عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

نازك ضمرة - الولايات المتحدة

رواية عفان بن نومان: مقتطف


أدناه مقتطف من رواية لم تنشر بعد عنوانها "عفان بن نومان".

نازك ضمرةبرغم وجود عفان أسيرا، إلا أنه حكم عليه بالعمل في معسكر حصين قرب اللد خلال سجنه سنتين. لم ينس سلوم يوما قسوة التعذيب الذي عاناه على اجدي محققي الاستخبارات العسكرية، والعسكري البولوني، والعسكري الفرنسي، والعسكري البريطاني، في الوحدة التي ألقت القبض عليه في أرض أجداده.

يسأله المجند الإسرائيلي الفلسطيني عن اسمه، بلهجة عربية فلسطينية لكن بلكنة خواجاتية.

= "اسمي سلوم. سلوم يا خواجه، سلوم".

انتهره المجند البولوني الأصل هازئا: "شلوم؟ أنت نو شلوم أنت آراب خراب، أراب خرا أراب".

= " أقسم لك أن اسمي سلوم أو سلام. أهلي كانوا يلقبونني عفّان في طفولتي لكنني لست خرّاباً يا خواجة".

= "أنت خراراب ، خرا . . . أراب".

يصدمه بكعب البندقية في يده اليمنى تحت الكتف، تنطلق قنبلة مدوية من مؤخرة عفان، وحين صدمته الضربة التالية في صدره يسقط سلوم على الأرض منقطع الأنفاس، تنبثق دفعة جديدة قوية من البراز الرخو من أسفله، يحسّ بالسائل الحارق يبلل ملابسه وحتى قمبازه الفلسطيني التقليدي، لم يكن يرتدي سروالا يومها، لأنه في الخلاء ولسرعة الاستجابة للإسهال.

ارتفعت قدم أحدهم لضربه وهو ملقى على الأرض، لكن الجندي الدرزي شدّ المجند الحاقد للوراء، فنزلت حذاؤه الضخمة على كتف سلوم، صاح سلوم من الألم، حاول أن يتقلب ويتلوى على أرضه، وكلتا يديه تحيطان بحذاء الرجل، وتمسكان بها بكل ما أوتي من بقية قوة، يضغط عليها ليبعدها عنه، أو ليضعها على الأرض، وهو يتوسل له أن لا يعيد الضربة. تعب فأفلتت القدم وهو يحاول أن يتحسس مكان الضربة، لكن الشلل بدا ظاهراً والضعف على حركة ذراعه،

نظر سلوم حوله وهو ملقى على الأرض فوق الأعشاب الجافة والأشواك، وعلى الأرض التي خلفها له والده، لكنها ارض رحيمة مهما قست عليه، فهي ملجؤه ومصدر رزق العائلة الفلسطينية، تعيش على خيراتها ونتاجها.

يستطلع أعين الجنود المحيطين، صوب نظره للمجندة السمراء، تكلمت معه بلهجة عربية مغربية سريعة. سألته المجندة المغربية:

"لماذا تأتي هنا إلى أرض إسرائيل؟"

= "لم أعتد على ارض أحد، هذه أرضي، أنا أحب ارضي، حضرت لتفقدها، ولمعرفة ما يلزمها، لأننا نحب أرضنا ونستفيد منها، ولم يصدف أن تعذبت أو أصابني ضرر من زيارة ارضي واستغلالها، أرضنا أغلى علينا من أرواحنا".

كلماته متقطعة، وهو يتلوى من شدة الم ضربات التعذيب فوق أرضه.

حاول الجلوس، فدفعه أحدهم ببندقيته ليساعده على الجلوس، نظر في عينيه الباردتين، المجند الفرنسي الأشقر، والذي لا يتكلم الإنجليزية، لكنه واحد من المجندين المهمين في تلك المجموعة، ينظر لسلوم ببرود المنتصر، كان ينتظر نتيجة مخاطبة الجنديين اللذين يعرفان العربية، أراد الضابط الأمريكي أن يعرف من سلوم لماذا وكيف وصل إلى هذا المكان الذي يعتبرونه أرض إسرائيل، إن تلك المنطقة كانت منزوعة السلاح، حسب اتفاقيات خط الهدنة، وفاصل بين الجزء المحتل من فلسطين وبين منطقة ما تبقى من فلسطين العربية.

ضربات أخرى أقل عنفاً جاءت على ظهره وجانبيه من الفرنسي والألماني والروسي، لم تمهله الضربات المتتالية ليقول جملة مفيدة، دفعه المجند الإسرائيلي فلسطيني المولد برفق نوعا ما إلى الأرض ثانية، ربما ليجنبه الضربات الحاقدة، وبدأ ينصحه بالاعتراف عن هدفه من حضوره إلى حدود دولة إسرائيل، ومن أرسله؟

يضغط بقدمه قليلا على صدره، أشار لهم الأمريكي بالتوقف عن الضربات القاتلة، وبلغة عبرية طلب أحدهم منه النهوض، لم يفهم عفان الكلام الصهيوني، فصاحت به المغربية الإسرائيلية أن انهض، والمجند الدرزي واقف لا يجرؤ على قول أي شيء، لكن عفان لا يقوى على الوقوف، لآنه كان منهوك القوى حتى قبل وقوعه أسيرا في أيديهم، بسبب شدة الإسهال، من شربة ملح الإنجليز، والضربات العنيفة على صدره وظهره وكتفيه، ثم زاده الرعب والتعذيب سقما.

يعرف أنه حتى لو نهض فسيتلقى ضربات أشد من جديد، إنه الآن خائر القوى، ذاك الإسرائيلي البولندي الحاقد هو الذي قطع أنفاسه، يتلمس موضع الألم وعيناه صوب البولندي، يحس أن أضلاعه محطمة، وقلبه ما زال يخفق في ضعف واضطراب، خشي أن يعود لتكرار ضربات الحقد القاتلة.

يشاهد أن بقية الجنود الآخرين يوجهون بنادقهم صوبه، وقد تصدر إشارة لأحدهم أو لهم كلهم لإطلاق النار عليه في آن، ففضل الموت وهو ممدد على أرضه، بدل محاولة النهوض.

يقول في نفسه: وماذا لو وقف وقتل وهو واقف، فالأشجار تموت واقفة، وهو العربي الفلسطيني المؤمن بقضاء الله وقدره، الموت قادم على كل حي لا محالة، وحين يأتي سبب الموت لا يرحم، سيوقف الحياة في جسد الخائف أو الصامد، وحتى الشجاع، لكنه لاحول في جسده ولا قوة تمكنانه حتى من الاعتدال في الجلوس.

يشعر بعطش شديد ودوار، فلماذا لا يبقى مستلقياً على تراب وطنه وأرضه الحنون، التي طالما رعاها، وخدمها وقطف ثمارها، وياما حرثها وقلم أشجار الزيتون والتين والعنب المزروع بها! وكم من مرة استظل بظلال أشجارها!

يلح عليه الدرزي بكلام عربي للنهوض بعد أن أبعد الجنود قليلاً عنه، يرفع رأسه مرعوباً يتأمل الوجوه واحداً تلو الآخر، ينظر في أعينهم أملاً في أن يتعرف على ملامح وجه إنساني من بين المحيطين به، تتجول عيناه تخاطبان السماء، ثم اتجه بنظره صوب قريته، لم ير مخلوقاً من بلده يلوح في الأفق.

أعاد النظر إلى السماء وبآهة وهو ينظر للمجندة السمراء، قال، "يا رب" ثم نهض محاولا الاستقامة والصمود، لكن طعنة غير قاتلة بكعب بندقية صدمت رأسه من الخلف، فهوى ثانية إلى الأرض على نفس الأرض الحنون، فصدم رأسه حجر صغير كان مختفياً في باطن الأرض، لكنه لم يشج رأسه، وربما حمى رأسه من الوصول للشوك الجاف والكثير في الأرض. أحس أن الحجر نزل قليلا في بطن الأرض، حتى لا يكسر رأس صاحبه.

وعاجله احدهم بضربة من حذائه أسفل بطنه، فانبثقت دفعة من البراز السائل وفاضت على ملابسه، وعلى ساقيه والأرض، وفاحت روائح غير زكية، نفروا جميعا مبتعدين عنه، وظهر جليا انه لا يرتدي سروالا.

لم يفقد الوعي، لكن الآلام في جسمه كانت من كل مكان، حتى أن السقوط على الأرض، سبب له رضات في عظام كتفه التي لا يكسوها إلا لحم قليل وبلا شحم.

= = =

أسمعهم يتحدثون ويتناقشون بالعبرية وبالإنكليزية، وكأنني داخل علبة أو برميل، لا أفهم كلمة مما يقولون، تحركت من الألم، واشتد أنيني، وبعد ثلاث دقائق إلى خمس، فتحت عيني، ففوجئت بالبولوني يضع مقدمة البندقية أمام وجهي، أدركت وقتها أن لي عدواً بغيضاً، لم أكن أصدق اللاجئين من الفلسطينيين، حين كانوا يصفون قسوة عساكر الصهيونية، وهم يرعبون سكان القرى والعائلات، ويعاقبونهم بقسوة وبلا مشاعر إنسانية، ولو أدت إلى موتهم، وكأنهم جمادات لا تحس ولا تتألم، مع أن الأجانب والصهاينة يحبون الحيوانات، ولا يعاملونها بقسوة، بل يدعون لحماية الحيوان والرأفة به.

كل هذا الظلم الصهيوني حتى يرعب الفلسطينيين، ويضطرهم لمغادرة بيوتهم حرصا على النجاة من التعذيب والموت، الذي شاهدوه أمام أعينهم، فإصرار العصابات الصهيونية على إيلام أي عربي، هو سبب نكبة الفلسطينيين، سببت هجرتهم لمواقعهم ومدنهم وقراهم.

تذكرت أحداثا كثيرة سمعتها عنهم وعن قسوة قلوبهم، ضدنا نحن العرب الفلسطينيين، ولذلك لم أفاجأ بما لقيته من قسوة في التعذيب حين فاجأوني، أنظر للمرأة المغربية فكررت تلك الإسرائيلية مني النهوض، حاولت، لكن رأسي كانت ثقيلة، والألم يتزايد فيه، مددت يدي من الخلف، فأحسست دما دافئا ما زال ينزف، ضغطت عليه، مسحت الدم عن أصابعي وكفي بملابسي القديمة القصيرة.

رفعت رأسي ثانية وأنا أتألم من شدة الوجع، ورفعت جسمي ببقية القوة التي لدي وقتها، حتى تمكنت من الجلوس على الأرض، خمسة أو ستة يحيطون بي، اثنان منهما بدآ يدخنان، واثنان آخران ابتعدا قليلا، وأدارا ظهريهما واخرجا البول من جسميهما كل في اتجاه، والبولوني الإسرائيلي ما زال يصر على قتلي.

فهمت المجندة الصهيونية المغربية مني أن البراز الذي خرج لأنني مصاب بالإسهال، فطلبت منهم التوقف عن ضربي، وأصدر الفرنسي أمرا بنقلي إلى السيارة التي لم ألحظها من قبل.

= = =

حاول سلوم الوقوف وحده، لكنه اهتز وهو يحاول الانتصاب، ورجفات تجتاحه من شدة الألم الذي يعانيه في كل مكان، ما إن وقف حتى أحسّ بدوار شديد، فارتخت ساقاه ثانية وهبط راكعاً قائلا: يا ألله، الله أكبر"، فطب على ركبتيه فوق تراب أرضه الساخن الخشن، لكن عينيه ظلتا تجولان الأجواء حوله، خوفا من ضربات جديدة تنزل عليه.

لمح أثناء ذلك طائر غراب أسود يحوم في السماء، تبعه بنظراته مصعداً بها صوب السماء، رفرف الطير كثيرا في السماء، محاولا الابتعاد عن المكان مسرعا.

دبت في سلوم قوة كافية، فنهض منتصباً رجراجا، أمسكت به الإسرائيلية المغربية، وتقدم الدرزي العربي والإسرائيلي الفلسطيني يساعدونه، فجروه صوب السيارة، كأنه غصن شجرة زيتون قطع عن أمه الشجرة قبل أيام قلائل، لكنه ما زال صلبا متماسكا خسر الكثير من رطوبته والخضرة التي تزينه، غصن قوي يتحمل الأحمال والأثقال ويصمد حتى لحرارة النار.

فكر سلوم في نفسه: هل سأعيش يا ترى؟ وهل سيبقونني حياً؟ قرأ وسمع عمن تم قتلهم وتعذيبهم من قبل جنود الصهاينة بدم بارد، حتى الأطفال لم يسلموا، ولا النساء الحوامل أو العجائز، أحسّ أن لا أمل له في الحياة، لكنه نسي الخوف من الموت ومن الآسرين، فعزى نفسه قائلا: لست أول فلسطيني يموت على ارده، والله لن يهمل الظالمين.

D 25 آب (أغسطس) 2015     A نازك ضمرة     C 1 تعليقات

1 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 111: بدء العام الدراسي 2015

الأدب الجزائري القديم ج2

جغرافية اللغة ونظم المعلومات

أعمدة الأدب العربي

رجل بين أوراقي