عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

زكي شيرخان - السويد

إصابة


زكي شيرخان"أهلاً يا دكتور". قالها بوهنٍ بادٍ، ذلك الرجل ذو الوجه الشاحب والعينين الغائرتين في محجريهما، الممدد على السرير.

أومأتُ برأسي رداً على تحيته دون أن أنطق.

استدار برأسه نحو الواقف إلى يساره والذي سبقني إلى الغرفة كأنه يريد الإذن بدخولي، وقال له: "أحضر شايا أو قهوة للدكتور واتركنا وحدنا".

= لا داعي لأي شيء.

= ستحتاجها بالتأكيد.

رد، وشبح ابتسامة هازئة ارتسمت بصعوبة على شفتيه: "تفضل أجلس".

أجلستُ نفسي على طرف الكرسي القريب من ميمنة سريره. أُغلق الباب، نظر إليه وكأني به يريد أن يتأكد من غلقه. أدار عينيه نحوي: "أهلاً بك، أرجو أن لا يكون الأخوة قد أرعبوك".

تجاهلتُ كل ما قاله وسألته: "ما بك؟ مم تشكو؟"

أزاح الغطاء من على جسمه. جزءه الأعلى عار من الملابس. ضمادة كبيرة تغطي جنبه الأيمن. رفعتها فوجدت جرحاً غائراً مفتوحاً ينز صديداً وسائلاً داكن اللون. الرائحة كانت نتنة. سألته: "هل ما زالت الإطلاقة في أحشاءك؟"

= لقد اخترقتني وخرجت من الجهة الأخرى.

كان جلياً أنها تسببت في تمزق جزء من الأمعاء، ولربما أصابت الكلية.

= منذ متى؟

= منذ أسبوعين.

أدركتُ أنها لم تعالج على يد طبيب وإن كان الضماد قد وضعته يد متخصصة.

= والأدوية؟

= مضادات حيوية أزرق بها كل يوم مرتين.

= لا يمكن تقدير ما أصاب الأحشاء الداخلية بدون أشعة أو عملية جراحية، وهذا يتطلب نقلك إلى المستشفى.

ابتسم وهو يقول: "دعك من هذا، لا فائدة ترجى، لن أبرأ من إصابتي. ما هي إلا أياماً معدودة".

= لم إذن أستقدمتُ؟

= الأخوة أصروا بعد أن رأوا تدهور حالتي.

= في هذه الحالة، أنا آسف لا أستطيع أن أفعل شيئاً هنا.

= ألن تحاول؟ أطلبْ ما تحتاجه من أدوات الجراحة ومستلزماتها.

= هذا محال، فلا بد من غرفة عمليات معقمة...

قاطعني: "وهل هي متوفرة الآن؟"

= بالتأكيد، مهما كانت الأحوال سيئة فإنها على الأقل أفضل من هذا المكان.

= هب أنك ضمن مجموعة في مكان ناءٍ، وأحتاج أحدهم أن تعالجه بما متوفر لديك من أدوات، فهل ستتردد؟

= ذلك وضع لم أجابهه.

= إن لم يكن في السابق، فستجده ماثلاً أمامك قريباً. أنت ترى بأم عينيك ما عليه الوضع.

هززتُ رأسي وأنا لا أدري إن كنت أوافقه الرأي أم كنت أبعد عن ذهني صورة موقف مرعب كهذا. نهضت من مكاني وقلت: "لم يعد لوجودي هنا فائدة، عليك أن تنتقل إلى مستشفى".

= لو كنت أستطيع لذهبت ساعة إصابتي.

لم أنتظر طويلاً لأسمع ما أكد شكوكي التي بدأت تتنامى.

= سيُلقى القبض عليّ.

= حتى لو تم ذلك، المهم حياتك المعرضة للخطر في هذه الساعة.

= وهل تعتقد إني سأعيش بعد أن يُلقى القبض عليّ حتى لو لم أكن مصاباً؟

= لا أدري، هذا يعتمد على ما أقدمتَ عليه؛ ما فعلتـَه.

= الوقت أمامنا طويل، وأراك ستضطر لتطبيبي.

كان التهديد واضحاً في كلماته. كان لا بد وأن أبدو بمظهر المتماسك.

= ستأخذ من الأجر ما تشاء.

= أرجو أن تفهمني، لا أرفض معالجتك، ولكني لا أستطيع أن أنجز ما عليّ في هذا المكان الذي قد يصلح أن يكون أي شيء إلا صالة عمليات.

= عليك أن تفهم الموقف أيضاً، لن تستطيع الخروج من هنا قبل أن تفعل شيئاً.

لم أكن متأكداً من خروجي من هنا حتى لو عالجته. أنا مختطف بالمعنى الحرفي للكلمة. طيلة الطريق إلى هنا لم يكن يدر بخلدي إلا طلبهم لفدية مالية لإطلاق سراحي. صحيح إني لا أعرف أين أنا لأني كنت معصوب العينين وأنا أقاد إلى هذا المكان، ولكني بتُ أعرف وجوههم على الأقل الآن. هم لن يجازفوا بعد أن حفظت وجوههم.

كانت الأفكار تتزاوج في رأسي بسرعة. لم يستغرق إيجاد ما ظننته مخرجاً وقتاً طويلاً. قلت بحزم: "عندي حل".

أغمض عينيه وهو يقول: "ما هو؟"

= هناك مستشفى خاص أجري فيه عمليات جراحية بين الحين والآخر. يمكن نقلك إلى هناك، ويمكن حَبك قصة لإبعاد الشبهة، وفي كل الأحوال فالإجراءات ليست بنفس الشدة في المستشفيات الحكومية. المستشفى يستقبل الكثير من الإصابات المشابهة لحالتك.

= وكيف أضمن أن...

لم أدعه يكمل، كان عليّ الطرق بشدة طالما أن الحديد ما زال ساخناً.

= أنا مدرك بأن يدكم ستطالني إن أخبرت عنكم.

بدا أنه على وشك الاقتناع، أو بالأحرى لم يكن أمامه العديد من الخيارات. كان مجبراً على الاقتناع بما طرحته. لم أنتظر.

= ستنقل إلى المستشفى. أطلبْ أن أكون أنا طبيبك المعالج. سيتصلون بي هاتفياً. هكذا يبدو الأمر عفوياً. كلما أسرعتَ بالوصول إلى المستشفى كلما زادت فرص نجاتك.

أشرت بيدي إلى باب الغرفة، وأنا أقول: "أطلب منهم أن ينقلوني إلى بيتي، وإلى أن يعودوا، أحلقْ لحيتك حتى لا تثير الشكوك. أمر آخر، من يرافقك عليه أن يحلق لحيته أيضاً، زيادة في التمويه.

* * *

في صبيحة اليوم الثالث، كنت أقف عند رأسه وأنا أطّلعُ على الملاحظات التي دونها الطبيب المقيم. قلت له: "كيف حالك اليوم؟"

= الحمد لله.

= أخبروني أنك نمت جيداً ليلة أمس.

= نعم بفضل الحبوب التي أجبروني على تناولها.

= لا بد لك من الراحة التامة لتتماثل للشفاء بأسرع وقت. على كل يمكنك المغادرة بعد ثلاثة أو أربعة أيام. سأصف لك مجموعة أدوية عليك أن تلتزم بمواقيت تناولها. إن عانيتَ يمكنك مراجعتي في عيادتي.

= يا دكتور، هل لي بسؤال.

= تفضل.

= ما الذي دعاك لإنقاذ حياتي؟

= هذا واجبي كطبيب، وعلى هذا أقسمتُ.

= ولكن...

= لستُ رجل قانون لأحكم على ما قمتَ به، حتى لو كانت لي السلطة لمقاضاتك فعليّ أن أحافظ على حياتك أولاً. أن أخفف آلامك. أن أعاملك كآدمي.

توقفتُ عن الكلام وأنا أتطلع لوجهه. تلاقت نظراتنا. قلت: "لم نـُخلق ليعبث كل منا بحياة الآخر. لم نخلق كي ننصب أنفسنا حكاماً على الآخرين، لننهيهم".

لم أنتظر منه رداً. استدرت مغادراً الغرفة، وبهدوء أغلقت الباب خلفي، وفي رأسي سؤال: "ما الذي يدور في رأسه الساعة؟"

D 27 حزيران (يونيو) 2015     A زكي شيرخان     C 2 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 109: التحريض في برامج الدردشة

اللغة الأمّ في الجزائر

العود وحضوره في القوالب الموسيقيّة

الموسيقى في أسلوب طه حسين

دوستويفسكي: رائد الرواية النفسية