زهرة يبرم - الجزائر
رحيل آسيا جبار
آسيا جبار: المرأة التي كتبت ضد الموت والنسيان
"أكتب ضد الموت، أكتب ضد النسيان، أكتب على أمل أن أترك أثرا، ظلا، نقشا في الرمل المتحرك، في الرماد الذي يطير وفي الصحراء التي تصعد".
هي كلمات للروائية الجزائرية آسيا جبار الراحلة حديثا. كلمات تعبر بصدق عن حال هذه الأديبة التي عاشت لسبب أو لآخر في ضبابية وغموض في ذاكرة المثقف الجزائري خاصة والعربي بصفة عامة، بينما لا وجود لها أصلا في ذاكرة الكثيرين.
مع رحيلها في اليوم السادس من شهر فيفري (فبراير) 2015، سال كثير من الحبر يُدَون سيرتها، ويحصي أعمالها ويلقي الضوء على عديد الجوانب من شخصيتها التي كانت معتمة أمام الكثيرين منا. لمثل هذا الظرف كتبت آسيا جبار وتركت أثرا لعل موتها البيولوجي يمنحها انبعاثا وحياة جديدة قد تجعلها تنهض من رماد ما خلفته من أثر أدبي، فتعيش في ذاكرة الآخرين ولا تسقط في بحر النسيان.
قبل أن أخط هذه الكلمات تساءلت مع نفسي: هل ما قرأته عن آسيا جبار في الصحف وفي هذا الظرف الوجيز يخولني للكتابة عنها؟ من أين سأبدأ؟ وما هي الأولويات التي على ضوئها أرتب معلوماتي؟ وهل سأنجح في إعطاء صورة عنها أمام المتناقضات الكثيرة التي صادفتني؟
قبل كل شيء، قصدت أشهر المكتبات في المدينة علني أعثر على بعض مؤلفاتها فأتحقق من أشياء كتبت بشأنها، لكني لم أجد لذلك أثرا. فتيقنت من جديد أن آسيا جبار كانت ميتة أدبيا في الجزائر.
ارتبط اسم آسيا جبار في ذاكرتي ببعض النصوص الموقعة باسمها على صفحات كتب مدرسية مقررة لحصص اللغة الفرنسية، كما أذكر كلمة (La soif) أي (العطش) أو (الظمأ) تحت اسمها، وهو عنوان أولى رواياتها والتي أخذت منها تلك النصوص. غير ذلك لم أقرأ لآسيا جبار شيئا ولا أعرف أدبها ولم أعثر على مؤلفاتها لا في المكتبات ولا متداولة من بين الممنوعات.
أعمالها السينمائية والمسرحية التي تم إخراجها في أعوام السبعينات بقيت مجهولة من طرف الجمهور الجزائري بسبب عدم عرضها في دور السينما أو التلفزيون. إلا أني بفضل الإنترنت شاهدت لها فيلم "نوبة نساء جبل شنوة" العام الماضي.
في خمسينيات القرن العشرين بدأ جيل من الكتاب الأدباء الجزائريين يتشكل، ينتهج الكتابة باللغة الفرنسية لكنه يكتب بروح جزائرية عميقة. ومن أشهر هذه الوجوه محمد ديب، وكاتب ياسين، ومالك حداد، وآسيا جبار وغيرهم. وكانت آسيا جبار هي المرأة الوحيدة يومها في هذا التيار.
في مدينة شرشال الساحلية غرب العاصمة الجزائر ولدت فاطمة الزهراء إملحاين، في 30 جوان (يناير) 1936. كان والدها الطاهر المدرس الجزائري الوحيد في المدرسة الفرنسية، وتقول عن أمها إنها كانت شابة وجميلة جدا. تلقت دراستها الأولى بالمدرسة القرآنية، ثم بالمدرسة الابتدائية الفرنسية بمدينة موزايا، ثم البليدة، فالجزائر العاصمة.
انتقلت مع عائلتها إلى فرنسا في بداية الخمسينيات وانتسبت إلى مدرسة المعلمين بباريس كأول امرأة جزائرية وذلك عام 1955. وكشابة تتوق إلى الحرية، فقد شاركت في إضرابات الطلبة المساندين للثورة الجزائرية في فرنسا والمطالبين باستقلال الجزائر.
فاطمة الزهراء إملحاين، هذا الاسم المنحوت من مزيج، يحيل على ما يشكل إثنية الجزائر، تخلت عنه للكنية التي اشتهرت بها: آسيا جبار.
بدأت آسيا جبار تكتشف العالم من خلال قراءة الكتب، ثم خاضت عالم الكتابة الأدبية والمسرحية والإخراج السينمائي، لتصبح على إثرها من أكبر الروائيين الجزائريين باللغة الفرنسية ومن أشهر الروائيات في شمال إفريقيا. أما عن اللغة التي اختارت الكتابة بها فتقول إنها لا تتعدى كونها أداة إبداعها، وهي لم تبتعد جوهريا عن القضايا الجزائرية التي تملأ ضميرها.
كانت تحمل ذاتا غنية بالتقاليد الموروثة وبالعلم الذي تحصلت عليه. نبتت في بيئة ذات أصول ثقافية وحضارية، لكنها ترفض الجوانب القامعة للمرأة. كانت مناهضة لنزعة العنف في بعض تفاصيل هذا الموروث. وهو رهان صعب في مسيرة نضال آسيا جبار في دفاعها عن المرأة الجزائرية. انتصرت للمكان والإنسان الجزائريين في كتاباتها، وكانت صوت المرأة المستضعفة حتى لقبت بـ "محامية النساء". كانت ممزقة بين الجزائر وفرنسا.
"لا مكان في بيت أبي" هي آخر رواية لآسيا جبار صدرت في 2007، وقد خصتها بسيرتها الذاتية وبإنِّيتها كامرأة وككاتبة، وبذكرياتها المرتبطة بذاكرة شعبها. تذكر فيها أن تكوينها الأول وخطواتها على مدارج التحصيل العلمي يعود الفضل فيه لوالدها المدرس، الرجل الصارم، الذي رغم أفكاره الديمقراطية وإيمانه بالحداثة والانفتاح والحرية يبقى مرتبطا بالصرامة الإسلامية، وينوي نقل ذلك لابنته.
نجد في هذه القصة الحميمة التواضع والكثير من العواطف، حيث تعري آسيا جبار ماضيها العربي- البربري المرتبط ببلدها وبوالدها، كما لو أنها تعيد عقد روابط لم يكن عليها مواجهتها مرة لتصبح نفسَها. فهي أشبه ما تكون بحال من تحطم به المركب على الضفة الأخرى فجلس هناك مستسلما لا يدري ما ينتظر.
كتبت أولى رواياتها "العطش" سنة 1953 وهي دون سن العشرين، ثم " نافذة الصبر" سنة 1957. في سنة 1958 تزوجت من الكاتب الجزائري وليد قرن وانتقلت للعيش في سويسرا، ألفت معه رواية "أحمر لون الفجر" وعملت مراسلة صحفية في تونس.
التزمت آسيا جبار بما يشبه التحفظ حيال المقاومة الجزائرية وحرب التحرير، ولو أنها أسهمت بتحقيقات في جريدة "المجاهد" حول وضع اللاجئين الجزائريين في تونس، فهي تنتمي أكثر إلى مثقفي الشتات الجزائري أمثال محمد أركون وكاتب ياسين ومالك حداد.
بعد استقلال الجزائر عام 1962 عادت إلى الوطن لتكون أول أستاذة جامعية جزائرية، حيث درست مادة التاريخ في جامعة العاصمة، وعملت بالموازاة في جريدة "المجاهد"، بالإضافة إلى اهتمامها بالمسرح والسينما، فأخرجت في سنة 1977 فيلم "نوبة نساء جبل شنوة" المقتبس عن روايتها "جبل شنوة".
خلال إقامتها بالجزائر، تم نقل تدريس مادتي الفلسفة والتاريخ في الجامعة الجزائرية إلى اللغة العربية، وكانت آسيا جبار من المعارضين لهذه الخطوة بكل مرارة واستياء وشجب. وفي الجزائر أيضا كتبت أكثر من إحدى عشرة رواية أبرزها: "القبرات الساذجات"؛ "أطفال العالم الجديد"؛ "نساء الجزائر في بيوتهن"، "شاسع هو السجن"؛ "المتلهفون".
عام 1980 هاجرت من جديد إلى فرنسا، و كتبت رباعيتها الروائية: "نساء الجزائر"، " ظل السلطانة"، "الحب والفنتازيا" و"بعيدا عن المدينة". حاكت قصصها من الذاكرة والتاريخ واختارت شخوصها من العالم النسائي.
في فرنسا حصلت على احتواء سهل مرن معسل بأسمى أنواع التشريفات. يقول بعض النقاد إن نجاحها الأدبي ليس لفرادة ما تكتب ولكن باعتبارها أنثى رافعت عن الأنوثة بخطابها السردي والسينمائي بالرغم من أنها لم تخض علنا في النضال النسوي مع الناشطات. ولأنها تكاد تكون المرأة الكاتبة الوحيدة من بين جيلين كاملين من الكتاب الذكور. ولأنها تكتب باللغة الفرنسية وتتبناها وتحملها همّا وقضية ومسوغا وجوديا.
قال عنها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وزير التعليم الأسبق: "أعتبرها امرأة تحمل نبضا أصيلا للقلب والعقل وروائية عالمية رفعت ألوان بلدها عاليا في سماء الأدب". لكنها لم تنل الاعتراف من الأوساط الرسمية في الجزائر، وذلك مرتبط بما يشبه التحفظ الذي التزمته آسيا جبار حيال المقاومة الجزائرية كمثقفة واعية راشدة عايشت الثورة منذ بدايتها وحتى الاستقلال.
توفيت آسيا جبار في إحدى مستشفيات باريس عن عمر يناهز 79 سنة، منها نحو 60 سنة من الإبداع والعطاء الفكري والأدبي. وكانت أوصت بدفنها في مسقط رأسها شرشال فنفذت الوصية.
◄ زهرة يبرم
▼ موضوعاتي
1 مشاركة منتدى
رحيل آسيا جبار, جليلة الخليع /المغرب | 21 آذار (مارس) 2015 - 22:04 1
سيرة لمبدعة عظيمة لم يسطع نجمها في سماء ثقافتنا العربية ، ولم تنل على ما أظن أية جائزة من دولة عربية ، وان كانت قد حصدت الكثير من الجوائز بإيطاليا، فرنسا، الولايات المتحدة ،بلجيكا.
هل لأنها كتبت بالفرنسية ، أم هذا التغييب العربي له مبررات أخرى، ويظل الإبداع مهمشا رغم أن المبدعة قد أفت عمرها في الكتابة عن وطنها وهمومه ، عن واقع المرأة الجزائرية خاصة بل العربية بصيغة أشمل.
شكرا للغالية المبدعة زهرة بيرم على هذا الاحتفاء باسم كبيرلروائية كبيرة ، تمثل الجيل الأول للروائيين العرب .محبتي والورد عزيزتي.