إلى دور الغراب في قصة ابنيّ آدم حيث ارتبط بالقتل ودفن الموتى، لأنه كان المعلّم الأوّل لقاتل أخيه ليريه كيف يواري سوءته و يدفن جثّته.
=4= سياسة لخم الشّعوب لإلهائها عن قضاياها الأساسية وهموم السّاعة، خاصّة المتعلّقة بقضايا الأمّة الإسلامية، الذي يكون بطرق عدّة منها: هذه الخرافات والمسلسلات التّافهة والملغّمة بهذه الخرافات التي تعرض صباحا ومساءً على شاشات التلفزيون، فالأمر ليس بعيدا أن يكون مخطّطا تستفيد منه السّلطة التنفيذية للمجتمعات الدكتاتورية والقمعية.
=5= جانب التّسلية والتّرفيه لهذه الخرافات وما تضفيه من آثار إيجابية في نفسية الفرد، خاصّة نزعة التفاؤل التي تكتنفه من حيث نظرته إلى للأحداث وتوقّع الخير دائما، الأمر الذي يجعلها تسري في الّنفوس والعقول وتنتقل إلى الأجيال التي تأتي بعدهم، رغم زيفها من أوّلها إلى آخرها.
=6= الجهل الذي يبقى السّبب الرّئيسي لكلّ مظاهر التّفكير الخرافي. ولا ننسى دور الأمّ اللّاواعي والسّلبي في دعم هذا التّفكير وتثبيته في الطّفل، من خلال ممارساتها للعادات والتّقاليد الخرافية، ومن خلال إجابتها غير عقلانية واللامنطقية عن أسئلة أطفالها العشوائية، وهذا من شأنه تأكّيد التّباعد القائم بين الثّقافة الشّعبية والدّين في المجتمع الجزائري، أو أنّ الدين تحوّل لديهم إلى عادة فانصهر في جملة الموروثات والمعتقدات الشعبية.
أخيرا يجب التّحذير من خطر انتشار واستمرار مثل هذه الخرافات، لأنّ مثل هذه العقلية تساهم في تبلّد التّفكير وتُعطّل العقل، وتكبّل الجهود والأعمال للانطلاق واللّحاق بالرّكب الحضاري، وهو ما يفسّر ما نعاني منه اليوم من التخلّف في مجتمعنا. وعليه وانطلاقا من الدّور الفعال الذي يلعبه التّراث في صياغة الشّخصية الوطنية، وصقل الهوية وبلورتها لأي شعب من الشّعوب، وجب علينا نخل هذا التّراث وتصفيته من الأساطير والخرافات المثقل بها، وتبديد هذه النّسب المئوية العالية والمهولة التي تحيا بالخرافات من خلال إعادة النّظر في قضية التّعليم وبرامجه ومحتوياته؛ وحجب كلّ ما يتنافى مع التّفكير العلمي عن وسائل الإعلام، لأنّه يؤثر على الصّغار والكبار وحتّى فئة المثقفين، فالسّماح بظهور المشعوذين والمنجّمين على الشّاشات ليس من الحرّية، وإنّما ضرب من سياسة التّجهيل التي تمارسها الأنظمة الديكتاتورية ضدّ الشعوب المقهورة التي تعيش تحت وطأتها.
= = = = =
الهوامش
[1] حاتم عبد الهادي السيد: سيناء في تراث العالم القديم، مجلة أفق الثقافية، عدد 26 مارس 2005.
[2] إن مصطلح "الوعدة" وارد في اللّغة العربية، فهو مشتقّ من فعل وَعَدَ، وتعني تعهَّد بشيء ما، أي أخذ على عاتقه شيئا ما، أو أنه مشتقّ من المَوْعِدِ موضع التواعُدِ، وهو المِيعادُ، ويكون الموعد مصدر وَعَدْتُه، ويكون المَوْعِدُ والمَوْعِدَةُ وقتًا للعِدةِ. والميعادُ: لا يكون إِلا وَقْتًا أَو موضعًا. ينظر ابن منظور: مادة (وعد). أمّا "الوِعْدَة" في طقوس الجزائريين فهي عبارة عن احتفال ديني يقوم به أشخاص من سلالة الوليّ الصّالح والتابعون له، حيث يأتون للزّيارة بلوازم الإعداد لهذه "الوِعْدَة"، ونَجِدُها في أوساط العامّة "تأخذ هالة روحانية تتمثل في شيء مقدَّس، وفي ممارسات تنمُّ عن اعتقادات، أقلّ ما يقال عنها أنّها تقديم القرابين والتوسّل إلى الله لرفع المظالم، وتحقيق الأمنيات. بوشمة معاشو: سيدي غانم تراث وثقافة، دار الغرب للنشر و التوزيع، وهران، 2002م، ص 13.
[3] وردت هذه اللفظة بمعان كثيرة في القاموس العربي، منها قولهم: جاء بالأمر براحا: أي جهارا، علنا. ولعلّ من هنا جاء اسم الفاعل "البرّاح". ينظر ابن منظور مادة (برح).
[4] ترتبط لفظة السّلكة بعملية إنهاء كتابة أو قراءة أو حفظ القرآن الكريم بأكمله.
[5] الموريسكيون: هم المسلمون الذين بقوا في الأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492، وأجبروا على التنصر والدخول في الكاثوليكية. وغُيِّرَت أسماؤهم إلى الإسبانية وحُرِموا من حقوقهم وتابعتهم محاكم التفتيش دون هوادة. وكلمة الموريسكيين هي تصغير لكلمة "مور" والتي يطلقها الأسبان على كل المسلمين و"موريسكو" هو المسلم الصغير إمعانا في الإهانة والتحقير، وقد ظل هؤلاء متمسكين بدينهم طيلة حوالي 115 عاما ثاروا فيها عديد المرات وتعرضوا للقمع والتنكيل في واحدة من أقسى التجارب التي مرت بها البشرية. وقد كانوا ممنوعين من الخروج من أسبانيا إلى حدود 1609 حين صدر قرار بطردهم.
[6] بوشمة معاشو: سيدي غانم تراث وثقافة، دار الغرب للنشر و التوزيع، وهران، 2002م، ص 13-15.
[7] م. س، ص13.
[8] المبارك الميلي: الشرك ومظاهره، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، 1984، ص229.
[9] ينظر: إدوار القش- مها كيال مقال: "عتبة البيت "العليا" حماية من العين و"السفلى" شرّ وأذيّة. الموقع:
http://www.oman0.net/forum/showthread.php?463932
[10] م. س.
[11] ولأهميتها يبدأ التفريق بين الجنسين منذ مراحل الطفولة الأولى والتشديد على حراسة جنس الفتاة للمحافظة على شرف العائلة. فهذه البناءات السلطوية المتصلبة تدلنا كما يرى بورديو على مرجعية الإحساس بالشرف النّيف "الذي هو قيمة كبرى في الجزائر سواء في المناطق العربية أو البربرية".
- Bourdieu (P.)، Le sentiment de l’honneur dans les sociétés Kabyle، Centre Européen de sociologie.
[12] الخلّالــة: آلة يدوية تستعمل في دقّ النّسيج وتثبيته.
[13] وفي العادات البربرية يقولون أغنجة كلمة أمازيغية وتعني الملعقة. (حلت راسها) بمعنى: كشفت عن رأسها.
[14] ياربّ تبل أخراصها. بمعنى: يا ربّ أمطرنا حتى تبتلّ أقراط لالة حليمة. خِرص: اسم، والجمع : أُخْرَاصٌ ، وخُرْصَانٌ. الخِرْصُ : الحَلْقَةُ من الذهب أَو الفِضَّة ، الخِرْصُ : القُرْط بحبَّة واحدة.
[15] العِصابَة الشَّيء يُعْصَب به الرَّأسُ من صُداعٍ. وما شَدَّتَ به غيرَ الرَّأْس فهو عِصابٌ. ينظر ابن منظور: مادة (عصب).
◄ فاطنة أبو الغيث
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
مظاهر التّفكير الخرافي في المجتمع الجزائري, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014 - 22:19 1
أ/فاطنة بولغيني تحية طيبة أثرت قضايا غاية في الأهمية ,وهي موجودة في مجتمعاتنا العربية بنسب متفاوتة ,ولعلها في مجموعها رمز للقهر والشقاء التاريخي لمجتمعاتنا المتمثل بالفقر وغياب حرية الرأي وهي من رواسب اللا معقول في تراثنا والتي شاعت في عصور القهر والنكبات وشكلت ملاذا للناس البسطاء .شكرا لك ولعود الند.