زهرة يبرم - الجزائر
وتستمر الحياة
أيقظتها لسعة الفاقة بعد عمر من السبات لتكون آية على أنها ما زالت تتنفس، وأنها لا بد أن تبقى على قيد الحياة. ولأنها لا تعلم الغيب فقد غرقت في لجّ القدر.
كبيرة هي الحقيقة في صدر الأيام وفي حقل عقلها الذي صار مفتوحا لكل شيء. كم هي صغيرة وغريبة في هذه الدنيا. كأنما تخلت عنها الشمس وانقطع عنها الأوكسجين. فقد عاشت نصف حياتها الأول وهي تشتهي حياة مغايرة، وهي الآن آسفة على ضياع هذا النصف منها. لكن كيف يمكنها أن تستدرك نصفها الثاني كي لا تخسر حياتها كاملة؟
كان يومُها الأول مع أول وظيفة تَمْتَهِنُهَا في حياتها كلها كعاملة نظافة. وكانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا حين بدأت تختبر نفسها وتكتشف قدرتها على الإنجاز. تسكب الماء والمنظف وتفرك الأرضية بمكنسة، تفرك وتفرك. ثم تسحب المياه المتكدرة الداكنة إلى بالوعة، تسحب وتسحب.
وصارت الساعة السابعة وهي لا تزال تدعك وتدعك حتى خيل إليها أن ثيابها تعصر وتنتن من المياه الملوثة الكريهة، وظهرها يتكسر وأنها ستسقط من التعب والإرهاق. لكنّها تتحمّل لمجرد أنْ تتذكر أبناءها الأربعة وهم بلا معيل، من بينهم طفل أنهكه المرض.
وقت دوامها ينيف على الانتهاء وما زال من العمل جزء لم تكمله بعد، بينما زميلاتها يمررن بها وقد أنهين شغلهن وغيرن ملابسهن. أما هي فتنقصها الدُّربة.
"تعودي السرعة في إنجاز عملك. حين تنتهين تعالي إلى الكافتيريا لتناول إفطارك". وجهتها إحداهن.
بعض العمال بدأوا يفدون إلى مكاتبهم وهي لا تزال تبسط الممسحة على المفرك وتمد يديها به وتسحبه بحركات متعددة وسريعة. تُضَاعف من جهدها وتخلق من الضعف قوة رغم الألم المضني الذي ألم بكتفيها. تغالب الوقت المتبقي كي تنظف ما تبقى من مساحة.
وتسحب، لكن ثقلا فوق الممسحة أعاق عملية السحب. إنها رِجْلٌ بحذاء أسود لامع.
توقفت. جمدت أطرافها. تملكت الغربة والدهشة من شرايينها. سارعت دقات قلبها بينما طَرَفُها مرتكز على الحذاء الأسود اللامع.
رفعت بصرها تدريجيا تستكْنِهُ وجه صاحب القدم. بذلة جمركية أنيقة، ربطة عنق تتوسط ياقة قميص مكوي بعناية، لتنتهي الأناقة عند رأس يَكْشِفُ عن أنيابه.
لم تفسر الحالة إن كانت ابتسامة أم تكشيرة. إلا أنها صارت لا تؤمن بالابتسام، لتكن تكشيرة فقد ألفت تكشيرة الحياة.
دُسْ على خطوط حُطَامي. لمع حذاءك على قلبي المُعَنَّى وامض فقد صار قلبي خرقة بللها الزمن.
في الكافتيريا عدد من العمال والعاملات بعض منهم يرتدي الزي الجمركي الرسمي. في أقٌصى القاعة طاولة منزوية في ركن قرب نافذة، قصدتها وانزوت بنفسها. متعبة، متعبة من مسالك دروب الحيرة آتية. جاءها النادل بما طلبت، بينما سارعت إلى صفحات جريدة يومية وجدتها على الطاولة، وفتحت على صفحة الحظ.
عما تبحثين هناك؟ هل عما تقنعين به نفسك فيمنحك مزيدا من قبول حظك في الدنيا وأنه لا مفر؟ أم لترجوي الكلمات أن ترفق بك وأنت تقرئينها كلمة كلمة وسطرا سطرا؟ آه! لكأنما قد كتبت لأجلك. إنها تحكي لك عما عشته، وتنصحك بضرورة التصلب لمواجهة المصاعب. تصف لك السلاح الذي لا يخترق والذي يساعدك على ألاّ تغرقي.
* * * * *
جاءته شاكية حالها. عيناها خاويتان تتغرغران بالدمع، وقلبها منكسر تحتضر فيه الحياة:
"أبي لقد صرتُ و أطفالي بلا معيل".
"لله المعيل".
"ليلنا دامس وطريقنا طامس".
"أما من أخبار عنه؟
"لقد رميت طوبته أبي ويئست من عودته. يكاد يدور الحول على غيابه، فلو مات لأكلنا عزاءه وأكله الدود وارتحنا".
"الحقير".
"الذي صِرْتَ تنعته بالحقير أنتَ من اختاره لي زوجا ورغبني فيه إذ كنت له كارهة. وقد كان في نظرك يومها عريسا لقطة".
أدار وجهه للجهة الأخرى هربا من الحقيقة، من حزنها وحيرته.
"الفئران هجرت بيتي. دبرني أبي".
يصمت والحزن يعلو محياه. تفهم سر صمته وتدرك قلة حيله. فمعاشه لا يكفي من يعيشون تحت سقف بيته إلى آخر الشهر، فكيف له أن يضيف إلى عبئه أربعة أطفال وأمهم؟
تنهض متثاقلة يائسة: "لي ولك الله يا أبي. أرأيت لو تركتني ألتحق بمعهد الجمارك وأكمل دراستي؟ كان حلما لي فحَطَّمْتَهُ على صخر عنادك. وها أنا وأنت نقف على آثار ذلك. لم تنظر للعواقب فلم أسلم من النوائب".
كُلُّ الرجال خذلوها: أب وأخ وزوج. وها هي تشقى لتربي أربعة من الرجال.
سارت وقد صار قلبها كالليل مفتوحا على الآخر، مشرعا للهواجس والمخاوف والتهيؤات. جف قلبها بما ذرف من مطر، وغدا غير قادر على حجم الحيرة. أصبحت كوردة يانعة في أرض غار فيها الماء. كشتلة نخلة تتطلب كثيرا من الماء والهواء والنور كي تستقيم وتجزل في العطاء. لكنْ قُطع عنها كُل ذلك مجتمعا. وتزغرد روحها من هول الفراغ فتلعن زوجها بائع التحف.
انتقلت إلى بيته وهي تمني النفس أن تتوسد الأمان بين يديه. لم تكن تطمع من متاع الدنيا في غير الستر لمَّا رغبوا في تزويجها منه، ومنعوها من التعلم والعمل. سافر يسترزق بعد أن خسر تجارته لكنه لم يعد. هجرها وأولادَها الصغار، وتركهم يتلاطمون في بحر الحياة. لا حال يبقى على حاله.
* * * * *
انتبهت لنفسها حين جاء النادل ينظف الطاولة، فودعت المكان وهي تلعن الشيطان وبائع التحف. لم تعد إلى بيتها في ذلك اليوم، بل عرّجت على منزل والدها. وقفت أمامه لتنقل له خبر توظيفها:
"أنا أعمل في الجمارك يا أبي، لقد حققت حلمي".
قلب ناظريه فيها متعجبا: "لكن كيف؟"
"أعمل ماسحة بلاط يا أبي".
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ
6 مشاركة منتدى
وتستمر الحياة, ايناس ثابت اليمن | 26 كانون الثاني (يناير) 2015 - 22:11 1
حين يخذلها الجميع، وتخذل هي حلمها بلا أي مقاومة أو تمسك منها تكون النهاية ولاجدوى للحسرة بعدها.
قصة مؤلمة زهرة، حزنت لأجل بطلتها وتمنيت لو كنت أمامها ادلها على باب أمل.
شكرا للنص الجميل.
1. وتستمر الحياة, 29 كانون الثاني (يناير) 2015, 22:35, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
لا أحد يستطيع أن يهزم حلمك بداخلك، فقط أنت وحدك من تخذل ذاتك حين تفقد ثقتك بنفسك. والثقة بالنفس تتفاوت من شخص لآخر، وتتأثر بمواجهة الضغوطات والعراقيل الخارجية. وحين تتظافر هذه الأخيرة ضدك تفقدك الثقة فيصير حلمك كالمستحيل.
شكرا لمرورك الأجمل إيناس، وأعتذر منك عزيزتي أن جعلتك تحزنين وهذا دليل ما تحملين من رقة وحب وإنسانية.. دمت بخير..
وتستمر الحياة, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 27 كانون الثاني (يناير) 2015 - 16:13 2
أ/زهرة تحية طيبة وتقديري لما تكتبين وتتميز قصصك بسلاسة السرد والتشويق .شكرا لك
1. وتستمر الحياة, 30 كانون الثاني (يناير) 2015, 22:42, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
تحية خالصة أستاذة هدى أبو غنيمة
لك فائق الشكر والإمتنان للطف مرورك وهذا الإطراء الجميل الذي أسعدني.. حبي وتقديري.
وتستمر الحياة, مهند فوده - مصر | 28 كانون الثاني (يناير) 2015 - 11:49 3
رائعة جدا ا. زهرة.. سردك للقصة واختيارك للفلاش باك، اضاف لقصتك نوع من التشويق.. حزنت من اجل البطلة التي حاولت تحقيق حلمها ولكن ماسحة بلاط.. سلمت يداك
1. وتستمر الحياة, 30 كانون الثاني (يناير) 2015, 23:24, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
أ/ مهند فودة
أرى أن اشتغالها "ماسحة بلاط" هي خيبة أخرى تضاف إلى خيباتها المتعددة في الحياة وليست حلما يتحقق، ألا توافقني الرأي؟
كل الشكر والتقدير على مرورك السني وكلماتك العابقة التي أسعدتني.
وتستمر الحياة, رانيا كمال -مصر | 4 شباط (فبراير) 2015 - 14:47 4
رائعه كالعاده دمت مبدعه مع اطيب الامنيات بالتوفيق وفى انتظار المزيد
1. وتستمر الحياة, 4 شباط (فبراير) 2015, 22:57, ::::: زهرة يبرم /الجزائر
يقطر شهد الحضور من كلماتك القليلة صديقتي رانيا كمال
دمت رائعة غاليتي مع أصدق التحايا
وتستمر الحياة, محمد ابورياش | 10 شباط (فبراير) 2015 - 05:24 5
قصة مدهشة وحبكة متمكنة من قاصة خبيرة امسكت بناصية الحرف إبداعا وتلوينا يضج حركة وتفاعلا . قصة تصنف من سخريات الاقدار ان جاز التعبير اذ تحقق حلمها عكسيا فكان الالم أشد وأقسى .القصة فيها عظة وعبرة للآباء عند تزويج بناتهم وفيها تهكم وألم ممض على عالم الرجل ابا واخا وزوجا وفي نفس الوقت هناك أربعة رجال ينتظرون تضحيتها وجهادها فهل ياترى سيكونون مثل من سبقهم اب وأخ وزوج؟ قصة تحدث كل يوم وفي كل مكان لكن مبدعتنا استطاعت ان تنقل لنا نقلا فنيا جعلنا لا نغادر القصة الا وقد اتينا عليها كلها كلمة كلمة وحرفا حرفا. ولا غرابة في ذلك ممن استطاعت ادهاشنا وسوقنا سوقا لتذوق إبداعها .مزيدا من إبداعاتك لا حرمنا الله نور قلمك السيال.
1. وتستمر الحياة, 23 شباط (فبراير) 2015, 00:38, ::::: زهرة يبرم / الجزائر
م/محمد أبو رياش
التميز في القراءة عادة ما يفوق التميز في الكتابة.. وقد أحببت منك هذا الإطراء، فدعني أغتر بما قرأت من مداخلتك الطيبة هذه.. أرحب دوما بحضورك النقدي لنصوصي المتواضعة، وأنحني أمام لغتك السامقة، وأنوه بتسليطك الضوء على عناصر مهمة من النص.. لا حرمني الله من طلتك النقدية.. أحييك وأشكرك..
وتستمر الحياة, أشواق مليباري | 1 آذار (مارس) 2015 - 10:42 6
العزيزة زهرة
وتستمر الحياة رغم كل شيء
وفي أوطاننا العربية
لا حياة بغير هؤلاء الأمهات المضحيات
ولا تنتهي العذابات والآلام والتضحيات
وكأنها صفة وراثية تتناقلها الأجيال
أشكرك على النص المؤثر
سلم قلمك
ودمت مبدعة