عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 
أنت في : الغلاف » أرشيف أعداد عـود الـنـد » الأعداد الشهرية: 01-120 » السنة 9: 96-107 » العدد 104: 2015/02 » كلمة العدد 104: الفقر والعدالة الاجتماعية

عدلي الهواري

كلمة العدد 104: الفقر والعدالة الاجتماعية


عدلي الهواري 2014"الفقر ليس عيبا" قول شائع وصحيح، فلا أحد يختار أن يكون فقيرا. ولا أظن أن هناك فقيرا لا يسعى إلى تحسين أوضاعه ليصبح قادرا على تغيير المسكن، أو تعليم الأبناء والبنات، أو توفير العناية الصحية اللازمة وفي وقتها لأفراد العائلة، أو كل ذلك وأكثر. وقد ينجح فقير ما في تغيير أحواله فيصبح لديه الكثير من المال والممتلكات، وينتقل إلى طبقة الأثرياء.

يناقش ديفيد دونيسون مسألة الفقر وسبل معالجتها في كتاب عنوانه "سياسة الفقر" (The Politics of Poverty)، ويخلص إلى تعريف الفقر بأنه "مستوى معيشة منخفض جدا إلى حد يستبعد الناس من المجتمع الذي يعيشون فيه". وللخروج من الفقر، يوصي دونيسون بأن يكون للناس "دخل يمكنهم من المشاركة في حياة المجتمع"(1).

يمكن القول إن التعريف فضفاض إلى حد ما، ولكن أهميته تكمن في ربط دونيسون بين الفقر والإقصاء، فالفقير مضطر لتركيز جهوده واهتمامه على تأمين الحاجات الأساسية لنفسه وعائلته، ولا يبقى لديه وقت أو اهتمام بالشؤون المختلفة في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أن الفقراء لا يعود مرغوبا في وجودهم في أحياء أو وظائف أو جامعات معينة، فيكون الإقصاء متعمدا.

مكافحة الفقر، وما يترتب عليه من تهميش وتدهور في الأوضاع الاجتماعية التي يمكن أن ينتج عنها زيادة في معدلات الجريمة، المنظم منها والفردي، كانت دائما محل جدل بين أنصار العدالة الاجتماعية وأنصار حرية الأسواق.

أنصار العدالة الاجتماعية فكروا بإجراءات مثل توزيع الثروة من خلال الضريبة المتدرجة، التي تزيد نسبتها حسب زيادة الدخل. أما أنصار وجهة النظر الأخرى التي تعتبر أن الفرد مسؤول عنه فقره وغناه، فحجتهم كانت ولا تزال أن خلق الثروة أفضل من توزيعها.

وركز أنصار العدالة الاجتماعية على دور الدولة في تقديم الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والسكن، بينما كان أنصار الحجة الأخرى يرون أن الدولة عقبة في الطريق. وكان يقارن دائما بين أداء المؤسسات الخاصة وتلك التي تملكها الدولة، وكانت المقارنة تبدو في صالح المؤسسات الخاصة دائما، من ناحية عدد الموظفين وسرعة الإنجاز على سبيل المثال.

طغت فكرة خلق الثروة في الثمانينيات والتسعينيات، وزحفت عقلية خصخصة المؤسسات العامة، فتخلت الدولة عن ملكيتها لمؤسسات القطاع العام من ماء وكهرباء ومواصلات وخلافه. وأصبحت الدول، النامي منها خاصة، تسعى إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، مع الترويج في هذا السياق لرخص الأيدي العاملة فيها.

وفي سياق إفساح المجال أمام القطاع الخاص ليمارس أعماله كما يرى مناسبا، تراجعت حقوق العمال والموظفين، وألغي الاعتراف بالنقابات التي تمثلهم في الكثير من الشركات، ولم تعد هذه تهتم بمراعاة الظروف الشخصية والعائلية التي تجعل المرء يحتاج لأن يعمل وفق ترتيبات فيها بعض المرونة.

والأدلة كثيرة هذه الأيام، لمن يرغب في البحث عنها، بخصوص فتح المجال واسعا أمام استغلال الأيدي العاملة، وإرغامها على العمل في ظروف لا تحترم الحقوق الأساسية التي ينبغي للعاملات والعاملين التمتع بها، من قبيل العمل ساعات محددة يوميا وأسبوعيا، والحصول على عطلة أسبوعية وإجازة سنوية، والعمل مقابل أجور عادلة.

ومن نتائج خصخصة المؤسسات العامة الاستغناء عن أعداد كبيرة من العاملات والعاملين. والتقدم التقني يسهم كثيرا منذ سنوات في الاستغناء عن البشر، وخاصة في المصانع وخطوط الإنتاج. وعندما يضاف إلى ذلك أن الدول العربية فيها نسبة مواليد عالية، ونصف المجتمع أو أكثر يصنف ضمن فئة الشباب، لا غرابة أن البطالة في الدول النامية وبينها العربية أعلى بكثير من الدول المتقدمة الثرية، والهوة بين الفقراء والأغنياء زادت اتساعا.

كان ولا يزال هناك تمجيد في الإعلام الغربي لمن يوصف بـ "انترابرينور" (entrepreneur) ، أي الشخص الذي لديه حس المبادرة والقدرة على تأسيس وإدارة مشاريع يجني منها الأرباح. وحاليا، يتم التركيز على الترويج لفكرة الشركات الناشئة (ستارت اب::startup) في مجال تطبيقات الحاسوب والهواتف الذكية كمفتاح للدخول إلى عالم النجاح والتحول إلى شركة ناجحة تبيع بالمليارات مثل أبل وزميلاتها.

ومع أن وسائل الإعلام تسلط الضوء على قصص النجاح في هذا المجال، ويتم تصوير هذه المسارات كطرق سحرية إلى النجاح، إلا أن جدواها محدودة. بعض الأشخاص سوف يحالفهم الحظ، وتنجح مبادراتهم، ولكن الأغلبية لن تنجح لأن الميدان المرغوب يكون مزدحما ومشبعا. وقد يخسر كثيرون ما استثمروه، فينضمون إلى صفوف العاطلين عن العمل، بل إلى الغارقين في الديون.

الاعتقاد بأن الدرب إلى عيش أفضل يتم عن طريق واحد أو اثنين ليس جديدا، ففي الولايات المتحدة حيث عانى الأميركيون الأفارقة من التمييز والفصل العنصري، أصبح الكثير منهم يركز على الرياضة أو الغناء كمفتاح للخروج من أسر الفقر والانتقال إلى عالم الثروة.

وبينت شخصيات أميركية-أفريقية، في حينه، مثل جيسي جاكسون، خطأ هذا الأسلوب، وأكدوا على أهمية دخول كل المجالات كالمحاماة والطب والتعليم وخلافه، فعالما الرياضة والغناء لن يستوعبا كل الأميركيين الأفارقة الساعين إلى الخروج من أوضاعهم الاجتماعية الصعبة.

ولا يمكن لعجلة الحياة أن تدور في أي مجتمع بدون السائق والخباز والمزارع والسباك وصاحب الدكان الصغير وعامل النظافة وغير ذلك من عاملات وعاملين في مجالات عديدة. هؤلاء أيضا يسعون إلى مستوى معيشي معقول، ويستحقون ذلك طبعا.

لا اعتراض لي على مبدأ خلق الثروة، أو على الحق في التمتع بها لمن ينجح في جنيها بجهوده ودون أن ينطوي جمع الثروة على استغلال المنصب أو جهود الآخرين أو الاحتكار أو التضييق على المنافسة.

ولكن في رأيي أن مفهوم خلق الثروة بالشكل الذي مورس ويمارس حتى الآن، أي ترك الأمور الاقتصادية للأسواق والقطاع الخاص، غير قادر على حل المشكلات الاجتماعية التي بدأت تزيد في الدول الغربية وتفاقمت في الدول العربية. لا يعقل ألا تكون هناك صلة بين التدهور في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لأعداد كبيرة من الناس وبين الظواهر السلبية التي شهدتها وتشهدها الدول العربية.

هناك تقارير تتحدث عن أن الثروة بدأت تتركز في أيدي قليلة في مختلف أنحاء العالم، وبالتالي خلق الثروة ليس جهدا تقوم به الدولة فينتفع منها عدد كبير من الناس، بل ثروة تخلق بجهود أفراد أثرياء لتزيد ثروتهم، وينتفع منها عدد محدود من الناس. ويمكن الرجوع إلى تقرير صادر عن منظمة أوكسفام في عام 2014، وهو يشير إلى أن نصف ثروة العالم تقريبا يملكها ما يعادل نسبة واحد في المئة (1%) من سكان العالم(2).

ومن مظاهر ما جرى أن أصحاب المال صاروا أصحاب قرار في المجال السياسي، إما من خلال تحالف مع الطبقة الحاكمة، أو تولي الحكم باستخدام المال، ضمن ظاهرة تعرف الآن بالمال السياسي.

وأعود إلى دونيسون الذي يولي أهمية لعيش الناس في مستوى يضمن لهم أن يعاملهم "المسؤولون الرسميون والأطباء والأساتذة وأصحاب البيوت المستأجرة وغيرهم بالاحترام الذي يعامل به أفراد المجتمع الآخرون"(3). ويذكر مجموعة من المقاييس أو المؤشرات التي يعنى تحققها الخروج من دائرة الفقر، وهي تشمل ما يلي:

"أن يحصل الإنسان على الغذاء اللازم؛ وأن يكون الملبس معقولا ويمكّن من الحفاظ على احترام الذات والذهاب إلى المقابلات المتعلقة بالعمل بثقة؛ وأن يكون المنزل دافئا؛ وأن تكون ملابس الأبناء والبنات على درجة حسنة من الجودة؛ وأن تكون العائلات قادرة على زيارة الأقارب، وتقديم هدايا لهم في أعياد ميلادهم والأعياد؛ وقراءة الصحف؛ وامتلاك جهاز تلفزيون، والاحتفاظ بالعضوية في النقابات والكنائس"(4).

وبالنظر إلى أن كتاب دونيسون صدر قبل انتشار الحاسوب والإنترنت، من المنطقي والواقعي أن يضاف إلى هذه المؤشرات جهاز حاسوب وخدمة إنترنت لتعدد استخداماتهما التي تشمل تقديم طلبات عمل، والقيام بمعاملات رسمية، ودفع الفواتير، والتعلم عن بعد، والحصول على المعلومات.

في عام 2010، ضرب هاييتي زلزال أسفر عن مقتل عدد كبير من الناس لا يقل عن مئة ألف حسب أقل التقديرات، وأسفر أيضا عن تدمير أعداد كبيرة من المباني وتشريد ثلاثة ملايين إنسان. وردا على سؤال عن الدروس المستخلصة من التعامل مع كارثة هاييتي، يقول بول فارمر، وهو طبيب وبروفسور في جامعة هارفرد الأميركية إن "أحد الدروس هو أن عليك إعادة بناء القطاع العام وجعله أقوى. الموارد يجب أن توجه إلى القطاع العام، وليس فقط إلى المنظمات غير الحكومية"(5).

الخلاصة إذن هي أن هناك حاجة ماسة لإعادة النظر في المفاهيم التي طغت خلال العقود الثلاثة الماضية، أو نحو ذلك، وبدء رد الاعتبار لأفكار جربت وكانت مجدية في وقتها، ولكن تم الاستغناء عنها لأن البدائل التي طرحت، كالخصخصة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، ستكون أنجع، وقادرة على تحقيق نتائج أفضل، ولكننا نعرف الآن أن الأمر ليس كذلك.

وسيكون على درجة عالية من الحكمة وبعد النظر من يعيد ترتيب الأولويات بحيث تكون للعدالة الاجتماعية الأولوية الأولى، فتحقيقها سيؤدي إلى حل المشكلات التي تزعزع استقرار المجتمعات.

= = = = =

الهوامش

(1) David Donnison, D. The Politics of Poverty. (Oxford: Martin Robertson, 1982, p. 7.

(2) Fuentes-Nieva, R. and Galasso, N. Working for the Few: Political Capture and Economic Inequality. (Oxfam: Oxfam Briefing Paper, 2014). [Online]. Available athttp://www.oxfam.org/sites/www.oxfam.org/files/bp-working-for-few-political-capture-economic-inequality-200114-summ-en.pdf [Accessed 14 January 2015]. [Accessed 14 January 2015].

(3) Donnison, p. 8.

(4) Ibid.

(5) Paul Farmer, "10 Questions", Time, 13 May 2013, p. 56.

D 25 كانون الثاني (يناير) 2015     A عدلي الهواري     C 5 تعليقات

5 مشاركة منتدى

  • ما زالت عود الند تواصل حضورها الفاعل في مسارات ثقافية شتى، كل عدد والمجلة وكتابها وقرّائها بألف ألف خير وتألق


  • تحية طيبة د.موضوع هام جدا شأنك في كل ماتطرحه من مواضيع في الافتتاحية .أعتقد أن الفقر في العالم العربي تدبير سياسي وقيل عقود ناقش عالمان في كتاب ثقافة الجوع ثقافة الندرة من سلسلة عالم المعرفة أثر سياسة الدول الرأسمالية في التسلط على مقدرات العالم الثالث وثرواته الطبيعية للنهوض باقتصاد العالم الغربي وهوغربان وليس غربا واحدا وكأن العالم سفينة تيتانيك فحين تتكاثر الأزمات الاقتصادية يكون المرشح للنجاة هم الأثرياء ويغرق الفقراء الأقل حظا .بالإضافة إلى الفساد وسوء توزيع الثروة وأثر الاضطرابات والحروب الأهلية وأفضال البنك الدولي .شكرا لك وعذرا للإطالة.


  • د عدلى مع كل عدد تطالعنا بموضوع هام لا تكتفى بعرض وجهة نظر حضرتك ولكن تعرض وجهات نظر مختلفة وتستشهد بمراجع متخصصة مما يثرى الموضوع ويغطيه من كل الجوانب والعدالة الاجتماعية حاضرة قولًا غائبًا فعلًا فى المجتمعات النامية والمتقدمة على السواء وتزاوج السلطة والمال آفة كل مجتمع ويزداد الفقير فقرًا ويزداد الثرى ثراءً...وتبقى مقولة لو كان الفقر رجلًا لقتلته حاضرة ...تحياتى وتقديرى


  • حيث يوجد الفقر فلا عدالة اجتماعية ابدا و برأيي الفقراء عصب الحياة للاغنياء و العجيب ان الجميع مجند لخدمة فئة معينة تزيد بمقدار اقل من الفئة الخادمة و بالتالي تستحوذ على افضل الخدمات وارخصها .نادرا ماصادفت فقيرا استطاع بعد تعب سنوات ان يصبح غنيا (في العالم العربي) غنيا اقصد الى درجة عدم القلق على وجود سقف كملك صرف له او حساب في البنك يغطي تكاليف عملية جراحية طارئة في مستشفى غيرحكومي يجنبه مذلة الانتظار البغيض .مادام الفقير بالكاد يسد رمقه ففي احسن الاحوال بعد ان تتحسن انه يستطيع ضمان طعام الغد لاولاده وليس الشهر القادم مثلا.لولا الفقر لماكان الاتجار بالبشر والدعارةوالذي بلغ معدل مايدره سنويااعلى مما تدره مهنة اخرى.اماالفقر في بلاد الربيع العربي و في عراقي انا ففقر من نوع الاتجاه العكسي فربما تبيت مالكاً لبيتك وسيارتك و راتبك الحكومي و تصبح بعد ايام مخطوفاً أو لاجئا او نازحا في احسن الاحوال.


  • موضوع الفقر والعداله الاجتماعيه موضوع مهم جدا وخاصه مع تدهور الظروف الاقتصاديه حضرتك عرضت الموضوع بطريقه شيقه جدا وانا فى النهايه مع حضرتك فى اننا فى حاجة ماسة لإعادة النظر في المفاهيم
    دمت مبدعا دكتور عدلى مع اطيب الامنيات بالتوفيق


في العدد نفسه

العربية الفصحى واللغة الثالثة

المواطنة بين الدين والعلمانية: لبنان نموذجا

الشعراء الجدد: ظاهرة إعلامية وصوتية؟

انزياح "الغريب" من خلال الممارسة النحتية لمارك بولياي

حوار: غزة في قصص مترجمة إلى الإنجليزية