عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

منال عبد الحميد - مصر

تـعـفـن


منال عبد الحميدتأمل يديه مرة أخرى بتركيز. شاهد البقع الخضراء المتعفنة تطفو علي جلده وتغوص قاطعة بشرته الخارجية. خُيل إليه أن ملايين الكائنات الخضراء الدقيقة المجهرية، التي لا يعرف كيف يتسنى له رؤيتها ما دامت مجهرية، تزحف في شكل كتل وجحافل متراصة مكونة بقعا ولطخا مقرفة مهمتها الوحيدة في الدنيا أن تأكله حيا.

تسلطت عليه أوهام التحلل منذ عامين تقريبا. كان موظفا عاديا ملتزما ومجتهدا ويعيش وحيدا مع أم مسنة وقطة وثلاثة أرانب. لم يحدث شيء غريب أو مخيف في حياته. لكنه استيقظ ذات صباح مقتنعا أن ثمة كائنات محللة قررت أن تأكله حيا. لن تنتظر موته ودفنه مثل باقي المخلوقات. بل ستنقض عليه ذات لحظة وتفترسه وتنهشه نهشا ولو كان في عرض الطريق أو حتى في داخل المغطس المليء بالمياه والصابون.

سخر من تلك الأوهام في البداية ثم لم يلبث أن بدأ يصدقها ويقتنع بها، فقد رأى البرهان بعينيه.

صحا صباح أحد الأيام ليجد أحد أظافره مفقودا. هرع إلى الطبيب طالبا النجدة، فأخبره أنه تعرض لعرض بسيط وهو إصابة الإصبع بالفطريات، الذي يحدث لكثير من الناس، وسقط الظفر نتيجة لذلك.

تعجب الطبيب لكون مريضه لم يشعر بألم أو يطلب مشورة طبية من قبل، رغم أن الوصول لمرحلة سقوط الظفر يعني أنه عانى من آلام مبرحة في إصبعه. أما المريض من جانبه فقد كان يؤمن بأن كل ما يقوله الطبيب وكل ما يعتقده هراء. لم يتعفن إصبعه أو يصب بالفطريات.

الحقيقة أن الكائنات المحللة هي التي أكلت ظفره وجزءا من إصبعه والدليل أنه لم يشعر بألم من قبل ولا لاحظ أي شيء غريب في إصبعه. كما أنه كان يملك دليلا يعتبره قويا بلا شك، فهو لم يعثر على الظفر الذي سقط في أي مكان، فإن كان الظفر قد انفك وسقط عن الإصبع فأين ذهب إذن؟

رمقه الطبيب بدهشة وتلعثم محاولا تقديم تفسير علمي يقبله المريض الذي بدا عليه أنه لا يتمتع بحالة عقلية في الحد الأدنى من الصحة.

لكن الآخر لم يكن يريد أية تفسيرات، فهو مقتنع بما لديه ومصدق تماما للوهم الذي أنتجه خياله.

طهر له الطبيب الجرح وأعطاه علاجا مناسبا وتركه يذهب بعد أن حدد له موعدا للاستشارة في غضون ثلاثة أيام. لكنه لم يكن ينوي العودة ثانية.

في الطريق لمسته طفلة صغيرة عرضا وبدون قصد فأجفل ودفعها بعيدا بقسوة وارتجف رعبا. لقد أدرك الآن من أين أتته تلك البلية. إن ملامسة البشر تنقل إليه الكائنات المترممة القذرة.

إنهم جميعا محملون بها. إنهم جميعا موبوءون .

أسرع إلى البيت وهو يجري في الطريق بجنون، وفي نفس الوقت يحذر أن يلمسه شيء أو يلمس هو أي شيء أو أحد. دخل بيته وأغلق الباب خلفه بالقفل وبدأ يتنفس الصعداء.

سمع صوت أمه تناديه فارتجف. ها هو مصدر آخر للوباء لكنه داخل قلب بيته تلك المرة. ذهب إليها مترددا فطلبت منه أن يساعدها ويسندها لكي تصل إلى الحمام.

لكم فعل ذلك مرارا وتكرارا لكنه الآن وجد نفسه عازفا عن تناول يدها الممدودة إليه. نظرت إليه الأم بدهشة وهو ينظر إلى يدها المرتعشة ولا يمد لها يدا ليساعدها. تطلعت إليه للحظة وهو واقف أمامها مبللا بالعرق. فجأة تنصل من الأمر كله وقال لها شارحا مبررا موقفه الغريب:

"أصلي صباعي مدوحس وممكن أعديكي. استني أنده لك مريم".

كانت مريم جارة شابة لهم وتعتبر شبه مخطوبة للشاب الوحيد.

تجاهل صوت الأم الذي أخذ يناديه مرارا وتكرارا وهرع خارجا من غرفتها. في الخارج قابلته قطته المدللة. أخذت تموء منادية إياه برقة وهي تحاول الاقتراب منه. كانت جائعة فلم يضع لها طعاما ولم يتذكرها منذ يومين، ولولا الرزق القليل الذي تلقطه من هنا وهناك من خشاش الأرض لماتت جوعا. فزع عندما رآها وارتجف رعبا. ذلك مصدر خصب للغاية للوباء.

لا بد أن الكائنات الخضراء الصغيرة تملأ جسدها وتسري في دمها وتستعمر فراءها المليء بالقمل والشعر الملبد القذر. لم يكن هناك قمل في الحقيقة في فراء القطة، فقد كان يعني بنظافتها جيدا، لكن وهمه جعله تقريبا يرى القمل وهو يجوس في شعرها الملون الكثيف وكل قملة منه في حجم الفيل.

ارتعش وهو يتخيل كمية الكائنات المحللة التي تسبح في دماء كل تلك الحشرات المقززة وتسكن في سطح جسدها اللامع الرمادي.

فجأة داهمه وهم جاثم كالكابوس، فوجد نفسه يطيح في القطة الصغيرة التي تستعطفه بصوتها الرقيق، ويركلها بقدمه ركلة جموحة قاسية لتطير مترين إلى الأمام وترتطم بباب الشقة في عنف.

سمعت الأم صوت الارتطام فصرخت متسائلة عما يحدث. لم يهتم بأن يجيبها وأسرع نحو الباب لينادي لها الفتاة لتساعدها. لكنه وحينما تجرأ أخيرا وتغلب على مخاوفه ومد يديه ليفتح الباب، فوجئ بهم يقفون هناك بانتظاره: صفوف تتلو صفوف من الكائنات الخضراء الصغيرة تتقدم على شكل جيش صغير وتطوق شقته وتسد عليه منافذ الهروب.

عندئذ بدأت أظافره كلها تتساقط من تلقاء نفسها واحدا وراء الآخر.

D 25 كانون الأول (ديسمبر) 2014     A منال عبد الحميد     C 6 تعليقات

4 مشاركة منتدى

  • عندما يُنكرُ المريضُ نفسَه ويَتنكرُ للطبيب..؟ فإنما يعني أن المريض بلغ حالاً شديدة من الإعياء، وهذا ما أحسنتِ التعبير عنه بكفاءة ليست قليلة، فرأيتُ بالصورة المكرَّرة المقروءة في أكثرَ من موضع، كيف بدا المريضُ منهكاً في قِمّة الاضطراب. الموضوع غني بالمشاهد الحيَّة عموما، واللغة سليمة تنساب برشاقة ملحوظة.

    ما عدا ذلك لا يستحق الوقوف عنده طويلاً..؟ كبعض المفردات المكرَّرة من نفس المصدر " تنهشه نهشاً - وتعرَّض لعارض". أخيراً؛ كان يقتضي إنهاء الموضوع عند حدود: وتسُدُّ عليه منافذَ الهروب. لكن يبقى من الإنصاف القول إن الموضوع مُوَفّقٌ عموماً، يستحقُّ إطراءً صريحاً.

    خالص مودتي
    كل عام وأنتِ بخير يا سيدتي


  • أ/منال عبد الحميد تحية طيبة قصة مؤثرة وقوية الإيحاءبرمزيتها بالتوفيق دوما.


  • أ/ منال.
    قصتك ممتعة، تابعتها بشغف لأصل إلى نهايتها.
    لكِ كل التوفيق.


  • الكاتبة منال ..تحية رقيقة لك علی نصك الجميل.. نجحت بشكل كبير في اقتحام عقل مريض بالوسواس القهري .. لنری بعينيه كيف ينظر للاشياء .. اعتقد انني كقاريء تقمصت عينيه ..وانتابني نوع من النفور ايضا من الظافر والقطة ..الخ .. ومن ثم تعاطفت معه .. جميل ان نطرح مشاكل مختلفة ..ونری الحياة بمنظور هذه الشخصيات حتی نتفهم حالتهم ..ومن ثم نقدم علی مساعدتهم ..والنماذج هذه موجودة حولنا وبكثرة ودائما ما نختصر وصف حالتهم ظلما بنعتهم بالجنون .. شكرا لك


في العدد نفسه

تهنئة بالعام الجديد 2015

كلمة العدد 103: تقييم الشعراء والأدباء

جمالية السرد في "هكذا حكم ..." لياسين باهي

الحياة في عتمة شمسٍّ لا تغيب

أدب الرحلات بين الجغرافيا والإبداع