الصديق النبيل: رحيل د. عصام الطاهر
تتقدم أسرة تحرير مجلة "عود الند" ورئيس تحريرها د. عدلي الهواري بأصدق التعازي لعائلة الفقيد الكبير د. عصام الطاهر، أبو عمر، الذي انتقل إلى رحمته تعالى في الأردن في شهر كانون الثاني/يناير 2015، ونأسف على التأخير في تقديم العزاء، فلم نعلم بالخبر المحزن إلا بعد أيام من صدور العدد الماضي، 104، وبعد زيارة موقع صحيفة "المجد" الأردنية. إنا لله وإنا إليه راجعون.
للفقيد الكبير كتاب بالإنجليزية عنوانه "الكويت: الحقيقة" (Kuwait: The Reality)، وقد صدر في عام 1995، عن دار دورانس ببلشنع (Dorrance Publishing) الأميركية. وكان ينشر مقالات بالعربية في صحف مختلفة. وتميز أيضا بعمق واتساع ثقافته، وذاكرته التصويرية التي تحتفظ بتفاصيل مضى عليها زمن طويل في فلسطين ومصر.
"عود الند" تعيد نشر مقالة عنوانها "رحيل "ابو عمر" .. الصديق النبيل" كتبها صديقه، فهد الريماوي، رئيس تحرير صحيفة "المجد" الأردنية، بعد الحصول على الموافقة من كاتبها والصحيفة.
= = = = =
رحيل "أبو عمر" الصديق النبيل
في شكل موجات بحرية يأخذ بعضها برقاب بعض، تتدافع الأيام، وتتوالى الفصول والأعوام، وتتلاحق مواكب الأعمار والأقدار، ولا يبقى إلا وجه ذي الجلال والإكرام.
على غير مبعدة من يوم رحيل الصديق الفقيد المحامي حسين مجلي [أبو شجاع]، رحل الأسبوع الماضي صديقه وصديقي الغالي الدكتور عصام الطاهر الذي شكل على مدى عشر سنوات "الشريك الثالث" في ندوة يوم الجمعة التي كانت تنعقد أسبوعيا في مكاتب "المجد".
بعد شهرين فقط من غياب "أبو شجاع" [وزير العدل الأردني الأسبق] غاب "أبو عمر"، وفقدت "المجد" خلال هذه البرهة الزمنية القصيرة رجلين من أحب أحبائها وأخلص أصدقائها وأحرص الناس على صدورها وحضورها، إيمانا منهما بأهمية دورها القومي، وضرورة خطابها العروبي، ولزوم صوتها الوحدوي، وسط هذه الغابة من الأصوات والنعرات والخطابات العصبوية والمذهبية واللاعروبية الباطلة والقاتلة.
ورغم أن الدكتور عصام لم يكن بعثيا أو ناصريا أو منتميا لأي فصيل قومي، إلا أنه كان شديد التمسك بهويته العربية، وبالغ الانتقاد للتقسيمات القطرية وخرائط سايكس-بيكو، فهو رافض بالمطلق للهويات والكيانات، والولاءات الأردنية والفلسطينية واللبنانية والمصرية والجزائرية التي تحول دون الالتقاء في نهر العروبة الجامع، والاندماج في دولة الوحدة الشامخة.
هذا الرجل كان بمفرده يقوم مقام حزب بكامله .. حزب يعمل بصدق وصمت دون ادعاء أو مباهاة، فهو يمارس دوره في ميادين الخير والعطاء والإحسان والعمل العام بمنتهى التواضع والإيثار ونكران الذات والزهد في الشهرة والأضواء، فلا يمن على أحد بشيء، ولا تعرف يساره ما قدمت يمينه، ولا تسعى قدماه نحو مغنم أو منصب أو سلطة أو نفوذ .. ربما لأنه كان يستمتع بالوهب لا بالكسب، ويكتفي بما حباه الله من خصال وقدرات وإمكانات ذاتية لا تحتاج إلى المزيد من المكتسبات الإضافية.
عروبة "أبو عمر" تولدت لديه تأصيلا وتفصيلا منذ فتوته وشبابه حين التحق أواخر عقد الأربعينات من القرن الماضي بكلية الطب في القاهرة، وتربى في كنف عمه محمد علي الطاهر "أبو الحسن" صاحب مجلة "الشورى" الأسبوعية المجاهدة، وأحد أعلام الصحافة والسياسة في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان لأكثر من نصف قرن.
كان "أبو الحسن" قد غادر يافا إلى القاهرة في مثل هذا الوقت من القرن الماضي، شأنه شأن غيره من "الشوام" الذين قصدوا أرض الكنانة، وأقاموا فيها صروحا صحفية وأدبية شامخة مثل جريدة الأهرام، وروز اليوسف، ودار الهلال. وقد اشتهر "أبو الحسن" بندوته الأسبوعية التي كان يعقدها في مقر مجلة "الشورى"، ويتقاطر عليها ليس كبار الكتاب والساسة والمشاهير المصريين فقط، بل كبار الزعماء والثوار العرب والمسلمين الذين كانوا يتواجدون في القاهرة أو يترددون عليها، إما طلبا للدعم والمؤازرة لتحرير بلدانهم من الاستعمار، وإما هربا من بطش المستعمرين حال نجاحهم في قمع الثائرين.
كم حدثنا الدكتور عصام عن حضوره "الجانبي" للقاءات عمه "أبو الحسن" مع قامات مصر الكبيرة في الفن والأدب والصحافة والسياسة، وعن مشاوراته ومحاوراته مع زعامات تونس والمغرب والسودان وباكستان وإندونيسيا التي كانت تقود حركات التحرر من الاستعمار، والتي ما أن انتصرت حتى استضافت "أبو الحسن" في بلادها المحررة، وأنعمت عليه بأرفع الأوسمة والنياشين.
كان "أبو عمر" متحدثا لبقا ومشوقا ومرهفا في اختيار موضوع حديثه، وفي أسلوب سرده وتنغيمه حتى تخال أنه يكتب ولا يحكي. يرسم ولا يروي. يأسرك بحديثه السحري ويأخذك إلى حيث يريد، ولا تملك إلا طلب المزيد. لقد كان "حكّاء" مبدعا – شأن كبار الحكائين المصريين – ولعل ثقافته الواسعة وتجربته الحياتية الغنية وإعجابه بالروحية الفنية المصرية قد أسهمت جميعها في تمكينه من فن القص وتكنيك الحكاية.
ولطالما أدهشني هذا الفقيد الغالي الذي أقعده المرض قبل أن يغيبه الردى، بقدرته الفائقة على الجمع بين الأنفة والإباء وعزة النفس من جهة، وبين الطيبة والتواضع والبساطة العفوية من جهة أخرى، حتى تخال أحيانا أنه ليس الرجل ذاته، فقد رأيته في مواضع ومواقف معينة عزيزا أبيا شامخا كقمم الجبال، ثم رأيته في مواقف ومواضع أخرى وادعا وخجولا وشديد الطيبة والسلاسة حد السذاجة.
رحم الله "أبا عمر" فقد كان من خيرة أصدقاء "المجد" وكتابها ومؤازريها والمشاركين في رسم سياستها وتوجيه بوصلتها، بحكم خبراته وعلاقاته الصحفية المتميزة.
= = = = =
فهد الريماوي، رئيس التحرير، صحيفة "المجد" الأردنية، 19 كانون الثاني/يناير 2015
أدناه صورة غلاف كتاب د. عصام الطاهر بالإنجليزية.
◄ عود الند: أخبار
▼ موضوعاتي