عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

آلهة قريش


زكي شيرخانألقيتُ نظرة على ما حوته الصالة وأنا في انتظار فنجان القهوة التي راح سامر يعدها لي. لم تتغير أية قطعة من الأثاث، لا بل أكاد أجزم أنها لم تتحرك من مكانها، حتى الرائحة ما زالت كما هي. كأني كنت قبل دقائق أربع هنا وليس أربع سنوات. عاد سامر. قدّم لي فنجانا، أخذ الآخر. جلس على الأريكة المقابلة لمقعدي. ارتسمت على شفتيه ليست تلك الابتسامة التي عهدتها.

"لا بد وأن أمرا مهما دفعك لزيارتي، متى كنت هنا آخر مرة؟"

"على ما أذكر منذ أربع سنوات".

"وزدها أشهرا".

لم أعلق، لا أحد يستطيع أن يتحدى ذاكرته.

"ولكني رأيتك بعدها".

"منذ سنتين في مجلس عزاء عبد الوهاب".

"اشتقت لقهوتك".

"لا أظن أن هذا سببا يدعوك لتجشم العناء ناهيك عن المخاطر. منذ اتصالك وأنا أحاول أن أخمن دوافع زيارتك. لم أجد غير الدعوة لتأسيس حزب جديد".

"أتعتقد أن البلد بحاجة للمزيد؟"

"السوق السياسية مفتوحة لمن يملك بضاعة".

"أتعتقد أن بضاعتي ستروج؟"

"على الأقل هي أفضل من كثير مما هو مطروح. كل ما تحتاجه هو القوة لعرض بضاعتك وهي متوفرة ولا تحتاج إلا إلى بعض المال لشرائها، والمال متوفر، فهناك العديد ممن هم على استعداد للدفع".

خلال السنوات القصيرة المنصرمة وأنا ألمس التغير الذي طرأ على سامر. ما يطرحه فقاعات هزلية تغلف مأساة عميقة. لم تنقطع صلتي به عبر الهاتف.

"سامر نحن بحاجة إليك في الجريدة. في الحقيقة أنا الذي طرحتُ أسمك على رئيس التحرير، وأسهبتُ في ذكر مزاياك".

"لكنك تعرف أن لا رغبة بي في أية وظيفة".

"لم أفكر بتوظيفك، كنت أفكر أن تكتب للجريدة".

"أكتب لها؟ من أنا حتى أكتب في صحيفة؟"

"لا تبخس قابلياتك".

"ما قصدته أني أسم غير معرّف مقارنة بالمئات ممن تنشر لهم الصحف اليومية والأسبوعية. الأسماء اللامعة أصبحت أكثر من أن تحصى".

"سامر، أنت مختلف عن الجميع".

"لا تبالغ يا رجل".

"لا أذكر إلا الحقيقة، لك قابلية فذة على التحليل إضافة لأسلوبك الشيق في إيصال الأفكار".

ابتسم وهو يقرّب فنجان القهوة من فمه. أردف:

"حتى على فرض موافقتي، وهذا محال، فلن تستطيعوا نشر ما أكتب".

"أؤكد لك أن لا خطوط حمراء تتوقف عندها".

"ما أكتبه لا يرضي أيا من الأطراف".

"وهل نكتب إرضاء للآخرين؟"

"كونوا واقعيين، الجهات جميعها متنفذة بسلاحها وتستطيع الوصول إلى أي منا وتقتص منه".

"لا تذكر أسماء".

"هذا أول الخطوط الحمراء".

"أسمعني يا سامر، نحن بحاجة لك، البلد، الناس".

"أسمعني أنت يا أحمد...

قاطعته:

"لا توقع باسمك الصريح، أختر ما شئت من الأسماء".

"إما أن أكتب باسمي الصريح وهذا ما لن تحمد عقباه، وإما أن لا أكتب بالمرة. لن أتخفى كالخفافيش".

"لكن...

قاطعني هو هذه المرة، وكمن كان عليه أن يكمل جملة:

"إضافة إلى الصحف المطبوعة هناك مئات المواقع. البعض مما يُنشر فيها يرتقي لمستوى رفيع. والبعض مما يُنشر لا أستطيع أن أزيد عليه. البعض ممن يكتب في هذه المواقع على إطلاع واسع بالخفايا. أشعر أحيانا وأنا أقرأ أن الكاتب لا بد وأن يكون ضمن مجموعة صنـّاع القرار".

سامر لم يتوقف عن الكتابة ولكنه لم ينشر البتة. البعض من المقربين وأنا منهم يقرأ ما يكتبه. استأذنته ذات مرة في أن أحتفظ بنسخة مما يطلعني عليه. أردد دائما على مسامعه "من المؤسف أن لا يطلّع الناس على ما تكتب".

التفتُ ناحية الجدار على يميني. نفس اللوحة ما زالت معلقة وتحتها خـُطَ "أينما وجد الظلم فذاك هو وطني". قلت له وعيناي ما زالتا عالقتين في اللوحة:

"ما زلت تحتفظ بصاحبك لحد الآن".

"تأسيا على زمن كان الحلم بحياة أفضل خبزا يعتاش عليه من ظـلم".

"أو تعتقد أن الحلم تبخر؟"

"تحول موتا يتمناه من لا يستطيع دفاعا عن ذاته".

كان الألم يعتصرني أمام الحزن واليأس والإحباط الذي حوّل سامرا إلى شبح إنسان. كان داخله يحوي المدينة الخربة التي وشمت جدران أبنيتها رصاصات الكلاشنكوف وأحدثت قذائف آر بي جي فيها فتحات تطل من خلالها عيون أطفأ بريق طفولتها الفزع، وتتراكم في أزقتها بقايا البطون المبقورة والجماجم المهشمة والأوصال المقطعة. الموت يتربص في منعطفاتها، وتزكم الأنوف رائحة الفناء المشبع به جوها.

لم يتحمل داخلي إلا حي مُخرّب من أحياء المدينة، وفي داخل عبد الوهاب قبل رحيله كنت أرى حيا آخر، وغيرنا كثر. سامر وحده الذي حوى المدينة بأكملها، بكل ما فيها. وحده الذي لم يستطع أحد أن يزايده على عشقها، وعلى حزنه عليها، لذا فقد كانت بقعة حزنه أكبر.

"متى يأن خروجك من هذه القوقعة التي غلفت بها نفسك؟"

كمن أفاق من سبات، رفع عينيه عن السجادة مستغربا. أردت أن أوضح له ما قصدته:

"ليس الذي أنا فيه حزنا، إنه الصدمة التي لم أستطع أن أفيق منها. توقعت أمورا كثيرة إلا ما نحن عليه الآن. لِمَ؟"

لمحتُ حيرة الأطفال ترتسم على محياه صحبة سؤاله. قبل أن تتشكل الإجابة في ذهني، أكمل:

"أكان إيماني بمن تقيئهم الزمن الرديء، ولا أقول إيماننا، كمثل إيمان قريش بهبل واللات والعزى ومناة؟"

رفع يديه وبسط كفيه وهو يقول:

"إن لم تنفع آلهة قريش قريشا، هي لم تضرهم، لكن هؤلاء يدمرون، يسحقون، يبيدون. سميتهم أنت في إحدى مقالاتك "أمراء الحرب"، وسماهم غيرك "أمراء الطوائف". سموهم بأسمائهم التي يستحقونها، هم "آلهة الفتن". هم الديدان التي لا تستطيع نهش جسد إلا بعد هلاكه. هم يريدون تحويلنا إلى فطائس كي يرتعوا في لحمنا المتهرئ".

لم يكن أمامي إلا أن أعتذر منه.

"آسف يا سامر أن سببت لك كل هذا الألم".

"لم تفعل إلا ما جعلني أخرج ما بداخلي صوتا بدل أن يسطره قلمي أحرفا".

محاولة مني للخروج من مستنقع اليأس الذي رماني به سامر، طرحت سؤالا ساذجا:

"ما الحل؟"

نظر لي كمن أخذ على حين غرة. أطال نظره قبل أن يقول:

"كل المشاريع التي طرحها من روّج لها فشلت. كلهم أخذتهم العزة بالإثم، وما زالوا مصرين على الاستمرار فيها على أمل أن يسقط الخصم، صاحب المشروع الآخر".

كان الوقت يمضي سريعا وعليّ أن أغادر فالمسير غير آمن حتى قبل أن يغيّب الأفق الشمس. "وهل المسالك آمنة في رابعة النهار؟"، هذا ما راودني من سؤال. أيقنت أن مسعاي خاب. لن تستطيع قوة أن تمنعه عن الكتابة، ولن يستطيع أحد أن يقنعه على نشر ما يكتب.

ودعني عند الباب. طلب مني تكرار الزيارة. ساورني إحساس أنه يحتاجني بعد أن كنا جميعا نحتاجه عندما كان اليأس يجاورنا، فمنه كنا نستمد الأمل وربما العزيمة.

من يقود سيارته في مثل هذه الساعة التي يحث الجميع خطاهم للعودة إلى بيوتهم عليه أن يستعير حواس إضافية لخمسته. عليه أن يتنبه لكل متحرك في الشارع، لكل إشارة صادرة من حاجز أمني، لكل ومضة ضوء من موكب سيارات ينطلق خلفه، لكل دوي انفجار، لكل جنون قد يصاب به أفراد دورية فيمطرون كل ثابت ومتحرك بوابل رصاصهم وقذائفهم. ولكني، باستهتار غير متعمد، كانت حواسي وما استعرته قد مُنحتْ إجازة مفتوحة ما أن فتحت بوابة ذكرياتي مع هذا الرجل.

إن كانت سنوات الدراسة قد جمعتنا، سامر وعبد الوهاب وديار وأنا وقتيبة، فإن الهم جمعنا بعد أن غصنا في تفاصيل الحياة، وظيفة، زواج، أولاد. كنا نجتمع بين الفينة والأخرى في بيت أحدنا. النقاش السياسي هو الأمر الوحيد الذي لا نمل منه. في إحدى جلساتنا قال ديار:

"زوجتي نبهتني إلى ضرورة أخذ الحيطة في أحاديثنا فالجدران لها آذان على حد تعبيرها".

قال قتيبة وإمارات الخوف بانت بوضوح على قسمات وجهه: "أيمكن أن يُسمع خوضنا في السياسة؟"

رد سامر بخبث: "نعم، كل شيء جائز، فقد يلقى القبض علينا بتهمة تشكيل تنظيم معاد للسلطة".

قال عبد الوهاب متكلفا الجد وكاتما ضحكة كادت تفلت:

"ليت هذا يحدث، فبعد عدة جلسات تعذيب يطلق سراحي لأنهم سيكتشفون أن الأمر كله لم يتعد ممارسة ترف ممنوع. عندها سأرحل إلى دولة أوربية حاملا معي آثار نضالي السياسي على جسدي فأمنح اللجوء السياسي بامتياز وأتخلص من هلعك يا قتيبة".

فجأة، تنبهت في الوقت المناسب لإشارة صدرت من حاجز. ببطء توقفت عنده. الجميع يرتدي بزات رسمية. السؤال الأوحد الذي حضرني "هل هؤلاء فعلا أفراد شرطة أم متنكرون بزيها؟"

اقترب أحدهم ببطء وحذر وبندقيته الآلية موجهة نحوي. لم أدر إن كان من المناسب أن أخبرهم أني صحفي وعندها لن أتعرض للتأخير إن كانوا حقا أفراد شرطة، وإن لم يكونوا كذلك فقد تكون نهايتي.

"سيُقضى عليكم جميعا، الواحد تلو الآخر. حرية الرأي هراء يردده الساسة. أنتم تقوضون أركان السلطة المذهبية والعشائرية والفئوية التي يرتكز عليها هؤلاء المتشدقون".

"هذا ما أراده صاحبك، جيفارا، عندما قال "إن الطريق مظلم وحالك، فإن لم نحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟"

تذكرت هذا الحوار الذي جرى بيني وبين سامر ذات مرة. زادت نبضات قلبي عندما خرق طبلة أذني صوت أجش يأمرني بالترجل من السيارة. وأنا أفتح باب السيارة وقع نظري على سبابته وهي تتلمس طريقها نحو الزناد.

D 26 شباط (فبراير) 2015     A زكي شيرخان     C 2 تعليقات

2 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 105: التسامح والمساواة والآخر في ندوة أدونيس

إشكالية تطبيق المصطلح اللساني في الدراسات اللغوية العربية

الجسد والقلب والعقل

هل سرق طه حسين رواية "منصور" لأحمد ضيف؟

قراءة في رواية مولانا