المهدي كرومي - المغرب
المشاء
عشت مشاء منذ نعومة أظفاري، في مدينتي من الجنوب الشرقي، كانت لي جولات وجولات في حارتنا القديمة، وفي الغابة التي تجاورها، وتحت عند منحدر الوادي المحاذي لقصرنا.
وانطلاقا من هذا المنظور، تراني لا أقول عشت عمرا، ولكن يمكن القول مشيت عمرا، فعلا كان ذلك بالتمام والكمال، إذا ما اكتشفت أنني أربعينيا، أو يزيد.
أضف هذا إلى عمر المدرسة، التي قضيت فيها ما قضيت، على عمر الإعدادي والثانوي، ثم الجامعي والتعليم العالي، وتخرجت وبدأت أشتغل، وكان محل توظيفي هو مدينتنا، التي لا تبعد عن القرية التي كنا نسكنها إلا قليلا من الوقت.
كان جل الوقت الذي أقضيه، في الذهاب والإياب، من المنزل إلى المدرسة، ومن المنزل إلى الإعدادية، ومن المنزل إلى الثانوية، ومن الجامعة إلى الحي الجامعي، وقبل ذلك من المنزل إلى الكتاب، وبعد ذلك من المنزل الذي اكتريته مع زملاء التعليم العالي، إلى المكتبة. كان مشيا على الأقدام.
لم تغن عني شيئا الوظيفة التي كنت أزاولها، حيث مقدار ما كنت أتقاضاه، يسمن ويغني فقط في حدود الأكل والشرب، وبعض الكساء الجديد.
ومن حسن حظي الجميل الذي فتح لي باب الحياة على مصراعيه، أن الأسرة كانت تملك بيتا، وفي هذا البيت بعض الخلاء، يسمى حديقة. عند التفكير في الزواج، تداول مجلس الأسرة، في المسألة، واتخذ القرار في بناء حجرة خارجية تجمعني مع فارسة الأحلام.
في هذا الزواج المبارك، كنت أيضا بطلا كبيرا في المشي، ومعي في الحقيقة بعض المشاءين، وما أكثر المشاءين في بلدي!
بعد الابن الأول، انضافت مسافات أخرى، وكلما كبرت زادت، والآن ليس لي طفل أو طفلان، بل أطفال، لهذا ترون أن المسافة، أصبحت لا تقاس بالأمتار، بل تقاس بالكيلومترات: ثلاثة؛ أربعة؛ خمسة كيلومترات.
وتخيل كيف يكون رد فعلي على هذه المسافات، كلما كبرت في السن، تضخمت. لقد اعتدت على ذلك، بل العجيب أنني استفدت من طول المسافات، استفادة لا تقدر بثمن، وكلما توغلت في عمق هذه المسافات، أصبحت لي بمثابة مواقع متنوعة للتدريبات، فكان أن امتلكت بدنا صابرا، وطول نفس في الذهن.
كانت هاتان الموهبتان، موهبة عقل قادر على الصبر، وبدن قابل لقطع المسافات، من الملكات الأساسية التي زودتني بمنافع كثيرة، وأوحت لي في نفس الوقت، بمزيد من الاطلاع على المعارف المتنوعة في الكتب، والمجلات والجرائد والإنترنت، وتسجيل اسمي ضمن طلبة مدارس الليل، لتكوينات جديدة تضيق الثغرات، التي أحدثها التعليم العام بمناهجه المكدسة.
وشرعت أيضا في تسجيل اسمي، ضمن طلبة التعليم عن بعد، لآخذ قسطا نافعا من علوم العصر، التي لا تحتويها مدينتي.
من خلال تنقلاتي الكثيرة، والمستمرة على مدى عمر ممشاي، اكتسبت ملكة الملاحظة، حتى أخفف عني طول المسافات، فطفقت أنوع طريقي، بين شوارع المدينة وأزقتها، حيث ظهرت لي مناطق جديدة، وشرع العقل في طرح الأسئلة، جوابها مزيد من المشي.
اكتشفت بعدها ساحات وحدائق، ومن سؤال إلى سؤال، انتبهت أن في المدينة، أشياء لها صلات بالثقافة، وهكذا دخلت إلى دار الثقافة، التقيت بمحبي المعرفة، ورواد الدار الذين لهم طموحات كثيرة، أعجبتني بعضها، وغدوت بصداقات تملك مبادرات وبعض الجرأة.
أخذت فكرة شاملة عن أحوال المدينة وتذكرت أنني قبل السكن، بعدما اعتزلت أسرتي من الناحية السكنية، لا من الناحية الإنسانية، أن المدينة قسمان: قسم يسمى المجال الحضري، وقسم وهو الأكبر يسمى المجال القروي.
والمدينة عبارة عن بؤرة من قطعة أرض صغيرة مبنية، في مقابل الأرض الخلاء التي تحيط بها، تقف فيها بعض البنايات هنا وهناك، لا تكاد تذكر في هذا الخلاء الممتد، تتخللها أراضي مقتطعة نشأت فيها غابة منذ عهد بعيد، وبعض المزارع والبساتين.
في هذا السن الوسط من العمر، اشتهيت العمل في المجال السياسي، وجئت بقلم جاف أزرق وورقة بيضاء، التي أحلتها إلى لائحة بأسماء الأحزاب الغزيرة، التي تتوفر عليها المدينة والممثلين للمركزيات الحزبية، إضافة إلى الأحزاب المحلية.
وانطلاقا من هذا الجرد، قلت أولا لأتعرف أسماء الأحزاب التي تؤثث مشهدنا السياسي، وفي نفس الوقت بغية استحضار برامج الأحزاب، من خلال بحث جاد، وهذا ما قمت به بمساعدة أبنائي الجامعيين، وجعلناها ورشة عمل وجلسة نقاش سياسي مفيد، ومن أجل أن أحدد وجهتي السياسية.
وجدنا أن كل هذه الأحزاب الكبيرة والصغيرة، والقديمة والحديثة، وحتى الإنسانية والخضراء، والانتماءات المختلفة، لا تزيد عن ثلاثة أو أربعة توجهات عامة: المحافظون والاشتراكيون واللبراليون أو العلمانيون والإسلاميون.
وبحكم معاشراتي للفصائل المختلفة في الجامعة، لا أخفيكم أنني مائل في طبعي إلى اتجاه معين، أما العلمانيون أو اللبراليون، فلا تعجبني بعض أخلاقهم، فيقولون في التنظير ما لا ترضاه في الفعل، وما خفي كان أعظم.
وأما الاشتراكيون فلا سلام بينهم، ويريدونها شيوعية لدى الآخرين، والتزام كامل في أسرهم.
وأما المحافظون فنعم القول وبئس الفعل، وأما الإسلاميون فحدث ولا حرج، تهافت على الدنيا كما يتهافتون على الآخرة، لكن ما يرمي إلى الإعجاب بمعاشرتهم، إفشاء السلام بينهم وقول أخي وأختي.
استغللت تفوقي العلمي، لأنهم يحترمون الشواهد العليا، كما يحترم الماء البارد في حر الصيف، وبهذا تسلقت المواقع والمنافذ، التي خولت لي منصبا حزبيا متميزا، رضي عني من خلاله المستنفدون الحزبيون.
وهكذا أمسى لي موقعا، يمكن الإطلالة من خلاله على أماكن كثيرة، وحيوات جديدة أحسست فيها بمدى طول قامتي السياسية، والفاعلة في هذه الأوساط، فتسربت إلى أكثر المواقع حساسية، حيث اطلعت على معلومات في أقبيات، وأنشأت علاقات جوانية وخارجية.
وهبت لنفسي فرصة تأمل قشيبة، لأطلع على أحوال المدينة وساكنيها، انطلاقا من موقعي الجديد، ومسؤولياتي الجديدة، فتشكلت لدي قناعات أنه من حقي النقد البناء، والمشاركة في إصلاح المشاريع الفكرية والتطبيقية، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ والأمر يهم مدينة بقراها المجاورة، وساكنة تزيد عن المائة ألف نسمة.
قرى أغلبها من طين، هكذا حدثتني نفسي، فاستنتجت هدم السياسة في، وقلت هذه المدينة، أنت من بين المسئولين عن أحوالها، فماذا تفعل لها؟ بين لنا مرادك، يا أيها الرجل الطموح؟
وجدتها فكرة سائغة للشاربين، أول شيء يفعله الطبيب التشخيص، بالتعاون مع المريض الذي يجب عليه الإقبال على الدواء ولو كان مرا. ولذا لا بد من البحث في تاريخ المدينة، ومقارنته بالواقع المشهود.
أسس المدينة المستعمر. من ناحية تصميم الموقع، أكثر من رائع، ومن ناحية تصميم الأجزاء، أكثر من رائع أيضا، ومن ناحية بعض الدور تصميماتها أكثر من رائعة، وقد اعتمد على المواد المحلية في بناء المنشآت العامة والخاصة، مثل الإدارات، ومساكن القادة والإداريين الكبار، وبعض الإداريين الأساسيين، وبعض الخدم والعسس.
الآن بفعل الزمن، وبعدما توسعت المدينة، وظهرت مواد حديثة للبناء، المحيط العام أبان عن ثغرات، لا بد لها من منقذ. كان الأمر يتعلق باستقلال من حماية، على حد تعبير مثقف مستعمر، طمع في خيرات ناس آخرين، يريد أن يكون قدرهم المقدور. ولكنهم لم يألفوا القيد أبدا، كانوا أحرارا على مر التاريخ، ولا يمكن أن يكونوا عبيدا لأحد سوى لخالقهم.
استشاطوا غضبا لحالهم البائس يوم ذاك، وكانت الانتفاضات الدموية والفكرية على حد سواء، إلى أن أبعد هذا المستعمر الغاشم، واستراحت البلاد والعباد. لكن اليوم ما المخرج من واقع فرض تخلفه على عموم المواطنين؟ وهم بين ارث قديم، وحياة جديدة فرضت منطقا جديدا، لا بد من التعاطي معه.
ظهر بين عشية وضحاها المجلس القروي، والمجلس البلدي. إذن أفكار جديدة دخلت على أفكار المواطنين، وتباينت الآراء بين موال ومعارض، فكانت التعيينات أولا، وكانت الانتخابات ثانيا، وقطاعات المجتمع كثيرة، وفيها المطلعون وأصحاب المصالح، وباقي المجتمع.
وتمت الانتخابات في البدايات، بدون نزاهة تذكر، حيث ظهر أصحاب المحفظات المالية، وابتيع في الذمم، وحصل ما هنالك من لوبيات متنوعة، شملت المهن والإدارات والمنتمين وغير المنتمين.
ولا يخشى أن يقال إن الطموح في كثير من الأحوال يزيد عن حده، لاسيما عند أقوام كان الفقر يراودهم عن أنفسهم، وينغص عليهم حياتهم المالية، وها أنت ترى أنهم أصبحوا اليوم يباشرون مهام ميزانيات مئات الأسر، بدل الأسرة التي كانوا مسئولين عنها، فاليوم أصبحت الدراهم والدنانير في أيديهم بلا حساب.
نسي هؤلاء مسؤولياتهم، وغدوا يصرفون مشاريع المدينة، إلى مشاريع خاصة في مدن بعيدة، وذات صيت عالمي، وأصبحت المدينة ملك يمينهم، يقلبون شؤونها كيف يشاءون، ولكنهم يأبون إلا أن يخلدوا أسماءهم، على نصب من معارفهم وأصدقائهم، فتعطى الرخص وتمنع، وتعبد الطرقات حتى إلى دار واحدة، وتحفر الآبار للحدائق المرضي عنها، وتزلج الشوارع المفيدة، ويقبل في الوظائف أصحاب الولاءات لا أصحاب الكفاءات.
غضب الشباب غضبة واسعة، وفكروا في التقدم للانتخابات. وأما أنا فلم يكن لي حظ من المسؤولية العامة، فوليت وجهتي قبل المجتمع المدني، فأسست بعض الجمعيات، واتخذت سبيلي في الإنجاز الموالي، وعيني لا تغيب عن السياسة والسياسيين، وأبقيت على مناصبي المتنوعة في الحزب، وغادرت انتمائي النقابي بدون رجعة، لأنني أصبر على كي الجميع، إلا كي إخواني الأجراء.
ثلة من الشباب أجمعوا أمرهم، على الانتماء إلى أحد الأحزاب، كانوا يرون فيه المنقذ من الضلال، وفعلا نجح الكثير منهم، في الانتخابات المحلية، بل وحصلوا على رئاسة المجلس، بفعل حماس بعضهم وعلم بعضهم الآخر. وجدوا المدينة تحتاج إلى عمل كثير، وأن الميزانيات قد نهبت، والخدمات ضعيفة، والمرافق قليلة، فما العمل؟
كان الحماس سيد الموقف لديهم، وقد أحسوا أنهم أغروا الساكنة بفعل الكثير، وأنهم قادرون على ذلك، من أول وهلة يتبادلون فيها السلطة مع المكتب السابق، وهكذا وجدوا أن برنامجهم الانتخابي الحافل بما لذ وطاب يستفيق على واقع كانوا أغلب الوقت غافلين عنه.
رجع كل واحد منهم إلى نفسه يتساءل عن الخطة، التي يمكن أن تصلح لتدبير المدينة، وحاولوا جميعا في البدايات، التنسيق والعمل المشترك، لكن لا بد أن تظهر التباينات وتحالفات التحالفات، بفعل الميزانيات الضعيفة التي أمامهم، والأنانيات التي تسود بعضهم، والمناوشات التي تحصل لهم من خصومهم السياسيين.
وقعت تحولات في المدينة، وهذا لا ينكره مكابر، بله منصف. زيارات إلى المدينة، يلاحظ الزائر المحلي فيها، بل ويفاجأ بأن المدينة توسعت، وزادت فيها أحياء كثيرة، وأدخل على المنطقة جيل جديد من المشاريع، وزادت مكاتب الشركات والمقاولات بشكل ملفت، ومكاتب الدراسات والأبحاث، من مواضيع فكرية، إلى مواضيع الأرض، مثل البحث عن المعادن كالذهب.
أشغالي الكتابية لم تدع لي وقتا، لمتابعة حياة المدينة بشكل دقيق، لكن في بعض الأوقات تضيق فيها الأرض بما رحبت على الإنسان ، فلجأت إلى معاودة عادة القديمة، وهي المشي الممتد، الذي أصيب فيه راحتي بشكل وافر.
أول ما راع ناظري، التأطيرات الأرضية هنا وهناك بالزليج الجميل، فأخذت بلبي هذه التنويعات والتعميمات، التي أمشي عليها تارة بالهوينى، وتارة بالسريع، وأخرى أتزحلق على الأرض كطفل صغير، لا يأبه بالمارة وملاحظاتها.
وكباحث في رمال الصحراء، الذي أضاع ضالته، بدأت تتبين له المعالم عن قرب، كلما امتد به المسير نحو هذا الأفق أو ذاك، ليس كل الناس تجد ضالتها، وبالتالي ليس كل الناس، تجد زليجها على مربعات أحيائها، أو على طرقات شوارعها وحواريها، وهكذا في بناء المرافق، وتعبيد الطرقات، وتوصيل الماء والكهرباء، وغيره من الخدمات.
وبدأت التعليقات تظهر، في الأول خافتة شيئا فشيئا، ووصل الأمر إلى تعليقات مدوية، في أرجاء المدينة، يا سلام حتى من المقربين والمآزرين والأنصار: كيف أن بعض المستشارين، خدموا أحياءهم فعبدوا طرقهم، وأوصلوا لهم جميع خدمات البنية التحتية، من اتصالات ومواصلات ومياه وكهرباء والصرف الصحي، ونظموا لهم أيضا عمليات النظافة المنزلية، والمرتبطة بالشوارع والأزقة والساحات والحدائق.
ما هكذا تورد الإبل يا مستشارين، الذين شبعوا دراهم من وظائفهم، ومن نضالاتهم، وهذا لا ينكرون عليه، إنما شيء آخر، تمثل ذلك في أنهم اشتروا سيارات، وتحسنت أوضاعهم، وأصبحوا لا يستطيعون الاستغناء عن هذه السيارات، ولو لأمتار قليلة، وبالتالي نسوا الديمقراطية الجماهيرية، وأمسى شغلهم الشاغل هي الديمقراطية المكتبية.
لقد شاهدوا عن قرب الواقع الذي يحتاج إلى ثروة كبيرة من التدخلات، ولديهم سيارات تحتاج إلى طرقات جيدة، ولديهم أتباع وجمهور سياسي، ولهم ناخبون وعدوهم بتنفيذ برنامج، بموجبه انتخبوهم لينفذوا هذا البرنامج، وبين المتمنيات والواقع بون شاسع.
كانت لديهم أفكار هي منطلقهم إلى الانتماء والعمل السياسي، فكانوا يرون خصومهم حادوا عن جادة الصواب، ومطالب الجماهير عريضة، ومنها مطالبهم لما كانوا عاطلين عن العمل، أن يوجدوا للشباب العمل المناسب، وأن يتمتع الجميع بصحة جيدة وتعليم جيد، وثقافة جيدة وطرقات جيدة ومساكن جيدة. ولكن الميزانيات فيما قبل، كانت تصرف في جهات أخرى.
ها هي اليوم الميزانيات بين أيديهم، وتحت حراسة أنظارهم، فماذا ينفذون ومطالب الجماهير عريضة؟ وبذلك شرعت المشاكل تطل عليهم عن قرب، هل يلبون مطالب الجميع؟ هذا من رابع المستحيلات، ولكن سويعة الحيلة بادرتهم بالحل المناسب، أن يستعينوا بالواقعية.
يقولون لا بد أن نكون واقعيين، وإننا سياسيون، لذلك علينا استعمال السياسة، وإلا الميدان يتسع لغيرنا. فالأولى أن ننطلق من جمهورنا ونلبي طلبات أتباعنا، وإلا لماذا نحن هنا؟ ولماذا نحن سياسيون؟ نحن هنا لنلبي طلباتنا أولا، وطلبات أتباعنا وجمهورنا ثانيا، وإذا بقيت بعض الدراهم، فلنوزعها على الفقراء والمساكين، لأنهم الفئة العريضة، التي ستصيبنا بأوراقها الانتخابية.
بينما كنت ماشيا على الأقدام في زيارة استطلاعية، أوقفني مواطن مطلع، قال لي: يا أخي، هؤلاء منهم فلان وفلان وفلان، يقطنون بالحي الفلاني، وفلان وفلان وفلان، يقطنون بالحي الفلاني، وها هي أحياؤهم تتمتع بالطرقات المناسبة، والحدائق المناسبة، والأسواق المناسبة، والمرافق المناسبة. وأما أحياؤنا التي صوتت لفائدتهم، ولأنه لا يمثلنا أي أحد في المجلس البلدي، فحتى خدمة النظافة مبعدة عنا.
واستكملت جولتي عبر أهم شريط للمدينة، الذي يتمثل في شارعها الرئيس، فأعجبني التغيير الذي شاهدته، من زينة الزليج والتبليط، وكانت هذه من الزيارات الممتدة، التي جعلت منها تقييما شاملا للمدينة، فظهرت لي الخريطة الانتمائية، لعدة أجيال من المستشارين والمسئولين، الذين صنعوا أكثر من خريطة، خرائط البؤس لدى البعض، وخرائط الرفاهية لدى البعض الآخر، وخريطة بدأت بخريطة الواقعية.
وحضرتني فكرة، ألحت علي طول الطريق في العودة إلى المنزل: لو أنني نجحت في الانتخابات، فماذا ستكون سياستي؟ هل هي الواقعية؟
وبان السؤال سهل الجواب عليه. لا يملك أي سياسي إلا أن يكون واقعيا، ويمكنه أن يبني على سلفه الواقعي، وأن يحاول تسطير أهداف بحسب حاجة المدينة، ويرتبها بحسب الأولويات، ويسدد ويقارب، خصوصا وأن لدي درجة أكاديمية، تخول لي تدبير مدينة.
لكن الذي قض مضجعي، ولم أحر له جوابا، كيف أقوم بوظيفتي أحسن قيام، وقد توفرت لي سيارة متوسطة أو فاخرة، تمنعني من رؤية حفر الطريق، والأحياء التي ما زالت شوارعها وأزقتها على التراب، ولم يصلها بعد لا ماء ولا كهرباء، والأرض البكر التي لم تعرف تدخلا، لا في أيام الواقعية هاته، ولا أيام الرفاه والبؤس، وتمنعني أيضا عن رؤية جماهير الناس، والجلوس معهم لمعرفة حوائجهم، وتصبح إمضاءات الأوراق لا تترك لي وقتا، أطلع فيه على مطالب الناس، وأشرع في تلقي تقارير تقول لي كل شيء على خير، ويصبح لي أصدقاء جدد ينادوني لأصاحبهم للترويح عن النفس، في مراكش والدار البيضاء والرباط وأكادير، ولما لا إسبانيا وفرنسا وإيطاليا؟
المفاتيح
- ◄ قصة قصيرة
- ● وماذا بعد؟
- ● النظّارة
- ● خرابيشُ خطّ
- ● بقرة حسين
- ● تاريخ