هدى التومي - تونس
التقنية الغرائبية في النحت المعاصر
الاختراق من خلال الممارسة التقنية الغرائبية في النحت المعاصر
يعدّ الاختراق ممارسة مبنيّة أساسا على فعل تتحدّد ملامحه في الانتهاك والتجاوز والتخطّي والتّعدي وجلّ المصطلحات التي تقوم على الخروج عن القواعد والثوابت المتعارف عليها، فنتحدّث مثلا عن انتهاك القوانين أو خرق قاعدة معيّنة أو انتهاك المحرّم.
تقوم الممارسة المخترقة على مبدأ عدم الخضوع لأمر مّا، وتقوم أيضا على مواجهة أمر مّا. وهي تعتمد بالظاهر على شكل من العنف في تحقيق أهدافها، فهي تتبنّى الاختراق لأنّها تؤمن بأولوية الفعل وأصالته مقارنة بالنظم والمعايير القائمة.
ولعل الاختراق يحضر في هذه الدراسة في كونه يعد محاولة لتجاوز المنع، أو هو بصيغة أخرى منع للمنع، فالمنع والتحريم من الأمور السلبية الارتكاسية، التي من ناحية توهمنا باستعلاء من يمنع ولكنّها تكشف من ناحية أخرى عن تبعيّة، فهي تؤشّر على الفعل: "الضعفاء هم الذين يمنعون الفعل" حسب نيتشه.
الممنوع يثير الاختراق ويدفع إليه. فقد يثيره سلبيا لما يتضمّنه من نقص أو تصريف للذة والمتعة. ولعل الفنّان يريد أنّ يستهلك المجال الممنوع باسم الأخلاق والقيم. شكل من أشكال زيادة اللذة في الممنوع، فالمخترق يتخطى الممنوع بهدف زيادة قيمة اللذة. ومقدار الإثارة يزداد كلّما زادت ملامستنا والتصاقنا بموضوع المنع.
وبالتالي ربما يمكنني القول إنّ ثمّة إغراء إضافيا يظهره فعل الاختراق في الممنوع، وهو إغراء تكبته القيم، فالاختراق كشف وإظهار لحقيقة الموضوع الممنوع. والممارسة الاختراقية ليست إباحة جماعية أو اجتماعية أو أخلاقية للممنوع، بل هي إظهار لمواطن الإثارة في الممنوع، وهي دعوة للتأمّل فيه مرّة ثانية لتجاوز الطمس، لتجاوز ما يطمسه وما يهجّنه وما يحقره لجعل المنع في موضوعه. قد تكون هذه المظاهر هي الوجوه الأساسية للفعل.
يفتح الانزياح عن الدأب الدارج في اعتماد وتوظيف تقنيات النحت مجال التساؤل العميق حول مفهوم المادة والتقنية في مجال النحت وسبل استثمارهما تشكيليا، وأبعادهما الدلالية في العملية الإبداعية. ومثل مفهوم الخرق كونه تدشينا لحقول إنشائية يترادف في خضمها التفكير في المعنى من خلال استقراء نشأة العمل المادي على الشكل بالانفتاح على تجارب نحتية معاصرة ممّا أنتج أعمالا تعتمد أساليب تقنية غرائبية.
يذهب عديد الدراسات التاريخية إلى اعتبار النموذج الجديد للفن يقوم على الاختراق وذلك من خلال تصنيف تاريخي يمكن اختصاره كالآتي (وأورد هذا التصنيف دون الدخول في السجال القائم بين الحداثة والمعاصرة من واقع الاعتماد المفهومي وإنّما كتميز بين حقب ومراحل في تاريخ الممارسة التشكيلية الغربية):
الفنّ الكلاسيكي: التشخيص (figuration).
الفن الحديث: التمثيل (représentation).
الفن المعاصر: الاختراق (transgression).
بيد أنّ هذا الاختزال المفهومي للحقب التاريخية الثلاث الأساسية في تاريخ الفنّ الغربي يغفل عن عديد المحاولات الاختراقية التي انتهت إلى تأسيس رؤى تجاوزيه لماهية الأثر الفنّي ولمفهومه.فحسب ناتالي هاينيش:
"قبيل الفن ّالمعاصر، كما تبلور بعيد الحرب العالمية الثانية، فإنّه مع الفنّ الحديث بدأت محاولات هدم الأسس المعرفية للأثر الفنيّ. اختراق الأسس الأكاديمية للتمثيل عبر الانطباعية، واختراق القواعد اللونية في التشخيص عبر "الوحوشية" ومن ثمّ تشخيص الأحجام عبر التكعيبية، إضافة لاختراق القيم الإنسانية عبر المستقبلية، ولمميّزات الجدّي عبر الدادائية، أو الحقيقة الظاهرة عبر السريالية، واختراق مبدأ التشخيص ذاته عبر مختلف التوجّهات التجريدية. منذ الاختزالية أو البنائية وحتّى التعبيرية التجريدية، جيل بعد جيل ، الفنّ الحديث يضع في أزمة من خلال اختراق أسس "الفن"، مخلّفا بذلك "حدثا" (scandale) في كلّ مرّة".
Ji Yong Ho | James Corbet |
هنا تكمن أهمية البحوث الإنشائية والتي تعنى أساسا بتقصي مجالات انشغال الفعل وامتداداته التشكيلية. فلو سلمنا جدالا بأن" المعنى ينشأ من الفعل المادي على الشكل" كما ذهب إلى ذلك مارك لو بوط، فهل هو تأكيد على أهمية الشكل وحتميته من واقع الاختراقات التاريخية في الفن التشكيلي والتي قامت على العمل المادي على الشكل؟ ومن ذلك الخرق الانطباعي القائم على الانتباه لتأثير الأضواء على الظلال وتوازيا موقع الأنا من الأثر من خلال تسجيل الانطباع الذاتي على المحمل، أو الخرق التكعيبي والذي يعود أساسا إلى الانتباه إلى البعد الزمني للأثر فتمظهرت تبعاته شكليا من خلال توجه بيكاسو في الآنسات دافينيون نحو إبراز الهيئة في نحو تقابلي وجانبي في آن واحد. وحتى الخروقات السريالية ومن أبرزها خروقات مارجريت والتي قامت على دفع البعد المفهومي في الأثر من خلال حضور الشكل مترافقا مع الكتابة في أثره "هذا ليس بغليون"؟
ثم ألا يتقاطع مثل ما سبق مع الخرق "الأكبر" في تاريخ الفن من خلال مبولة ديشان التي أضفى بها رؤية جديدة لمعنى الفعل، فأتت تبعاته إلى قلب المعادلة الإستيطيقية من خلال تعويض الفعل الإخفاقي المرافق لزاما للممارسة التشكيلية بالاستعادة؟
وهكذا ربّما يمكننا الإقرار بأن فكرة استقصاء الأفعال الإجرائية تفتح آفاق التساؤل حول التقنية في تقنيات النحت.
بيد أنّ الدفع المتنامي للأفعال الإجرائية يحيلنا نحو تعقّب المواد المعتمدة وتنوع تمظهرها، فاستعادة أطر مطاطية يختلف عنه وتوظيف الخشب المهمل واعتماد حامي الإطار لطبيعة التكوين الكيميائي لكلّ مادة.
كما أنّ تمظهر كل مادة وغرابتها وطرق معالجتها تمنح تمظهرا متنوعا للأثر النحتي، وبالتالي سبل استثماره في نسيج التكوين الشكلي. وأهمية المواد ونسيجها الكيميائي وطرق توظيفها يحيل لاستبطان تمظهرها الشكلي. ومن ناحية ثانية، تقصّي واقع الغرابة في اختيار المواد ولحظة عرض الأثر النحتي والقائم على استعادة المهمل والمتلف وتوظيفه في نسيج نحتي.
Edouard Martinet | Greg Brotrton |
= = = = =
عينة من المراجع المتوفرة
كمال عيد، فلسفة الأدب والفن، الدار العربية للكتاب، ليبيا-تونس، 1991.
غاستون باشلار، شاعرية أحلام اليقظة، ترجمة جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2001.
بيار هيبر، زرادشت نيتشه، ترجمة أسامة الحاج، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسة والنشر، 1994.
النقد البنيوي للحكاية، ترجمة: أنطوان أبو زيد ، منشورات عويدات، بيروت، 1988.
◄ هدى التومي
▼ موضوعاتي