الصفحة الأخيرة - عدلي الهواري
ولفي يا مسافر
في أواخر شهر أيلول/سبتمبر 2014، تلقيت عرضا من مركز تطوير الإعلام في جامعة بير زيت الفلسطينية لأكون المدرب في دورة استخدام الوسائط المتعددة في سياق العمل في وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية.
أعطيت موافقتي المبدئية على الفور، وزودتني ياسمين مسك، منسقة وحدة الصحافة المكتوبة، بما أحتاج من معلومات إضافية لتساعدني على تحويل الموافقة إلى نهائية. بعد أيام قليلة، اتفقنا على المواعيد المناسبة للطرفين لعقد الدورة، وتولى المركز ترتيبات السفر والإقامة، وبدأت أنا أحضر للدورة، وخاصة العمل على إعداد دليل عن موضوعاتها.
المقصود بالوسائط المتعددة الصور والصوتيات والأفلام أو الفيديوهات إضافة إلى النص، فهذه الوسائط تستخدم معا في مكان واحد بفضل الإنترنت، التي جمعت أربعة مجالات كانت تعمل بشكل منفصل عن بعضها.
منذ صدور "عود الند" في حزيران/يونيو 2006 وحتى اليوم، أتعامل مع هذه الوسائط كل يوم. وقبل صدور "عود الند" عملت في الإعلام الإذاعي منتجا ومقدما ومعدا للبرامج الإذاعية المباشرة والمسجلة قبل البث، السياسية، وغيرها. وشملت تلك الفترة بعض الرحلات للقيام بتغطيات إخبارية.
كان مونتاج (تحرير) الأشرطة، في تلك الأيام، يتم باستخدام شفرة لقطع الشريط، وقلم لوضع علامة باللون الأبيض على مكان القص، ثم قطعة لاصقة لإعادة لحم الشريط بعد حذف الجزء غير المطلوب.
ثم جاء الحاسوب، وصارت عمليات تسجيل الصوت والمونتاج تتم عليه، ولم تعد هناك حاجة لحمل مجموعة أشرطة إلى الأستوديو لبثها حسب مكانها في برنامج ما، فالمواد مسجلة على حاسوب ضمن شبكة، وبالتالي يمكن الوصول إليها من حاسوب في الأستوديو، وما عليك إلا إعداد قائمة بتسلسل المواد المطلوب إذاعتها.
السفر إلى رام الله
وصلت رام الله مساء الجمعة 6 كانون الأول/ديسمبر 2014، ونزلت في فندق بيوتي إن (فندق الجَمال)، القريب من مركز خليل السكاكيني (1878-1953)، الذي كان مديرا لدار المعلمين في القدس، ومفتشا للتعليم في فلسطين.
منطقة رام الله وما حولها مشهورة بأنها مصيف، أي المكان الذي يذهب إليه سكان المناطق الحارة في الصيف، وهذا الصفة موضوع أغنية تقول: "يلا نصيّف في البيرة". ورام الله لها أغنية شهيرة تقول "وين ع رام الله، ولفي يا مسافر" ويمكن الاستماع إليها بصوت سلوى أو سميرة توفيق وغيرهما.
استكشاف رام الله
يوم السبت كان اليوم الوحيد المتوفر للراحة قبل بدء الدورة في اليوم التالي، ولذا أردت استكشاف رام الله بنفسي. قال لي نزيه دحدل، مدير الفندق، إنه إذا ذهبت يسارا على شارع خليل السكاكيني فسوف أذهب إلى البلدة القديمة. وإذا ذهبت إلى اليمين فسأصل إلى جزء آخر من المدينة، فاخترت التوجه إلى البلدة القديمة أولا.
سرني كثيرا أن أرى بيوتا قديمة من طابق واحد أو اثنين مع حديقة. وبعض البيوت لا تزال فيها جدران استنادية (سنسلة). شاهدت في الحي القديم مبنى بلدية رام الله، وجدارية تمثل الشعب الفلسطيني ونضاله.
واصلت السير في هذه المنطقة إلى أن وجدت محل صرافة عملات، ثم استأنفت السير إلى أن وجدت محلا للهواتف الجوالة، فاشتريت منه شريحة رقم هاتف جوال محلي.
في طريق العودة اشتريت من دكاكين الحي القديم وجبة غداء وفاكهة وخضارا وقنينة ماء، وعدت إلى الفندق، وتناولت الغداء واسترحت.
على طريق حنا ميخائيل
عصرا ذهبت لاستكشاف رام الله بالسير في الاتجاه الآخر من شارع خليل السكاكيني. بعد مسافة قصيرة وصلت دوارا يحاذيه مقر المجلس التشريعي الفلسطيني. أحد الشوارع التي تبدأ/تنتهي عند الدوار شارع حنا ميخائيل. سرني أن يكون بهذا القرب من مكان إقامتي، وأن أجده منذ اليوم الأول، فالرجل يمثل أسوة حسنة لكل من يؤمن بقضية بلده وشعبه ولديه الاستعداد للتضحية بكل شيء من أجلها.
حنا ميخائيل من أبناء مدينة رام الله. وُلد فيها عام 1935. كان حنا طالبا متوفقا، فحصل عام 1952 على منحة للدراسة في الولايات المتحدة، فدرس أولا الكيمياء، ثم غير مجال دراسته العليا، وحصل على الدكتوراه من جامعة هارفرد الأميركية عن رسالة عنوانها "السياسة والوحي: الماوردي وما بعده". وبعد الحصول على الدكتوراه، عمل أستاذا في جامعتي برنستون وواشنطن.
ثم حدثت حرب عام 1967، فهزمت الجيوش العربية على ثلاث جبهات، واحتلت إسرائيل ما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية، إضافة إلى الجولان وسيناء. ومن المفارقات أن الهزيمة أيضا ولدت المقاومة الفلسطينية التي استطاعت انتشال الأمة العربية من تحول الهزيمة إلى استسلام.
قرر حنا ميخائيل التخلي عن الحياة المرفهة والمستقبل الأكاديمي الواعد في الولايات المتحدة والتحق بالمقاومة الفلسطينية عام 1969، وكان ميدانه الإعلام والتثقيف، واشتهر في أوساطها بكنية أبو عمر. في عام 1976، أثناء الحرب الأهلية في لبنان، توجه أبو عمر مع مجموعة من رفاقه من بيروت إلى طرابلس على متن قارب. وقد فقد ومن معه منذ ذلك الحين. وتم في عام 2011 تأسيس موقع إلكتروني لتخليد ذكرى أبو عمر، والفضل في جمع المادة وتأسيس الموقع يعود إلى زوجته المناضلة جهان حلو، رئيسة المجلس الفلسطيني لكتب اليافعين، وقبل ذلك مديرة مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي.
منطقة الأسواق
بعد انتهاء شارع حنا ميخائيل سرت على غير هدى في شوارع المنطقة ووجدت أني صرت في منطقة الأسواق، بما في ذلك سوق الخضار والفاكهة، وكنت على مقربة من دوار المنارة، الذي يعتبر قلب رام الله.
ولأني سرت على غير هدى، لم أحفظ مسار الرجعة، فسألت أكثر من مرة عن اتجاه المجلس التشريعي. وفي النهاية كان المسار الذي سهل عودتي أن أنتقل من دوار المنارة، إلى دوار الساعة، ثم أسير على شارع المكتبة، أي الذي توجد عليه مكتبة رام الله العامة.
شجرة عيد الميلاد
عندما سرت حسب هذا الوصف، شاهدت شجرة عيد الميلاد احتفاء بعيد ميلاد السيد المسيح ومجيء العام الجديد، 2015، ثم شاهدت نصبا يجسد شخصا يتسلق على سارية ليرفع علم فلسطين. بعد السير بضع دقائق كانت مكتبة رام الله العامة على يميني. كانت الشمس بدأت رحلة الغروب فصورتها مرات عديدة، واستمتعت بمشهد الغروب واللون البرتقالي/الأحمر المصاحب له.
اقتربت كثيرا من مقر الفندق، ودخلت شارع خليل السكاكيني من بدايته عند الدوار، وبعد مسافة قصيرة شاهدت إشارة مع سهم إلى اليسار كتب عليها شارع إدوارد سعيد (1935-2003) الذي كان أستاذا في جامعة كولومبيا الأميركية، وحصل على شهرة واسعة وخاصة بعد نشر كتابه "الاستشراق".
شوارع بأسماء المثقفين والأدباء
أثناء التجول سيرا على الأقدام أو في السيارة أثناء الأيام التي قضيتها في رام الله لاحظت أن شوارع عديدة في رام الله تحمل أسماء كتاب وأدباء فلسطينيين إضافة إلى أبناء المدينة، فبالإضافة إلى شوارع خليل السكاكيني وحنا ميخائيل وإدوارد سعيد، هناك أيضا شارع باسم سميح فرسون (1937-2005)، الذي كان أستاذا لعلم الاجتماع في الولايات المتحدة ؛ وشارع إيميل حبيبي (1922-1996)، الروائي الفلسطيني صاحب رواية "المتشائل" وغيرها.
لقاء تعارف أولي
بعد العودة تلقيت اتصالا هاتفيا من الزميلة بثينة السميري، من مركز تطوير الإعلام، وتم الاتفاق على لقاء في الفندق مع زملاء من المركز الساعة السادسة والنصف مساء، وفعلا حضر الزميلان عماد الأصفر وناهد أبو عيطة، وقضينا حوالي ساعة في التعارف والحديث عن موضوعات شتى.
الذهاب إلى جامعة بيرزيت
يوم الأحد، أول أيام الدورة، غادرت الفندق الساعة الثامنة صباحا، وطلبت من سائق التاكسي أن يوصلني إلى جامعة بير زيت، التي قيل لي إن الرحلة إليها في السيارة تستغرق حوالي عشرين دقيقة.
بيرزيت بلدة فلسطينية قريبة من مدينة رام الله، وفيها جامعة بيرزيت، مكان انعقاد الدورة. تعود جذور الجامعة إلى مدرسة أقيمت في العشرينيات في البلدة، وتعد أول جامعة فلسطينية تؤسس بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية عام 1967، وقد فتحت أبوابها عام 1975.
عندما اقتربت السيارة من مقصدها، ظهر أمامي الحرم الجامعي الواقع على رابية. منظر جذاب عن بعد، وعن قرب وجدت حرما جامعيا جميلا، مبانيه من الحجارة البيضاء، وداخله وحوله أشجار، وبالتالي يتيح للطالبات والطلاب الجلوس أو المشي في الهواء الطلق لكسر الرتابة الناتجة عن الجلوس في قاعات المحاضرات.
سألت أحد حراس الجامعة على البوابة الغربية عن اتجاه مركز تطوير الإعلام حيث ستقام الدورة، فدلني وسرت في الاتجاه الذي حدده لي نحو مبنى محمد المسروجي، مقر المركز.
لأني وصلت مبكرا ولم يكن يوم الأحد يوم دراسة، فقد لاحظ الزميل حسام البرغوثي شخصا ينتظر، فسألني إن كنت عدلي، فقلت "نعم". تصافحنا وسرنا نحو مدخل المبنى.
فهمت أن الإقبال على التسجيل في الدورة كان شديدا، واختار المعنيون في المركز نحو عشرين مشاركا ومشاركة. افتتحت الدورة في قاعة، ثم انتقلنا بعد جلسة الافتتاح إلى مختبر يوجد فيه 16 حاسوبا مزودا بالبرامج اللازمة للتدريب على المهارات المختلفة. بعض المشاركات والمشاركين كان يفضل استخدام الحاسوب الشخصي.
تعرفت أثناء الدورة على العديد من الزميلات والزملاء في مركز تطوير الإعلام، بما في ذلك مديرة المركز نبال ثوابتة وعبير إسماعيل وإباء أبو طه وخالد سليم وربى كيلة وإياد عيد وغيرهم. وطبعا اعتبر المشاركات والمشاركين في الدورة زميلات وزملاء سيسرني أن أعلم في المستقبل أن الدورة عادت عليهم بفائدة ما، وأي نجاح لهم يمثل أخبارا سارة بالنسبة إلي.
وتسنى لي أيضا أن ألتقي زميلتين كاتبتين في "عود الند". التقيت د. نادية أبو زاهر، التي قدمت لي نسخة من كتابها الأخير "دور النخبة السياسية الفلسطينية في تكوين رأس المال الاجتماعي". والتقيت أيضا الزميلة مرام أمان الله، التي كنت تعرفت إليها عام 2006 عندما شاركتْ في دورة حول البرامج الإذاعية الحوارية، ولها مساهمات عدة في المجلة. ومن محاسن الصدف أيضا أن جهان حلو كانت في رام الله في تلك الأيام، فتناولنا عصر الخميس غداء متأخرا بدعوة من مديرة مركز تطوير الإعلام، نبال ثوابتة.
خلال أيام الدورة الخمسة كنت أغادر الفندق الساعة الثامنة بسيارة تاكسي تنقلني إلى جامعة بيرزيت، وأعود إما مع شخص يعرض اصطحابي بسيارته إلى منطقة دوار المنارة، وحدث هذا مرتين، أو بركوب سيارات السرفيس ذات الركاب السبعة، وفعلت هذا ثلاث مرات. عندما أصل دوار المنارة أجول في السوق لأشتري بعض الطعام والفاكهة، وأعود سيرا إلى الفندق باستخدام المسار ذاته.
أثناء اليوم الرابع للدورة، استشهد المناضل الفلسطيني، زياد أبو عين، الوزير في الحكومة الفلسطينية. وكان يشارك في مسيرة سلمية أراد المشاركون فيها زرع غرسات الزيتون في منطقة ترمسعيا. عصر الأربعاء كان الوضع في منطقة دوار المنارة مختلفا عما عهدته في الأيام التي قبله نتيجة ما جرى، إذ كان الكثير من المحال مغلق الأبواب. أكملنا الدورة يوم الخميس، ولكن تم اختتامها مبكرا نتيجة الأجواء السائدة. وقد وضعت يافطة تحمل صورة الشهيد أبو عين على جدار مبنى داخل الجامعة قريب من بوابتها الغربية.
من الكرامة إلى رام الله
لرام الله الفضل في تحقيق لقاء اثنين من السكان السابقين لمخيم الكرامة في الأردن. دخل هذا المخيم التاريخ من أوسع أبوابه نتيجة تحوله في 21 آذار/مارس 1968 إلى ساحة معركة الكرامة التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي بعد أقل من سنة من نصره في عام 1967.
الكرامة مخيم للفلسطينيين الذي لجأوا إلى الأردن عام 1948، ويقع في منطقة الغور، وهي منطقة يمر عبرها نهر الأردن، وهي بالتالي منطقة زراعية. ولأنها من المناطق المنخفضة فهي شديدة الحرارة صيفا.
بيوت الكرامة كانت من طين، وبلا كهرباء حتى وقت ما من الستينيات. من معالم الكرامة الشهيرة المطعم (المطبخ) وسط المخيم، وهذا تابع لوكالة الغوث وكان يقدم الطعام مجانا؛ والصحية، وهي مركز صحي فيه أكثر من غرفة، وطبيب على الأقل. وكان في المخيم مدرسة للبنات، وثلاث مدارس إحداها للمرحلة الإعدادية (المتوسطة) تسمى مدرسة الميس.
وكان في الكرامة ناد فيه ملعب لكرة السلة، ومساحة تصلح للعب كرة القدم، ومجموعة من الغرف للرياضات المختلفة كرفع الأثقال.
ومن معالم الكرامة أيضا مخفر الشرطة ومقر إدارة المخيم ومركز المؤن الذي كان يوزع شهريا مواد تموينية تشمل الطحين والسمن ومواد أخرى، ويوزع من حين لآخر البقج (جمع بقجة). والبقجة تتكون من غطاء (كالبطانية) يوضع داخله ملابس. يفتح كل بقجته على أمل أن يكون فيها قطعة ملابس مناسبة لمقاس أحد أفراد العائلة.
جدار مركز المؤن كان يتحول من حين لآخر إلى شاشة عرض سينمائي في الهواء الطلق، حيث كانت الوكالة تأتي بفيلم عربي مع جهاز عرض، ويتجمع أهالي المخيم في الساحة لمشاهدة الفيلم.
مصدر المياه الرئيسي في مخيم الكرامة ماتور الجمعية، الذي أقيم لسحب الماء من بئر ليروي المزارع والناس. الجمعية كانت لمزارعين اشتروا قطعة أرض من أميرة أردنية، وتقاسم الأعضاء قطعة الأرض الكبيرة، وصار لكل عضو قطعة أرض للزراعة. مياه الماتور كانت مالحة، وكنا معتادين على شربها ونستغرب من عدم استساغة طعمها من الزوار القادمين إلى الكرامة من عمان مثلا.
قبل الغروب كان الماتور يشهد الإقبال على ملء الجرار والأواني بالماء، وكان بين الفتيات من تستطيع أن تحمل جرة مائلة مليئة بالماء على رأسها دون الحاجة إلى إمساكها باليدين.
"اقتصاد" مخيم الكرامة كان يعتمد على الزراعة، ومزارع أعضاء الجمعية التي أشرت إليها تزرع فيها الخضروات كالبندورة والباذنجان والكوسا، أو الفاكهة كالشمام والبطيخ. وتوجد في المزارع عادة عريشة للجلوس تحت ظلها أو العمل على تعبئة الخضراوات التي قطفت في صناديق خشبية يسمى الواحد منها بوكسة (تعريب وتأنيث لكلمة بوكس الإنجليزية) أو سحارة (صحارة). وتنقل هذه الصناديق إلى الحسبة، وتباع بالمزاد العلني: "ابن الحال يفتح الباب؛ على أونه على دويه على تري"، وتباع البضاعة.
وفي بعض المزارع والبيوت لا بد أن تجد دومة (سدرة)، وهي شجرة شوكية ولكن لها ثمار حلوة (دوم) حباتها صغيرة كروية مع نواة صلبة يمكن كسرها كما يكسر نوى (بذور) المشمش لنأكل ما داخله. دومة دار العتّال ربما كانت الدومة الأكبر في الكرامة.
وهناك أيضا أشجار النخيل، ومعظم البلح في المزارع التي تروى من مياه ماتور الجمعية كان من البلح الأصفر. وكثيرا ما كنت آكل البلح من نخلات مزرعة القرناوي، فالمزرعة كانت مجاورة لمزرعة والدي، وصاحبها صديقه، وابنه علي كان في صفي في المدرسة.
ولدت في الكرامة، ودرست في ثلاث من مدارسها. السنة الابتدائية الأولى والثانية كانتا في مدرسة يديرها أبو محمد النونة. والسنة الثالثة والرابعة كانت في مدرسة أخرى في الطرف الشمالي من الكرامة. وبعد ذلك انتقلت إلى مدرسة الميس التي كانت محاذية لواد كان مكان اللعب المحفوف بالمخاطر، فكله قفز وتسلق.
مزارع الكرامة تبدأ من نهاية المناطق التي بنيت عليها بيوت المخيم وتنتهي عند نهر الأردن الذي كان اسمه المتداول "الشريعة" (بتسكين الشين). قد تكون المسافة من بداية المزارع وحتى الشريعة حوالي كيلو متر أو أكثر، وكان الذهاب إلى الشريعة مغامرة، تتم دون إبلاغ الأهل.
بعد هزيمة 1967 بدأ يظهر في المخيم ما عرف بالفدائيين الذين كانوا يقومون بعمليات ضد القوات الإسرائيلية. تعرضت الكرامة إلى القصف أكثر من مرة، وتحولت منطقة الأغوار الشرقية حيث يقع المخيم إلى منطقة ساخنة. وبعد إحدى مرات القصف، غادرنا الكرامة لآخر مرة على الأرجح في أوائل عام 1968، وبالتأكيد قبل وقوع المعركة الشهيرة.
أرادت إسرائيل القضاء على العمل الفدائي باجتياح الكرامة، وقد عبر جنودها وآلياتها نهر الأردن، ولكنهم وجدوا الفدائيين والجيش الأردني في انتظارهم، فكانت معركة الكرامة اسما على مسمى، وأعادت المعركة الكثير من الكرامة التي فقدتها الدول العربية بسبب هزيمة 1967.
اضطرت القوات الإسرائيلية إلى ترك دبابات في ساحة المعركة، ونقلت هذه وعرضت في ساحة قرب مقر أمانة العاصمة القريب من المدرج الروماني في عمان.
ظلت الكرامة منطقة مهجورة بعد المعركة. عاد بعض المزارعين للعمل في مزارعهم، ولكن دون عودة كبرى للأهالي. ولأن بيوت المخيم لم تكن في حال تصلح للسكن، فقد تم هدم بيوت المخيم، وأعيد تخطيطه، وعرضت حوافز على الراغبين في العودة والبناء فيه. لكن الكرامة التي أعيد بناؤها وتخطيط مزارعها لم تعد تشبه صورة الكرامة المحفوظة في ذاكرتي واستطيع رسمها بشيء من التفصيل.
بعد مرور عقود، كانت رام الله مكان لقاء اثنين عاشا في بيوت المخيم الطينية وشربا من ماء ماتور الجمعية المالح، ودرسا بعض السنوات في مدارس الوكالة في الكرامة: كاتب هذه السطور وزهيرة زقطان، الفنانة والكاتبة، وهي ابنة الشاعر خليل زقطان الذي صدر له في أيام العيش في الكرامة ديوان عنوانه "صوت الجياع"، وهي أيضا شقيقة كل من الشاعر غسان زقطان وزهير ووضاح.
زهيرة زقطان كانت صديقة أختي اعتدال في الكرامة. وقد تواصلتا بالصدفة عبر فيسبوك أثناء وجودي في رام الله، وقاد هذا التواصل إلى ترتيب لقاء تم في بيتها، حيث تحدثنا عن الكرامة. إحدى غرف البيت تعد متحفا لمطرزات زهيرة الجميلة، وقد أهدتني أحد الأعمال المطرزة والمؤطرة، ونسخة من ديوان شقيقها غسان "لا شامة تدل أمي علي".
كانت زيارة قصيرة لأنها تمت أثناء الوقت المحدود المتبقي قبل حلول موعد بدء رحلة العودة. وكانت هذه الزيارة مسك ختام رحلة بدأت يوم جمعة وانتهت يوم جمعة. لم يكن بوسعي أن أخطط لرحلة أطول خلال ذلك الشهر، ولكني راغب في العودة.
= = = = =
= = =
Said, E. 1978. Orientalism. New York: Pantheon.
Farsoun, S. 2004. Customs and Culture of the Palestinians. Westport: Greenwood Press.
سعيد، إ. 1981. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية.
فرسون، س. 2004. عادات وثقافة الفلسطينيين. وستبورت: غرينوود برس.
◄ عدلي الهواري: بحوث ومقالات وقصص
▼ موضوعاتي
2 مشاركة منتدى
ولفي يا مسافر, إبراهيم يوسف - لبنان | 20 كانون الثاني (يناير) 2015 - 19:53 1
"ما لآحجاركَ صمّاً ... كلما هاجَ بىَ الشوقُ أبتْ أن تسمعا
كلما جئتكَ .. راجعتُ الصبا .. فأبتْ أيامُه أن ترجعا
قد يهونُ العمرُ إلاّ ساعةً ... و تهونُ الارضُ إلا موضعا"
شكراً على المشوار والتفاصيل الدقيقة المعبِّرة.. لكأنني كنت معك
ولفي يا مسافر, جليلة الخليع | 21 كانون الثاني (يناير) 2015 - 20:27 2
كانت الخطى معبدة بالحنين ، تبصم ذاكرتها وتسجل تاريخا جديدا ، تلتقطه بالصور وتسجل حروفها المزهوة بالفرح ، العابقة بالتاريخ ، الممهورة بالثقافة التي وقعتها أسماء فلسطينية عملاقة (حنا ميخائيل -إميل حبيبي -إدوارد سعيد)
كانت رام الله تضج بالحياة ، يسكنها النور، وتستقبلها الذاكرة بملفات جديدة مختومة بالعودة.
هي دورة ليست ككل الدورات، وإنما ببصمة جديدة بالتفاصيل الدقيقة منذ تلقي العرض إلى آخر حرف موصول بالعودة.
دام لك التألق والإبداع د.عدلي الهواري.وكل التوفيق في مهامك.
تقديري وودي.