حاتم الشبلي - السودان
أحوال كائن
اتكأ على شجرة سيال عجوز وقد شبك يديه مع بعضهما ووضعهما على ركبته المنثنية، حيث مدد رجله الأخرى على الأرض وأغمض عينيه دون أن يقصد، وراح يبحر مع موسيقى خاصة.
رأى وريقات شجر النيم والمانجو والجوافة التي بدت أمامه تتراقص في طرب وعذوبة، وحطّ الدباس والبجابجا والعصافير الصغيرة على الأغصان المتشابكة التي تظهر من بعيد كجزيرة معلقة أمام الوادي المتسع.
وبعد حين، عندما بلغت الجغرافيا كامل طربها، توافد الناس ليسمعوا ويطلقوا أرجلهم وأجسادهم للرقص والحبور الوسيع.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أتت جماعات مختلفة الأشكال والسحنات وأغرقت نفسها في مشاركة الحال. وقد قيل فيما بعد أنهم بشر آدميون أتوا من مجرة صديقة، ولكنّ شيئا ما كان يقلقه.
كان قد مر اليوم السابع وهو لايزال مستسلما، ساكنا كالوحل، مستلقيا كمريض حديث الشفاء على سريره المتسخ بأفكار لا تتعلم من رواة الحديث القديم، الأمر الذي غيبه تماما عن المطعم الذي كان يرتاده لتناول وجباته اليومية، وبالتالي تواريه عن أصدقاءه اليوميين الذين افتقدوه بعد أن علموا من صديق يساكنه أنه على غير عادته في هذه الأيام.
قرروا أن يزوروه في الحال وزودوه بالمريسة والحليب ولحم الضأن غير التجاري. ابتسم وجهه أمام لطف أصدقاءه واهتمامهم. وادعهم، ثم مضى إلى حيرته الأولى، ضبابي التفكير، كسولا لا كما عهدوه، قانعا بالسرير الخشبي المهترئ ككرة أرضية تخصه وحده.
وصلت دوريات من شرطة المساء إلى المكان، ربما بمساعدة بعض الارتيابيين الذين جندتهم هالة القانون وصاروا يتجسسون على حركات الأقدام والأفخاذ أثناء طقوس المرح والرقص، وعلى أولئك الخارجين عن الزمن المعهود بملاطفتهم العنيدة لذواتهم.
كان هؤلاء الغزاة يرتدون أثوابا صفراء من زاوية استعصائها على البصر، ولا يخافون في توهمهم لومة محلل نفسي خبير، أو فتى سليط اللسان صار يوبخ بكل الكلمات التي عرفها ولم يعرفها قائدهم الموتور، إلى أن صفعوه على وجهه عدة مرات وجروه كشوال فحم وأوسعوه ضربا.
حينها صاح قائدهم: أيتها العصافير، لنشكل الرقم 8، وفي أقل من لمح البصر رأي العالم، صورة العصافير في أقصى حالات تأهبها، وعلى هدي ذلك نهض.
أمسك بأقرب عصفور لا زال يحاول أن يتشكل، وصار جزءا منه. صاح القائد العصفوري مرة أخرى: "أنشودة العصفور السعيد".
حدث ما حدث، اختفت دورية الشرطة. وقيل فيما بعد إن شيئا ما كان يجعله قلقا بعض الشيء.
ولا يزال يراها تشغل نفسها بمحاولة التخارج السريع والفطن من تلك الأطياف ذات الإبر العسلية، ولو
عبر الورقة المكتوبة سلفا بذات الحبر الأسود وربما في ظروف واقعية مشابهة، وحتى عبر الانخراط في لعبة الصور، وتتأسف على فشلها المحسوس في كل ذلك فتتحرك الأصابع على كيفها، ويتلاقى الجفنان ويفترقان بلا سبب، ويقيم الزفير (علاقة تبادل حراري) عجولة، وتنصت الغرفة الباردة لمعزوفات وأشباه سيمفونيات غير محددة، تستعصي على المتابعة ولو بأذن واحدة، وتستمر في ذلك دون جدوى، دون جدوى حتى لو استعانت بمثل تلك النوتات والأحرف الموسيقية التي يستخدمها أناس من كواكب أخرى.
إنها ممتلئة حد الكثافة، حتى شك الدماغ في قدرته على الاحتمال، ولأن التفاصيل الصغيرة لا تسكن عادة في الذاكرة، وإنما تستريح قليلا هنا لتواصل تسكعها بين أزقة الخاطر، لا يعود للذاكرة سوى (ماهية) هي إرادة التحقق في الآن، فتصرخ اللحظة بأعلى جنونها وطفوليتها، وهو بالضبط ما يجعل التخارج عسيرا، أو يهب الشكل الدائري للرقم واحد .
قال لنفسه من بعد ذلك، النحت أول الفنون التي مارسها الإنسان. الموسيقى تستفز الشاعر والروائي والميكانيكي، وهنالك التصوير، والرقص، والتمثيل، ولهذا لابد من فهم الفنون بطريقه جديدة، مؤتمر ما، تعقده آلهة الجمال على كوكب الأرض بكل مناطقها اللغوية والجغرافية والثقافية، لتصل إلي توليفة ما، تصل الوتر بالكلمة الشاردة، والحرف المنبوذ بموائد الكسالى المتكئين على ثقافة ما وراء الحياة، والنغم البدوي بصوت الوردة، لتصبح الجغرافيا أوسع مما يخاف لصوص المساحات.
غمزته شجرة السيال، أومأت له بأن هنالك من يراقبه، فهم مقصدها، استلقى على الأرض متناوما عله بذلك يوصد نوافذ الخيال، ولكنه وجد نفسه يحلم بذلك الانتصار، ويرى كل شيء أمامه عيانا بيانا، كما في الصحو.
◄ حاتم الشبلي
▼ موضوعاتي