شيخة حسين حليوي - فلسطين
سأكون هناك
لم أكُن أجدُ حرجا كبيرا في الكذب عليها، الكذب عليها بالذات. كنّا جميعا نُخفي عن أمّهاتنا أمورا ونكشف عن أخرى. حتّى تلك التي نختار البوح بها نغلّفها بعناية مصطنعة كما نغلّف الهدايا الرخيصة. نغلّفها ببعض كذبٍ ناصع البياض.
كلّ ما أخفيتهُ عنها ما كنتُ أراهُ يندرج في إطار "التْشِذِبْ" (الكذب)، ولم يكُن بالتالي يستحقُّ ما تنزله بي منْ عِقاب بعدَ أن يصفعها "تِشذبي" ويحرجها أمام الآخرين.
كُنتُ أحتاجه، الكذب، كما أحتاجُ أن أكون، أن أكون منهم، منهنّ: طوني، جوليا، مها، إيهاب، نادرة، تشارلي ... أحتاجه حتّى أتسلّل من خيمة البداوة وأعيش منفاي المؤقّت بسلامٍ. أحتاجه كي أقتل القبائل... وتحبّني هي، وهي كان حبّها عميقا باردا جارحا. لا يكادُ يطلُّ بسمةً أو قبلة متردّدة إلا و"تُكْصُف" عمره كما "تُكْصُف" عمري بدعائها عليّ في لحظات غضبها.
"سَوَّدْتِ وِجْهي كُدّام الراهبة. خلّيتيني كَدِ اللُكْمَة. شْنو وِدْها تْكولْ عِنّي هسّا؟ مي عارْفَه تربّي بِنْتها؟"
"يُمّة..."
حُمَّة وحيّة جَدْرة. ما تِسْتَحي عحالِتش. وِدّتش تُدُشْري؟ تِتشْذْبي عليَّ؟ والله لَكْصُف عُمْرِتش".
الراهبة البريطانية، سيستر بيرن (sister Bern) وأمّي تفصل بينهما عصور من النهضةِ، وتلتقيان في ضرورة تهذيبي. الأولى تنعتني بالغجريّة كلّما خالفت قوانين المدرسة الصارمة، والثانية تخشى أن أصير غجريّة يوما ما. أنجو من شِرك البداوة لأقع في فخّ الغجر.
كانت أقراطي وأساوري الملوّنة تتضاعف كلّ شهرٍ، والراهبة التي نذرت نفسها للمسيح والدير تنزعها عنّي واحدة واحدة بقسوة مؤلمة تطهّرني بها من أدران "الشرق المتخلّف"، ثمّ ترميها في علبة على مكتبها مُعَدّة للخطايا الصغيرة، عن يمينها تمثال الأم وابنها وعن يسارها صليب نازفٌ.
شَعري كان يزداد جنونا وعنادا وأمّي تزداد خوفا ورعبا، فيصير قَسَمُها أكثر قدسيّة:
"واللهِ واللهِ ما ترافكيني هيتش، لو تموتي ما تمشي معاي بالشارع وشعْرِتْش هيتش".
وكي أتجاوز عقدهما وظنونهما، تلك الأوروبيّة رسولة المسيح، وتلكَ البدويّة رسولة الخوف، سيصبحُ الكذبُ عندي أكثر ضرورة وحيويّة. كي أتجاوزني وخوفي كان لا بدّ أن أكذب.
شاءت الأقدار في ذلك الأحد البارد أن تلتقي أمّي عند بوابة المدرسة المغلقة بالراهبة الّتي تكشف لها بإنجليزيّة بريطانيّة أنّ ليس هناك أيّ معلّم أو أيّ طالب في المدرسة، وأمّي التي لم تعلّمها الحياة سوى اللهجة البدويّة لغة حياةٍ وغضبٍ وصمتٍ، فهمت أنّ ابنتها التي خرجت صباحا من البيت بحجّة مراجعات يقوم بها المعلّمون قبل امتحانات الثانويّة العامّة، "تِتشْذِبْ" أو "تِشْذْبَتْ" عليها.
في تلكَ اللحظة تساوى عند أمّي فعلُ العارِ وفِعلُ الكذبِ. لا فرقَ بينهما، فالثاني يُمهّدُ للأوّلِ، والأوّل يكشفهُ الثاني. والراهبة تجدُ في هذه الخطيئةِ فرصةً لا تُعوّض لتكون أكثر صرامة وقسوة في تعاملها معي. ستجدُ متعةَ مُقدّسة وهي تؤنّبُني في مكتبها في اليوم التالي:
"Look at yourself! You are like a gypsy!" [أنظري إلى نفسك. أنت مثل غجرية].
كلّ واحدة منهما رسمَتْ لي خطيئة على مزاجها. خطيئة تتراوح بينَ التسكّع مع صديقات موصومات بالمدنيّة المُنفلتة، وبينَ، وهذه الخطيئة المُميتة، لقاء سريّ مع حبيبٍ "يتلاعب" بمشاعريّ العذراء.
قطعنا شارع عبّاس باتّجاه محطّة الباص، خطواتها بعيدة ووجهها أيضا. ما كنتُ أخافُ عقابها وقد حفظتُه واختبرته. كانت تمشي بسرعة وتنظر خلفها. كلّما اختصرتُ المسافة بيننا اتّسعت خطواتها.
أمشي وراءها وأدندنُ كلمات الأغنية التي سمعناها أنا ونادرة أكثر من عشر مرّات خلال النهار. الراديو الذي تحتكره أمّي في البيت ما كان ليتيح لي فرصة سماع أغاني الغرب المجنون.
Time, it needs time To win back your love again I will be there, I will be there Love, only love Can bring back your love someday I will be there, I will be there |
وقت، تحتاج إلى وقت استعادة حبك ثانية سأكون هناك، سأكون هناك الحب، الحب فقط يمكن أن يرجع حبك يوما ما سأكون هناك، سأكون هناك |
وصلنا المحطّة. استدارتْ وهمست بغضب: "وِلتشْ إنتِ ما تِسْتَحي؟ كمان تْغَنّي؟ هاظا يلي تتعلّميه مِنْ صاحباتِش الدّاشرات؟"
هل كانت ستصدّقُ يومها أنني تعلّمتها من أكثر الصديقات بُعدا عن الخطيئة وقُربا من الله؟ هيَ لا تُصدق إلاّ بعد أن تنتفي الحاجة للكذب، بعد سنوات.
6 مشاركة منتدى
سأكون هناك, إبراهيم يوسف - لبنان | 3 آذار (مارس) 2015 - 14:15 1
شيخة حسين حليوي - فلسطين
سأكون هناك
نصٌ ساحر يستحق الشكر والتصفيق .. التصفيق طويلا
يَمَّة.. هذا جدول ينساب في حصباء
أنتِ مغبونة جداً.. لو رضيتِ أن تبادليني نصك بما أعتقده من أحلى ما كتبت.
يَمَّة.. جميل جداً أن تتحول الكاف شيناً، وتتحول القاف كافاً.. ويتحول الكل إلى نبضٍ في القلب.
مع خالص محبتي وإعجابي وتقديري
1. سأكون هناك, 17 آذار (مارس) 2015, 18:02, ::::: شيخة حسين حليوى
المعلٌقين الكرام...
أثلجتم صدري بكلامكم. شكرا لقراءتكم شكرا لآرائكم...تعني لي الكثير الكثير في بداية متأخّرة ومتعثرة.
بكم سأزهر ويزهر حرفي.
شيخة حسين حليوى
سأكون هناك, ايناس ثابت اليمن | 3 آذار (مارس) 2015 - 20:11 2
نص لطيف، والكتابة بالعامية الفلسطينية نثرت عليه سحرا محببا.
تحياتي لك أستاذة شيخة، ولمن لفت انتباهي لقراءته.
سأكون هناك, مريم -القدس | 4 آذار (مارس) 2015 - 14:29 3
صحيح هو نص "شلبي شلبي " جميل جميل ..
يجب التصفيق والإنحناء لهذه اللهجة التي هي من تراثنا الفلسطيني
الأصيل
استمتعت "هسه "الآن " بقراءة النص ..
لك مني ألف تحية
سأكون هناك, هدى الكناني | 4 آذار (مارس) 2015 - 18:15 4
شيخة حسين
ما هذا الخليط الساحر من الانجليزية و هذه اللهجة التي فيها قرب كبير للهجتنا العراقية وما فطنت الى انهالتشذب تلفظ كما نلفظ حرف الch كالchair
جعلتني احب التشذب من كثرة ماذكرتيه وياله من تشذب مشاكس كمشاكسة طفل بريء كل ذنبه ان له طاقة لا يمكن إلا ان يطلقها.
نص لذيذ مشاكس كشعر الغجريات جميل كجمالهن وحنون كثورة الام خوفا على ابنتها .
امتعتنا.
بالتوفيق
سأكون هناك, هدى أبو غنيمة الأردن عمان | 4 آذار (مارس) 2015 - 20:33 5
أ/شيخة حسين نص رائع ولو رافقته موسيقى تصويرية ,لتخيلت موسيقى زوربا أما المزاوجة بين اللهجة المحكية الشفاهية والمكتوبة فقد أضفت تلقائية وعفوية ,وأثارت شجوننا وفلسطين جرحنا النازف سلم قلمك أيتها العربية الحرة .
سأكون هناك, أشواق مليباري | 5 آذار (مارس) 2015 - 06:38 6
الأستاذة شيخة
نص "صادق" هذا ما أراه حقا
نكذب ونعترف للأمهات ربما متأخرا جدا أو لا نعترف
لكننا لا نملك الجرأة حتى الآن للإعتراف أمام أولادنا
نص جميل
أما الشين المضافة
فهي ليست عامية يا أخوة العرب
بل هي لهجة عربية كانت تسمى قديما (الكشكشة)وهي لهجة ربيعة ومضر
وتكون بإبدال الكاف شينا أو إلحاقها بشين في خطاب المؤنث.
وأما الشعر
فأقول لك كما أقول لإبنتي حين أصفف لها شعرها:
والشعر الغجري المجنون يسافر في كل الدنيا..
تحيتي