عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 104: 2015/02 » رحلة في طلب الكُنافة النابلسيّة

د. سمير كتّاني - فلسطين

رحلة في طلب الكُنافة النابلسيّة


سمير كتانيكدت أغيب في نشوة مفعمة بالسّرور، ملأت قلبي وجوانحي بكلّ حبور، فغرقت في تأمّلي الرّوحانيّ متساميا، وكأنّي أحلّق في الفضاء عاليا، وقد استبدّ بي الحنين إليها، فدمعت عيناي خشوعا، واختلجت أنفاسي خضوعا.

الكنافة النّابلسيّة في طبق يزينه الفستق المبشور الأخضر، كأنّه بساط من العشب النّاعم، وقد سُقيت بالقطر فارتوت، وازدانت بحلّة حمراء قانية، اتّسق سطحها الأملس فجاء متجانسا، ورقّ قوامها فغدا هشّا، وانكسرت إحدى زوايا قطعة الكنافة ذات الشّكل الرّباعيّ لهشاشتها.

دمعت العين، وتسارعت الأنفاس، وخفق القلب شوقا إلى مثل هذا الطّبق. وقلت: لمثل هذا فليعمل العاملون، لكن أين الكنافة النّابلسيّة منّي وأنا أسكن في مكان لا يعرف لهذه الكنافة إلاّ اسما، ولا يرى لها في الصّور إلاّ رسما؟

لكنّني عزمت على ألاّ أترك فرصة للتّخاذل ينال منّي، فالحقّ أولى بأن يُتّبع، ولا أحقّ من قطعة

كنافة تُعمل فيها أسنانك برفق فتُذيبها، ثمّ تطلبها اللّهاة فتستسيغها، وسرعان ما تغور فيها بادئة رحلتها إلى ذلك الأنبوب الطّويل المسمّى المريء؛ فقرّرت الانطلاق بمركبتي إلى مدينة الكنافة، أعني مدينة نابلس، رغم بعدها عن مكان سُكناي.

استغرقت الرّحلة إلى مدينة نابلس حوالي ساعة زمنيّة، منّيت نفسي خلالها بأرقّ قطعة كنافة، وكنت شاهدت إشهارا تجاريّا لأحد محلاّت بيع الكنافة، يدعى "حلويات الشّرق"(*)، وقلت: أذهب إلى الشرق أو إلى الغرب وأذوق الكنافة.

كنت أدوس على دوّاسة البنزين بشدّة كلّما شعرت بنفاد صبري عن بلوغ المكان، لكنّني عانيت الأمرّين من ازدحام مروريّ على مشارف المدينة الموعودة، فتذرّعت بفضل الصّبر، وتغنّيت بقول القائل:

سأصبر حتّى يعجز الصّبر عن صبري = = = وسأصبر حتّى يأذن الله في أمري

وبعد صولات وجولات، وصلت المدينة الموعودة الّتي ارتبط اسمها بالكنافة ارتباطا وثيقا، ورحت أدفع بمركبتي في شوارعها المكتظّة بالسّيّارات، لكنّي كنت أحمد الله في سرّي طيلة الوقت منذ وصولي إلى مشارف المدينة، فهذه المدينة التّاريخيّة لا تفصلها عن مكان سكناي إلاّ ساعة سفر بالسّيّارة، وتساءلت: ماذا يصنع من يسكن في بلاد الغرب إذا ما أرادوا تذوّق "حلويات الشرق"؟ ثمّ تنهّدت مبتسما شاعرا بالغبطة.

وصلت إلى موقف للسّيّارات غير بعيد من السّوق المركزيّة الشّعبيّة في نابلس، فركنت سيّارتي هناك، وشددت الرّحال مترجّلا أتفقّد المحلاّت المصطفة من على يمين ويسار الأزقّة الّتي تخترق السّوق من جميع الجهات.

وكمن يبحث عن مكتب مشهور يقع في بناية فخمة في حيّ معروف، صرت أسأل المارّة وأرباب الحوانيت إن كانوا يعرفون "حلويات الشرق" وأين يقع، فأجاب غالبيّة من سألتهم بالإيجاب، ووجّهوني نحو المكان.

قطعت الأزقّة المتقاطعة يمينا وشمالا، مررت بباعة القرشلّة النّابلسيّة، وبمحلاّت الخضار المنتشرة بشدّة، وبمحلاّت اللّحوم والقصّابين المتناثرة هنا وهناك، رأيت رؤوسا قد تطايرت كانت مركّبة على جثث خراف قبل أن تنفصل عنها، وقد تدلّت ألسنتها ذابلة، وعلّقت على خطاطيف انتظمت فيها انتظاما، ووضعت في أوانٍ بلاستيكيّة واسعة كروش تكوّمت طبقاتها فوق بعضها البعض، تصالبت فوقها أكارع وأطراف قطّعت ووضعت على هذه الصّورة، أمّا الرّائحة المنبعثة من هذا الزّقاق فكانت رائحة تورث الهمّ وتجلب الغمّ، تبعد كلّ البعد عن أريج الزّهر وريح العطر، كادت تصيبني بالغثيان، لكنّي سددت أنفي بيدي أحثّ الخطو نحو "حلويات الشرق".

استعجلت المشي في هذا الزّقاق تحديدا، حتّى انعطفت إلى زقاق ضيّق جدّا يتّجه يمينا، وإذا هناك ساحة صغيرة تحيط بدكّان صغير، انتظم على جانبيه أنبوبان للمجاري برتقاليا اللون، كانا ناتئين عن الجدار، تسيل من أحدهما قطرات من سائل غامق، وكانت علّقت فوق مدخل الدّكّان الصّغير يافطة كتب عليها بخط اليد عبارة "حلويات الشرق".

رأيت حوالي عشرة أشخاص واقفين خارج الدّكّان، يحمل كلّ منهم شيئا منهمكا في النّظر إليه وتقريب وجهه منه، ولمّا اقتربت منهم وجدت أنّ كلاّ منهم يحمل طبقا فيه قطعة من الكنافة يلتهمها التهاما بواسطة شوكة في يده.

كنافةأَنساني منظر أطباق الكنافة الزّاهية مشهد أنابيب المجاري، فغاب هذا الأخير عن بالي كليّا، واقتربت من مدخل الدّكّان، فإذا هناك برجل سمين واقف يُعمل أداة قاطعة في جام من الكنافة، بقي فيه آخره فقط، وقد راح يقطّع ما تبقّى إلى أشكال رباعيّة يضعها في أطباق تقدّم للزّبائن المتكوّمين فوق الجامّ يستحثّون الرّجل لإعطائهم حصصهم من الكنافة.

لم أتمكّن من رؤية وجه الرّجل، أو قل إنّي لم أر أيّ أهمّيّة في النّظر في وجهه والتّأمّل فيه، فنور الكنافة غمر وجهي فلم أتبيّن معه شيئا آخر، وكان مرأى الكنافة يكفيني ويرضيني.

كاد أملي يخيب، فقد خيّل إليّ أنّي قطعت المسافات الشّاسعة من أجل أن أجرّب طعم كنافة "حلويات الشرق" هباء، لأنّه لن يتبقى شيء في الجام بعد اجتماع هؤلاء النّفر من النّاس يتكالبون عليه بلا اصطبار.

غير أنّ الصّبيّ الّذي يوصل الأطباق إلى طاولات الزّبائن رآني كاسف البال أوشك على الخروج من المكان يائسا، فتوجّه إليّ وقال لي: اجلس يا سيّدي إلى هذه الطّاولة، سأرتّب المكان وسآتيك بطبق من الجامّ الجديد الّذي يوشك على النّضوج.

وفعلا، مسح الصّبيّ الطّاولة الّتي قادني إليها، وجلست أنتظر. انتظرت حوالي خمس دقائق، فإذا به يحمل طبقا من الكنافة يتصاعد منه الدّخان، فقد كان قد خرج من النّار لتوّه.

الله! ما أجمل أن يكون بين يديك قطعة من الكنافة السّاخنة المحشوّة بالجبن المطّاطيّ! وما أجمل الشّعور حين تُعمل أسنانك الحادّة في ذلك النّسيج الكنافيّ النّاعم، فينساب برقّة وسرعة إلى داخل فيك!

لم أتردّد في إعمال عضلات فكّيّ في قطعة الكنافة، وما كدت أبدأ في استعراض مواهبي في التّعامل مع هذا الصّنف الأثير لديّ من الحلوى حتّى استوفيته، فطلبت من الصّبيّ الّذي كان مشغولا بطلبات الزّبائن يصول ويجول بين الجامّ وأماكن الجلوس إحضار طبق آخر من الكنافة. فما تردّد الأخ وما تأخر، فوافاني بواحد جديد، أسرعت بالتهامه.

ولأوّل مرّة انتبهت إلى من يشغل الطّاولة المجاورة لي، فقد كان صبيّا أسمر اللّون، ضعيف البنية، يحمل طبق كنافة، يدخل ما فيه إلى فمه بسرعة، وقد شرد لبّه، وحطّت ذبابتان على وجهه، إحداهما كانت قريبة جدا من فيه، فراح يحرّك يده الّتي تحمل الشّوكة كي يطرد الذّبابة، وكأنّ الذّبابة كانت ألفته فلم تكن تبتعد عنه كثيرا، بل حطّت على شفته، وصار يلعق شفتيه بلسانه، وربّما تلامس لسانه بالذّبابة.

أصابني شعور بالغثيان تزامن مع شعوري بالامتلاء، فنهضت أريد دفع الحساب والخروج، ولمّا اقتربت من الرّجل السّمين الّذي كان مشغولا بصنع الكنافة وبتقطيعها ووضعها في الأطباق، دقّقت النّظر في وجهه، فقد كانت تغشاه بقع من الكلَف ذات لون أبيض، وكأنّ جلد وجهه قد تقشّر في مواضع منه، وكان وجهه مستطيلا، وذقنه ملتوية إلى اليسار، ثمّ حانت منّي التفاتة إلى أصابع يده، فقد كانت مرقّطة بسمات البُهاق، وكانت ملابسه متّسخة عليها بقع ملوّنة بألوان الطيف.

ولم يكن الذّباب يشعر بالغربة عن جام الرّجل، فقد كان يتراقص فوقه بخفّة ومرونة، ولم يكن الرّجل يكترث له أيّ اكتراث، فقد انشغل في تقطيع الكنافة ووضع القطع منها في أطباق يأخذها صبيّه إلى الزّبائن، وكلّما حرّك يده حاملا المقطعة تطاير الذّباب من جهة إلى أخرى. وكأنّ الرّجل عضو في جمعيّة الرّفق بالحشرات، كان لا يضنّ على ذبابه بشيء من رزق الله.

فقدت صوابي. هل يعقل أني أكلت ممّا عملته يدا هذا الرّجل؟ ولأول مرة منذ وطئت قدماي المكان ورأيت مشهد أنابيب المجاري، انتبهت إلى رائحة المجاري التي تفوح في المكان. كما انتبهت إلى بقع رماديّة ملتصقة بالطّبق الزّجاجيّ. وانتبهت لأوّل مرّة إلى أنّ الطّبق ليس للاستعمال لمرّة واحدة كسائر الأطباق البلاستيكيّة الّتي تستخدم هذه الأيّام في محلاّت الأكل السّريع ومحلاّت الحلوى، بل هو طبق زجاجيّ معدّ لاستعمالات متعدّدة، كما انتبهت أيضا إلى أنّ الشّوكة من معدن وليست شوكة بلاستيكية، ما يعني أنّها دخلت إلى أفواه أناس كُثر من صنوف شتّى، وأنّها في سبيلها إلى دخول تجاويف هضميّة أخرى.

وحانت منّي التفاتة إلى الغلام، فرأيته يفتح صنبور المياه بشيء من اللّامبالاة لينظّف الشّوك والأطباق دون استخدام أيّ مادة معقّمة أو أيّ صابون.

* * * * *

بعد يومين، أخبرت صاحبي عن فخامة محلّ "حلويات الشرق"، فسألني: وهل المكان نظيف؟

أجبت: قطعا. وهل تكون الحلوى حُلوة دون أن تتمتّع عيناك بنظافة المكان؟

سأل: وكيف معاملة صاحب المحلّ؟

فأجبت: الرّجل صبوح الوجه، دمث الخلق، مشرق المحيّا، بهيّ الطّلعة، نظيف الثّوب. تفوح من دكّانه أطيب الرّوائح، وكأنّها المسك الأذفر أو الورد والعنبر.

سأل: هل تنصحني بزيارة المحلّ؟

قلت متهرّبا ونظراتي تتجنّب مواجهة نظراته: نعم، بلا شكّ، فأنا لا أرتاد إلاّ أفضل الأماكن. ثمّ تنهّدت ونظرت إليه قائلا: لكن على أيّ حال، أنصحك بعدم الإكثار من أكل الحلويّات.

ودّعت صاحبي آملا ألاّ يعرف معاناتي مع الكنافة فيكشف ما مرّ بي فيضحك منّي، فربّ خفاء حفظ سرّا، وحاجة وجدت على السّتر عذرا.

* * * * *

في المنام، رأيتني أنتقل من زقاق إلى زقاق، ومن شارع إلى شارع، أدخل إلى دكّان وأخرج من دكّان. وكنت بعدها أمتطي ظهر حمارة كُميت، شُدّت بلجام جلديّ بنيّ اللّون يتناسب مع لونها.

رؤوس خراف معلّقة على خطاطيف، وألسنة تتدلّى من أفواهها.

صبيّ أسمر اللّون، وذبابتان تحوّمان حول وجنتيه المبقّعتين بآثار طعام.

رائحة المجاري تملأ المكان، وأنبوبان برتقاليّان يحيطان بمبنى يفيضان سائلا غامقا.

رجل رثّ الهيئة متّسخ الثياب يصنع أشكالا رباعيّة.

ولون زاهٍ تحيط به هالة من النّور يشعّ من طبق، كان النّور يصدر من قطعة مربّعة من كنافة نابلسيّة، انكسرت إحدى زواياها لهشاشتها.

= = = = =

*ملاحظة: تمّ اختيار اسم "حلويات الشّرق" بصورة عشوائيّة بحتة، ونعتذر عن أيّ تشابه في الاسماء قد يحصل دون قصد منّا.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2015     A سمير كتاني     C 3 تعليقات

2 مشاركة منتدى

  • د. سمير كتاني – فلسطين

    وأنا أقرأ الموضوع ونظري يسرع ويطوي الكلمات، غزتني سخرية الخطاب في أدب المازني وهذه القريحة الخصبة وشهوة الحوامل في الأشهر الأولى، ومختلف التفاصيل الدقيقة الأخرى.

    أنا شديد الحرص على عدم استخدام مفردة "إبداع" كيفما اتفق.. لكنني هذه المرة سأتجاوز قناعتي لأقول: هذه صورة حقيقية من صور المدارس النقدية، وهذا هو الإبداع بعينه.

    شكرا جزيلاً على هذا النص المثقل بحلاوة ودماثة وطلاوة وروعة وسلاسة التعبير، وكفاءة (Mr.Bean) يحصل دائماً على ما يريد.. وأخيراً باقة زهر عطرة من كل الألوان قليلة عليك يا سيدي.


  • والله روعة..لحلاوة وصفك انا اشتهيت الكنافة ..وانا احب المقبلات جدا و اكثر من الطعام نفسه الا ان حادثه مشابهة جعلتني لا اكلها من اي مكان وفي اي مكان. حيث كنت التزم بالطابور الطويل امام محل للمقبلات ذو سمعة عالية ومكان نظيف راقي واذا بذبابة تسقط عرضا في احدى الحلل فما كان من العامل الواقف والذي يلبس انظف الثياب الا ان ينقذها من غرقها في الحمص بطحينة بطرفي اصبعه ويلقيها على الارض .فعدت فورا تاركة مكاني بكل الحب لمن يقف بعدي و من يومها لم اذهب الى هذا المكان و بدأت ادقق النظر كثيرا في الطعام الذي اشتريه .كان حظي احسن من حظك بالتأكيد لان ماحدث لي قبل الطعام لابعده.
    وصف رائع تمثل في تصوير حركي مشوبا بسخرية مضمنه تبكي وتضحك في نفس الوقت في هذين السطرين "وكلّما حرّك يده حاملا المقطعة تطاير الذّباب من جهة إلى أخرى. وكأنّ الرّجل عضو في جمعيّة الرّفق بالحشرات، كان لا يضنّ على ذبابه بشيء من رزق الله".


في العدد نفسه

كلمة العدد 104: الفقر والعدالة الاجتماعية

العربية الفصحى واللغة الثالثة

المواطنة بين الدين والعلمانية: لبنان نموذجا

الشعراء الجدد: ظاهرة إعلامية وصوتية؟

انزياح "الغريب" من خلال الممارسة النحتية لمارك بولياي