لما أنيس البزور - الأردن
قراءة انطباعية في أعمال الفنانة نعمت الناصر
اتخذت نعمت الناصر، أثناء مسيرتها الفنية في جميع أعمالها هموم الإنسان، وقضاياه. ننظر للإنسان في لوحاتها، نرى مسحة فنية تشدنا، تجعلنا نقترب، ننتمي، نحتضن تلك الشخوص، برغم الألم والمحاط. إذ ننظر إلى لوحات الناصر فتظل في الذاكرة لوقت طويل.
ركزت الناصر في أعمالها على الإنسان بشكل عام، وهم الإنسان العربي وقضايا الحرب والظلم الواقع على الفلسطينيين والعراقيين، والطفولة الهرمة القابعة تحت سيطرة الاحتلال. إذ لا تخلو أعمالها من العنصر البشري، بحركات جسده وملامح وجهه.
حفر على الزنك 1989 |
يقدم هذا العمل من الجزء الأمامي شكل هندسي، الجزء العلوي فيه على هيئة مستطيل طولي، مقسم لثلاثة أجزاء غير متساوية، بخطوط عشوائية متكررة، يأخذ إطار أبيض بأسلوبية مرنة.
الجزء الأول من الأعلى للمستطيل يتوسطه طائرة ورقية بالأبيض والأسود، ينزل منها خيط أسود بشكل مائل، حتى يختفي في الجزء السفلي على شكل إطار مربع، يوجد في داخله عدد من الأطفال بأسلوبية تجذب الناظر للعمل، تجعلنا نتفكر في حركة أجساد الأطفال وملامحهم، اقتطعت الجزء العلوي للكائن البشري، المتمثل من الرأس حتى الصدر، الوجوه متسمرة جامدة الملامح، الأعين شاخصة، الأفواه مطبقة.
لو تأملنا لكامل الوجوه لهؤلاء الأطفال نرى نفس التساؤلات، استفهامات عديدة لتلك الوجوه، تائهة، حائرة، متألمة، رافضة، لكنها باقية صامدة.
عندما سألتْ الفنانة نعمت عن فكرة عامة لهذا العمل، قالتْ: "هذه اللوحة رسمتها وقت انتفاضة فلسطين الأولى عام 1987. وتخيلت أن هؤلاء الأطفال، يقومون بدور الكبار والسياسيين في مقاومة الاحتلال، لقد نسوا ألعابهم: الطيارة الورقية".
استخدام الأسود والأبيض مع اللون الأحمر المشبع، يحمل أبعادا شكلية وضمنية في العمل.
الأحمر لون ناري حيوي يتناغم مع الأسود بأسلوب شكلي جمالي، وكناية ضمنية عن الدم- الجرح الألم- ومن وجهة أخرى كناية عن الإثارة والاندفاع، والغضب المشتعل بصمت في كينونة كل طفل منهم.
اختزلت الناصر بتلك التأثيرات في الوجوه والملامح، حساسية المشهد الواقعي في أرض فلسطين المحتلة.
عندما وظفت الفنانة عنصر الشخوص (الأطفال) في هذا العمل ودور وفكر الكبار، هنا تريد الناصر أن توصل من خلال تلك الرموز حال الطفولة المقتولة، المسلوبة ليس فقط حقها في اللعب بوسائل ترفيهية بسيطة جدا، وبأسهل الخامات والطرق، بل أيضا حقها في امتلاك ذاك العقل لطفل، من حقه أن يعيش بسبحانيته، ليكبر هو جسدا وعقلا، متناسقاً مع براءة طفولته، ويلعب ويحلم بأحلام طفولية وينام ويصحو، وإذ بالحلم تحقق، ليكبر ويكبر معه الحلم والمستقبل.
لكن أطفال فلسطين هواؤهم غبار أسود، سماؤهم تضيء ليلا والناس نيام بقنابل فسفورية، وصواريخ. أرضهم تهتز تحتهم من دبابات وانفجارات، لا مجال لطائرة ورقية، لا في سمائهم ولا في عقولهم. لا مجال لحلم صغير بحجم صُغر أعمارهم، ليكبر معهم.
حفر على الزنك 1991 |
قالت لي الفنانة عن هذا العمل: "هذا الشخص رأسه طائر، ليس لديه حيلة لفعل أي شيء، أثناء الحرب على العراق عام 1991، يديه للأعلى مفتوحتين."
يوجد في الجزء الخلفي لهذا العمل فضاء أسود، وعليه مستطيل يتمثل بالأبيض، ويظهر فيه خطوط سوداء متآكلة، دلالة على سياج ربما، وربما نافذة، أو شقْ يتوسط هذا الفضاء الأسود، ينظر من خلاله ذاك الآدمي، المتمثل في الجزء الأمامي للعمل. هيئة كائن بشري مجهول الهُوية، بأسلوب مباشر في عفوية الخطوط من غير تفاصيل لجسد أو ملامح هذا الكائن.
لا نهاية ولا بداية في هذا الفضاء، كناية عن التيه والتشرذم. الرأس مفصول ومرتفع للأعلى عن الجسد، الرأس يشمل العقل، الوعي والإدراك، أما كامل الجسد فيتكون من جزأين، الجزء العلوي رمزا للروحانية والسمو والأخلاق أما الجزء السفلي رمزا للأرض والدنيوية بكل ما فيها من حاجات ومتطلبات، مرتبط بالمادي الغرائزي.
بهذا الفصل توصلنا الناصر لعمق الألم والحرمان، وصعوبة الإدراك على الإنسان الذي يرزح تحت سطوة الاحتلال، من تشريد، وسلب، وضرب، وقتل، واغتصاب هذا الإنسان.
وبفصل الإدراك والوعي والعقل من الكائن البشري، يتجرد من إنسانيته؛ يصبح أداة مستخدمة، ووسيلة مستهدفة، لا غاية.
◄ لما البزور
▼ موضوعاتي