أحمد العبيدي - العراق
صدى الألوان
يتجول في الصالة، ويختلس النظرات الى الجمع المزدحم، كان بلا رفيق إذ لم يشأ اخبار أياً من زملائه ذوي الثرثرة المزعجة عن آخر دعوة كانت قد وصلته آنياً.
هذه اللوحة تذكرني بقريتي الحالمة، حتى هذه الوجوه الماضية بسباتها هي ايضاً تقارن بوجوه أعرفها وكنت اجالسها يوماً ما.
استدار في وقفته واتجه الى الباب، فقد أراد أن يعيد النظر في اللوحات المعلقة بصورة منتظمة على الجدار مرة ثانية. رمق احداهن وهي تقف في الزاوية التي تلي برنامجه. كان اصلاً قد رآها تتوسط مجموعة ليست بالقليلة، يدللن على أنهن من مشارب مختلفة بأزيائهن المتأرجحة بين اسفل الكعبين وأعلى الركبتين. كانت في لحظة تأمل بأفكارها ومشاعرها، متفاعلة مع مجموعة من خطوط والوان بشكل متناهٍ، لكنها بأية حال قد شعرت بوجوده بالقرب منها مصدرة اشارة بذلك.
ربما تكون من بنات جلدتي! ملابسها توهمني غير ذلك. ربما تكون شرقية، ولكني اراهن على عروبتها، وفي كل الأحوال، وأياً كانت فهي الأفضل بين الكل/.
"الصبي يتجسد وكأنه اقحوانة تتمحور في شرنقة.
"بيضهر أن الفنانة بتركز على الإطار اكثر ما بتركيزها عالصبي"
"ولكن، بالرغم من كونه رمزاً للحركة، الى انّ الصبي رمزاً للحياة"
"بنسأل الفنانة عندما بتفرغ بعض الإيضاحات ايش بتگول؟
متوسطة القامة، يعتلي وجنتيها خد متأصل تشوبها سمرة خفيفةبشعر أسود متدل على رقبتها الدقيقة كدوار الساعة. تبدو له وكأنها غير مكترثة بالمحيط المار من حولها. استطردا بالحديث عن الفن، والفلسفة، والشوق، والغربة، وشيء من الضياع.
تكلما بعدة لغات لكنه كان معجباً بلهجتها وتراثها، فراحا في اكمال مشواريهما سويةً.
راودتها رغبة في الانسحاب، لكنها لم تر بداً من الدخول في برنامجه، والتفاعل معه بقدر استطاعتها تحمل مثل تلك المواقف.
"هذه اول امسية لكِ؟"
"أنتَ مقيم هنا؟"
"سنتان."
"سنتان!"
وقفا بجانب النافذة المطلة على الخارج، واتخذا زاوية منحرفة قليلاً بحيث أن أضواء السيارات باتت تشع على لمسات وجنتيها الحنطيتين عندما تمر عبر الشارع. أما هو فقد كان في مأمن من هذا الشعاع بعد ان فضل الاستمتاع بجمالية المشهد.
البكاء على الجدران لم يعد يجدي نفعاً. سأكون في مأمنٍ اكثر، إن اقتربت اكثر.
"لقد قدمت هنا مؤخراً؟"
"للدراسة والعمل."
"انت مهندسة معمارية؟"
"ليش ما بتقول أود التخصص."
شعر بإحساس غريب يراوده، وموجة من العرق راحت تنساب على جبهته. بدأ باسراج احصنته المتأصلة استعداداً لامتطائها واحداً بعد الآخر، واخذ في تنسيق المواقف المختلفة كي يدرك ما نذر نفسه من اجله في هذه الأمسية الخرافية، والتي بات يعد لها الإعداد الجيد. لقد تأكد لديه انه يسير ضمن الخطة الملتأمة في أمّ رأسه بسلاسة وعفوية كان منها على موعد منذ زمن. أما هي فقد ساورها شك بشفافية الخيال العابر فقررت السباحة فيه ضمن المدى المتاح لها لهذه الليلة فقط، فهي لديها مشاغلها واهتماماتها الخاصة بعيداً عن تطلعاته.
توسطت الصالة، ووضعت يدها بيده وسحبته باتجاه كومة من الفتيات تنتمي اليهن بالولاء؛ لتقدمه غنيمة لهن فربما ينتمي كحليف للأيام المتبقية، وهو على أية حال من جنسية لا تكاد تشاطره فيها واحدة منهن عدى الأرضية التي يقف عليها، والهواء الذي يشمه.
تحدث معهن، وابتسم مجاراةً بلغة يكدن يفهمنها، لكنه كان ينتظر سرعة الفكاك لينفرد بها وحدها، فقد أراد أن يسمعها شيئاً ربما يعد غريباً عليها. اراد أن يعرفها بحقيقته، بل اراد أن يمحو زوبعة من السذاجة كان يقرأها في سطور وعيها الذي كان متخفياً في قراءتها له. اراد أن يقول كلمته التي استعد لها، ومن اجلها.
توقف الجمع بالتماس حافل غدت تشرئب له الأبدان، وتصغي اليه الأفئدة، فقد كانت مراسيم أعدّ لها.
وصل التقويم الى مرحلة تناول جملة من الأشياء المركومة على طاولة مستطيلة، وقد لطف المشهد بانغام تتهادى من وقع معزوفة تقطعها منبهات السيارات بشكل يكاد يكون مزمناً.
"بترجع قريبا لأهلك وموطنك؟"
"ربما، لم اقرر بعد."
"بتزامن الحضور هنا؟"
"مشْتَرِك."
"بتعشق الفن؟"
"كل جميل."
"مجنون!"
كانت تخطف من يده قطعة من البيتزا هم بأن يلتهمها عندما قاطعتهما الفنانة بالسؤال عن
الانطباع الذي خلفته لوحاتها في نظرهما، وقد اثنت هي على العمل واعتبرته مميزاً، أما هو فقد دخل في حوار معها عن العمل وجديته، وصداه في عيون الحضور وطبيعة تأقلمها مع الريشة وحبكة اللون، إلى آخره.
"لقد تكرر لدي جنونك"
"أشك في ذلك؟"
"اجل! بل الكثير"
"اولاهما؟
"لغزك الأول"
"واخراهما؟
"الجميع سذج؟
تقدمها باتجاه مجموعة من الكراسي معدة للجلوس، فقد أراد أن يدافع عن موقفه بهدوء وعناية بعيداً عن الجميع السذج. استأذنته لتقف بين احضان مضيفتهما، وتعتذر منها عن جنون صاحبها التي لم تر بدا من تحذيرها من خطر هذا الجنون، فقد تمكنت الأخيرة من قراءة بعض السطور التي كانت تجلّها هي لحداثة عهدها بمثل تلك الألوان والأفكار.
"آخراهما: مدعاة للمظاهرة."
"بشأنهم!"
"الجمهور."
"وأولاهما؟"
"الرائعة."
"زي ما بتظن!"
"ماتعليقك؟"
"ما بعتقد."
"اراهنك!"
عادت للانضمام الى مجموعتها تستنجد الرأي من كل واحدة منهن، الى أنهن قد فشلن في الوقوف عند واحدة من تلك اللوحات وقفة نهائية. درن حوله، حاولن الحصول على رأس الخيط، لكنه أمتنع عن التلميح حتى ولو بإشارة، فخلصن إلى أن يهمسن بأذنها ويعدن أدراجهن صفر الأيدي.
"بتعرف، أنك تثير الشفقة."
"لم؟"
"لأنك مجنون، فلك الحق في أن تنال عطفي."
"هذا ما أريد!"
"ليس بهذه السهولة."
تقدمت خطوات معه تجاه الباب، وكلها أمل في أن تسمع منه. زميلاتها قد فضلن سماع الخبر منها عندما يدرن على طاولة العشاء عند العودة لمنزلهن، أما هي فلم تكن مكترثة بالأمر قدر اكتراثها بأن تنهي هذه القصة، وأن تلقي به خارج محيطها.
"لقد حفظت حتى ارقام اللوحات؟"
"من قال إنها حتى رقم لوحة؟"
"ألن تف بوعدك للجميع؟"
"أشك في قدرتهن على تقبل النتيجة."
اقتربا من باحة البهو الخارجي، لم يبق الاّ القليل كي يخبرها عن اجمل لوحة كان على موعد معها في تلك الليلة، حتى زميلاتها كن متشوقات حد القلق، بما فيهن الفنانة نفسها، الى معرفة تلك التي يعدها "رائعة" في نظره.
"شو بتقول؟"
"لن أخذلكِ."
"براودني شعور من ذلك."
"بدأت أخشى عليك."
وقف عند نهاية الممر المفضي الى الخارج. كان قد اتخذ قراره النهائي بلا هوادة. أما هي فقد شعرت بالارتباك، ولفحة من الخجل مرت من على حاجبيها. راحت تسدل نظراتها التي بدت متوجسة ممن ينتظرنها على وجل، وشيء من الحيرة.
"أجاد أنت؟"
"ليس لدي شك."
"لم بحلم حتى أن اكون هي..."
"ولن تكوني غيرها."
أرادت أن تكمل حديثها معه لكنه اشار لها بالتوقف. ربت على كتفها، وانسحب من امامها تجاه الباب الخارجي، أما هي فقد تسمرت على عتبة الباب وعينيها لم تنفكا من ملاحقته، حتى تلاشى خياله من أمامها.
تطوعت إحداهن لاستطلاع الأمر بعد أن شاهدن ملامح وجهها الذي بدا يثير الشفقة لكل عابر سبيل.
"ما بك؟"
"لم يحدث شيء."
"وهو؟"
"مجرد هذيان."
أخذ الجمع في المغادرة بعد أن أزف الوقت. خرجن جميعهن دفعة واحدة وهن يثرثرن بلا رحمة، أما هي فراحت تجر هيكلها، وكأنها تحمل اطناناً من الهموم التي كانت على موعد معها تلك الليلة. جففت عينيها ومررت أصابعها من على شعرها المنسدل على كتفيها، ثم لحقت بزميلاتها على عجل. بدت وكأنها قد استرجعت عافيتها مما ألمّ بها.