عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

غانية أحمد الوناس - الجزائر

ما لم تكتبه جودي أبوت


غانية الوناس: كاتبة جزائريةعزيزي،

لم يكن الوقتُ قد حان بعد للنهاية، حين تراءت لي تلك المسافة الفاصلة ما بين دفء الحلم، وبرد الواقع، لم أختبر يوما إحساس البتر بمعناه الكامل، أنا المبتورة منذ بدئي، كجذعٍ لا شجرة ينتمي إليها، ولا غابة يركنُ إلى دفئها في المساء وحيدا.

لم أدرك ذلك إلا حين قررت فجأة عدم جدوى المضي في خلقِ الأمل من الحبر، وجعله مخلوقا يتمشى على الورق، كانت تلك طريقتي في التمهيدِ لإسدال الستائر، فلم يكن المسرح يوما هوايتي، ولا الوقوف بثقة موهبتي. أنا الغريبة الوحيدة دائما.

كنتُ أثق دائما بالوقت، أتصدق ذلك؟ كلما تثاقل وتباطأ، كلما طال بي المكوث مترددة، متوجسة بين خموله ومحاولات حركته البطيئة، كلما ازددت إيمانا ويقينا به، وكلما أصبح اعتقادي راسخا بأن الأشياء الجميلة تأتي بعد أن نكون قد بلغنا من الصبر مبلغا كاملا.

لم أكن أعرف وقتها، أن الكثير من الصبر في غالبه ليس إلا علقما، وأن الانتظار الطويل ليس هواية جيدة، كما كانوا يقولون عنه، وأني لن أكون في خضم كل ذلك الاستثناء.

اكتشفت مع الوقت، أن كل شيء يبدأ بالانتظار غالبا ما يكون محكوما باللاشيء في نهايته، وأنا كنت دائما الأكثر تفوقا في لعبة الهامش التي أتقنتها، لم تكن الطرق مفروشة أمامي باليسر والتسهيل، ولم يكن لدي ما أتوكأ به خلال مسيري، كان علي دائما أن أحارب قسوة الدروب وحدي، وأن أجابه خشونتها ووعورتها وحدي، وأن أحتمي من كل ما يصادفني خلالها بنفسي، نفسي أنا وليس أحدا آخر.

تعلمت المشي وحيدة مبكرا جدا، حين وجدتني قد خذلت من كل شيء منذ البدء، عائلتي التي لم تستطع أن تمنحني شيئا، كانت هي قصتي الأولى، وفصلي المبكر من فصول الخذلان، بعدها اعتدت الأمر، حين أصبح ذلك الخذلان نفسه واقعي الذي أعيشه، وأتنفس في نطاقه، وأدور ضمن حلقاته المفرغة.

أنا لم أكن يوما قوية كما بدا لك وللآخرين، أنا فقط لم أكن أملك أي خيارات أمامي، إما المضي وحيدة في تلك الحياة الباردة التي أرست بثقل جفونها علي، وإما أن أمضي وحيدة، أنا التي لم تجاملني الحياة يوما ولو بنصف فرصة، لم أكن لأجد الاختيار متاحا أمامي.

عزيزي،

أكتب إليك ليس رجاء ولا توسلا، وليس في الأمر أي محاولة لتصحيح الأمور ما بيننا، ولا حتى استعراضا لشجاعتي في قتل الأشياء الجميلة، أنا فقط يا عزيزي اقتنعت بعدم جدوى الاستمرار في لعبة الكتابة إلى رجل الظلّ، فليس مقدرا عليك أن تكون وصيا على تجربة الخذلان التي كانت قدري منذ البداية، لذلك آثرت أن أعفيك منها.

حين عثرت عليك ذات زمنٍ، في دهاليز حياتي المظلمة، التي لم تسعفني كثيرا طوال أيامي السابقة، كان علي أن أتوقف لحظة، قبل البدء في تلك المغامرة غير المحسوبة، كان علي النظر جيدا إلى فارق القياساتِ والمسافاتِ ما بيننا، كان علي أن أدرك أن الأحجام لا تتضاعف من تلقاء أنفسها، وأن المرء يجب أن يدرك حجمه جيدا، قبل خوض أي تجربة مهما كانت. فالسقوط الحر يكون غالبا نهاية عادلة له.

الطفلة التي كانت تسكنني، كانت ترى فيك الوالد الذي لم تحظ به يوما، لكنها نسيت للحظات أن الآباء ليسوا بالضرورة طيّبين، هناك أباء معجونون بالقسوة، وهناك آباء كثر سيئون، وهناك بالمقابل من ذلك، من ليس لهم الحق بامتلاك أي نوع من هؤلاء الآباء، وأنا كنت منهم.

كيف تناسيت هذا القدر كله، وسمحت للطفلة بداخلي أن تدعوك أبي؟ وأن تكبر الكلمة في فمها، لتغدو رسائل موقعة بالكثير من الوفاء لذلك الشعور الطاغي؟ كيف سمحت لها أن تحلم بأن تتأبط ذراعك يوم تخرجها، وأن تشاركها فرحة التفوق والنجاح؟

عزيزي يا صاحب القلب الكبير، صغيرة هي أقدار المخذولين سلفا من كل شيء، قصيرة هي مسافات الحلم لأولئك الذين تقذف بهم الحياة على هامش الأشياء، شحيحة جدا هي لحظات الفرح بالنسبة لأولئك الذين يدركون منذ ولوجهم الأول إلى العالم أنهم غير مرغوب فيهم، وبأنهم المنبوذون أبدا، كقدر سيلازمهم طوال حياتهم.

عزيزي،

أنا لن أكتب إليك بعد الآن.

ليس لأني ضعيفة، فالهشاشة استطعمت جسدي النحيل منذ البدء، والخوف لم يكن يوما بعيدا عن ملاذي، والحزن الذي تربيت عليه، لم يعد يضايقني كما كان يفعل، صرت أعرف جيدا كيف أتكوم حول نفسي كيرقة لا تريد الخروج إلى العالم، ولا تريد تذوق طعم الطيران مهما كان طعمه شهيا، فقدت شهيتي منذ زمن، لذلك أصبحت أعرف كيف أبقي ذاتي غريبة عن الآخرين، تدربت جيدا على الوحدة، وصار لدي الآن اكتفاء كامل من الوجود، صار العدم ملاذي الأخير.

لذلك لا تخشى بعد الآن على طفلتك، فقد اختارت ولأول مرة في حياتها ألا تجابه شيئا، وألا ترفع رأسها الصغير بوجه شيء، ستغمض عينيها أخيرا، ولن تلقي بالا بعد اليوم لكل تلك الأصوات خارجا، بما فيها صوتك.

عزيزي،

اعتبرني قصة مثيرة مرت بحياتك الهادئة، فأحدثت فيها بعض الاهتزاز ثم مضت لحال سبيلها، اعتبرني فراشة حطت بالخطأ في حديقة منزلك، أو زهرة نثرت بعض عبيرها بغرفتك المظلمة، ثم تلاشت كالهواء.

أحرق رسائلي كلها، اجعلها حطبا لموقدك في الشتاء القادم، ولا تذكر بعد خطابي هذا، أن امرأة ذات زمنٍ كانت تكتب لك.

D 25 آب (أغسطس) 2015     A غانية الوناس     C 12 تعليقات

6 مشاركة منتدى

في العدد نفسه

كلمة العدد 111: بدء العام الدراسي 2015

الأدب الجزائري القديم ج2

جغرافية اللغة ونظم المعلومات

أعمدة الأدب العربي

رجل بين أوراقي