زكي شيرخان - السويد
الدهليز
تراه أي دهليز مظلم دخل؟ شيء ما دفعه إلى هذا المكان. لا يذكر بالتحديد متى كان.
يستطيع أن يتوقف ويبقى قريبا من المدخل. يعتقد، أو هكذا أوحى إليه عقله، إن بقي قريبا فبإمكانه الخروج. ما عليه سوى أن يستدير 180 درجة. الظلام دامس، ولا يدري كم مشى.
الإحساس بالاتجاهات مفقود منذ ولوجه. ومشاعره مزيج من خوف ورغبة في اكتشاف ما هو موجود في هذا الدهليز، أرضه، جدرانه، وسقفه، أركانه، وزواياه، وتعاريجه. والأهم عنده ما سيكتشفه في داخل نفسه، في تلافيفها وثناياها.
الخوف من الدخول إلى داخل نفسه أشد وطأة على عقله مما سيصادفه في هذا المكان الموحش اللامرئي. يستطيع وببساطة أن يعرف بعضا من ملامح هذا المكان باستخدام حواسه. يستطيع أن يلمس الجدران، ويستطيع أن يصرخ ليقدّر من الصدى سعة المكان، ولكن سيكتشف ما بداخله.
حاول مرات أن يدفع عقله للولوج إلى داخل نفسه. أغراه بمتعة ما سيراه. ولم تُجد محاولاته. لم يكن لعقله من وسيلة لاختراق المدخل.
كأن يدا تدفعه ليلج أكثر. هو يقاوم، ولكن مقاومته بدت له أضعف من قوة الدفع. وكأن أحدا ما رفع قدمه اليمنى لتخطو خطوة نحو الأمام. ما أن وضعها على الأرض حتى أحس بأن شيئا ما يتفتت بسهولة تحتها.
فتح عينيه إلى أوسع ما يستطيع علّه يرى أمامه. الظلام دامس. هل يمكن للعين أن ترى في الظلام بعد أن تعتاده؟ هو في هذا المكان منذ فترة ظن أنها كافية كي يعتاد على الظلام، ولكنه لا يرى سوى سواد حالك. فضاء واسع من الظلمة.
أغمض عينيه وحاول أن يرى بعقله، مضطر لتصديق كذبة سمعها فيما مضى من زمن أنه بإمكان المرء أن يرى بعقله فيما لو ركّز ذهنه وفقد إحساسه بالزمان والمكان. ضحك في سره. فقدان الإحساس بالزمان والمكان داهمه حتى قبل أن يدخل مدخله هذا. مع هذا جرب بعد أن أطبق أجفانه على بعضها مُطلقا العنان لعقله. لم ير شيئا سوى كثافة الظلمة.
ما العمل؟ رفع يسراه، قدّمها للأمام، وضعها جوار يمناه. وهو يضعها على الأرض، أو هكذا أفترض مجازا، أحس بشيء ما يتفتت تحتها. ببطء قرفص.
مد يده يتحسس بهما ما دهسته قدماه. لمس شيئا أسطوانيا أو اقرب ما يكون إلى الأسطوانة. تلمس هذا الشيء بسبابته وإبهامه ليقدّر القطر. ثم أخذ ينقلهما ببطء يريد أن يتحسس إلى أين تنتهي هذه الأسطوانة. وأحس أنه كلما حرك إصبعيه باعدا إياهما عن قدمه، يزداد قطر هذه الأسطوانة. ثم، نهاية الأسطوانة أحس بها اقرب ما تكون إلى الكرة.
سرت قشعريرة في جسده. أيعقل ما ظنه؟ ظنه المرعب دفعه إلى التخلي عن حذره ويدفع بأصابع يده اليسرى يتحسس الطرف الآخر. نقل أصابعه بسرعة، فإذا بها تلمس مجموعة أسطوانات اقل قطرا. لم يساوره شك هذه المرة في أن ما يظنه اقرب إلى الصحة. تحت موجة رعبه المتزايد، نسي حذره.
استند إلى ركبتيه، وبكلتي كفيه أخذ يتحسس ما حوله. ها هو عظم الفخذ. وهذه الساق الأخرى. تحرك نحو اليمين. ها هو الحوض. العمود الفقري. اختل توازنه، وقبل أن يسقط استند بكفه اليمنى على الأرض فإذا بها تخترق ما يشبه المشبك.
يا إلهي! هذا هو قفصه الصدري. دفع يده اليسرى إلى اليمين قليلا، ها هي ذا الجمجمة. تسمر في وضعه. ركبتاه على الأرض وجذعه يستند على يديه. حيوان هو ليس إلا، على أربع قوائم. أطلق صرخة يداري بها جنونه.
لا بد له أن يخمن أين هو. قبر؟ دفعه خوفه المتراكم إلى أن يزحف، مستخدما يديه تارة كي يستند عليهما وتارة يتحسس ما حوله. هذا هيكل عظمي ثان، وهذا ثالث، وهذا رابع، وهذا... لا هذا ليس هيكلا عظميا، بل كتاب. رفعه.
عدل من قامته ساندا مؤخرته على كعبي قدميه. ضرب الكتاب ضربة خفيفة فإذا الغبار يشمه بوضوح. وضعه على فخذيه، فتحه، بسبابته وإبهامه ضغط على مجموعة أوراق. تفتت الأوراق بين أصابعه.
نهض بسرعة، ثم هوى بمؤخرته على الأرض غير عابئ فيما لو جلس على حوض أو جمجمة أو قفص صدري.
وضع الكتاب في حجره. تجمع خوفه كله في صرخة أطلقها، وتساؤل خنقه صدى صرخته: "أين أنا؟"
◄ زكي شيرخان
▼ موضوعاتي
- ● عنق الزجاجة
- ● وماذا بعد؟
- ● خرابيشُ خطّ
- ● تاريخ
- ● عَجزٌ
- ● هَيْلَمان
- ● عُقوق
- [...]
2 مشاركة منتدى
الدهليز, محمد علي حيدر ـ المغرب | 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 16:01 1
الرحلة داخل النفس رحلة محفوفة بالمخاطر، رحلة لا يمكن أن تلتقط اللغةُ العادية مفرداتِها ما دامت خارج إطار الرؤية البصرية الفيزيائية، ومن ثم فإن عين البصيرة هي الأقرب لاستشعار غموضها. وكما للرؤية البصرية لغتَها، فلِلُغة البصيرة لغتَها المتأرجحة بين العجائبية والمشاعر التي تقف عند حافة البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، بين الجسد بمعناه الفيزيقي، وبين الروح والنفس بمعانيهما التي لا تشبه المعاني المباشرة... وقد وقف نص الدهليز عند هذه العتبات، واستطاعت مفرداته وطرائق حكيه أن تُقرِّب إلينا ما لا تعبر عنه الكلمات، وبالتالي كانت مفرداته رسول تواصلٍ عبر ما يعرف بالتخاطر، وتلك ميزة ارتقت بالخطاب السردي إلى متعة الرؤية في العتمة... سيدي أمتعتني بأسلوبك وبلاغة خطابك الذي استفهم ولم يقدم إجابات، بل كان دعوة خفية للقارئ كي يقارب الإجابة عنها...
1. الدهليز, 26 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 18:00, ::::: زكي شيرخان
الفاضل محمد علي حيدر... أكملتَ بتحليلك العميق البعد الذي حاول النص إيصاله؛ شكراً على جهدك.
الدهليز, إبراهيم يوسف - لبنان | 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014 - 06:58 2
زكي شيرخان – السويد
الإنسان هذا المخلوق "المَدْرَحِيُّ" المُعقّد". تكاد روحي تتيه مني وأعصابي ينالها الأعياء وأنا أعبر هذا الدهليز، هذه حالٌ من الهلوسات والكوابيس تزورني في نومي في أوقات متفاوتة تطول وتقصر، فألجأ إلى العقاقير المهدئة أتناولها من حين إلى حين. النصُّ يا صديقي حقَّق أقصى مراميه.
1. الدهليز, 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014, 09:36, ::::: زكي شيرخان-السويد
السيد إبراهيم يوسف
وأنا أقرأ تعليقك، أيقنت أنك تفاعلت مع روح النص، وهذا جل ما يبغيه- طبعاً من جملة أهداف أخرى- الراوي لحالات إنسانية معاشة. شكراً لك.