عــــــود الـــنـــــــد

مـجـلـة ثـقـافـيـة فـصـلـيـة رقـمـيـة

ISSN 1756-4212

الناشر: د. عـدلـي الـهــواري

 

طه بونيني - الجزائر

مجرد فكرة


طه بونينيوصله الردّ أخيرا. سيستطيع يوسف الآن تدبّر أموره مع العمال الستّة الذين يعملون تحت إمرته. أحدهم أمين مكتبة وهو موظّف مرسّم، بلغة الإدارة، والآخرون يعملون في إطار عقود ما قبل التشغيل.

يبدو أنّ الصيف قضى على زوار المكتبة. بعد أن كانت ممتلئة على آخرها فصارت خاوية على عروشها، فارغة إلّا من تيار الهواء وصدى وشوشة العاملين الذي يتردّد بين جدران المكتبة المتخمة بالكتب العاطلة. تلك الكتب التائقة لمن يفتحها وينفض الغبار عنها.

بعض الكتب لا تزال صفحاتها ملتصقة تنتظر من يفضّها ويدشّنها. ورغم هذا الخواء المفضوح، عندما تدخل المكتبة يلقاك جوّ إيجابي جميل لبعض الشباب يحومون بين الرفوف كالفراشات بين الأزهار.

هم عمّال متعاقدون، منهم المنخرط الجديد ومنهم المناضل المخضرم. تجمعهم صفة مشتركة، بل هو إحساس مشترك خفيّ لا يرى ولا يستشعر لكن رغم ذلك هو موجود، هو انتظار المجهول.

نظر يوسف المدير بعين متحسّرة إلى أمين المكتبة سليم وقد أحضر إليه وثائق الحضور في نهاية الشهر لزملائه المتعاقدين بغرض الإمضاء عليها:

"يا سيّدي، ألا ترى أنّ هذه العقود فرصة لكثير من الشباب الذين لم تسنح لهم فرصة في سوق العمل؟"

"أنا لا أرى أمامي إلا كنوزا ضائعة وطاقات مهدورة." أجابه المدير.

سأل سليم من جديد: "هل تلقّيت ردّا لمبادرتك؟"

هزّ المدير رأسه وهو يومئ بالإيجاب، وانتظر سليم أن يسرد عليه التفاصيل، وبدا متشوّقا لسماعها. وبقي خيط الشوق مشدودا إلى أن أنهى المدير الإمضاء على الوثائق.

حينها أطلق المدير زفرة طويلة، واستوى على كرسيّه يتنعّم بجلسة مريحة، وراح يهزّ الكرسيّ في صورة نادرا ما يشهدها سليم فقد اعتاد من مديره الجديّة.

عمّ السكوت لثوان امتدّت لدهور، وقد بدا سليم قلقا ترتعش فريسته على وقع الترقّب والانتظار الحذر. ثمّ بدأت أولى أمارات البشرى، عندما اقترب المدير من المكتب وجمع عليه ذراعيه وأشرقت تقاطيعه بابتسامة متألّقة. حينها تنفّس سليم الصعداء وأدرك أن خبرا سعيدا يدنو بتؤدة وبطء لكنّه يدنو.

لم يرض سليم بالانتظار واستعجل الخبر: "قبلوا بمشروعك. هل فزت بالمسابقة؟"

"نعم. نعم يا سليم فزنا. يبدو أنّ السلطات في وزارة الثقافة قد قبلت الفكرة وأثنت عليها ثناء شديدا وأولتها اهتماما بالغا. حتّى أنّهم اتّصلوا بي اليوم وطلبوا منّي المجيء في القريب العاجل لاستلام الجائزة الرابعة للأفكار الثقافية الابتكارية وحضور مراسيم الحفل. كما طلب منّي المباشرة في العمل على تحقيق هذه الفكرة والمبادرة في إنجازها."

"هنا في مكتبة مدينة معسكر؟"

"نعم طبعا، ولم لا؟ هل تذكر يا سليم الفكرة وتفاصيلها؟"

"نعم بالطبع."

"جيّد، سأسافر إلى العاصمة في الغد لاستلام الجائزة وأخذ الموافقة الرسمية لتطبيق الفكرة. سأغيب بضعة أيّام في مهمّة وأرجو أن تسهر من بعدي على تحضير المشروع والحرص على تمهيد السبيل لنجاحه. هذه هي الفرصة التي لطالما انتظرتها بل انتظرناها كلّنا فإمّا أن نكون أو لا نكون.أخبرْ الشلّة من بعدي، سيسرّون للخبر."

في الغد، في الصباح الباكر، بينما كانت أشعّة الشمس تنكسر على زجاج النوافذ التي تحيط بالمكتبة كالدرع، كان المدير قد وصل للعاصمة وكانت المكتبة تفتح مصاريعها للمواطنين. دخل سليم وصعد الدّرج متحمّسا. هذا اليوم يحمل للمكتبة مشروعا جديدا، مشروعا يبعث الروح في المبنى وفي العمّال الذين نسجت على عقولهم شباك من الكسل، بل سيبعث الحياة في الكتب.

سمير ذو الخمسة وعشرون ربيعا خريج كلية التاريخ التجأ بالمكتبة بعد ثلاث سنوات من البطالة.

محمّد شابّ رياضيّ فارع الطول ذو السبعة والعشرون سنة هو خريج هندسة كهربائية، يحسن العمل بيديه، يعمل منذ الصغر مع أبيه في مجال الكهرباء في وقت الفراغ.

علي خريج علم النفس وهو أصغر من سمير بسنة، مهووس بالعالم النفساني سيجموند فرويد، كما يميل كثيرا لروايات كونان دويل ومتأثر بشخصيته الشهيرة شارلوك هولمز.

أسماء فتاة محجّبة في الثانية والعشرين متحصلة على ليسانس في العلوم التجارية، يطبعها سمتها الجديّ وقلّة حديثها، وهي الوحيدة في المجموعة التي يرافقها كراسها المغلّف بالوردي تكتب فيه كلّ ما تتعلّم وهي ترى في عملها هنا فرصة كبيرة، كما أنّ ميلها للفلسفة جعلها تملؤ جانبا كبيرا من الكراس بأقوال أرسطو وابن رشد والفلاسفة الآخرين.

والشابّ الخامس هو هشام، وهو عميد المتعاقدين وممثّلهم، فهو صاحب الثلاثين عاما، والذي فرّط في الكثير من الامتحانات في التعليم لينتظر مسابقة في المكتبة. يهوى صحبة الكتب، كما أنّه ألف عمّالها وبينه وبين معظم الكتب علاقة صداقة. وفضلا عن كونه أقدم العمّال المتعاقدين فهو يحبّ التطوّع كثيرا، فمتى غاب سليم أمين المكتبة ناب عنه، وكلّما احتاج المدير مساعدة في كتابة بعض المنشورات والإعلانات وتطلّب الأمر ترجمة من الفرنسية أو إليها كان هشام هو الرجل المناسب، فيلبّي المهمّة دون تردّد.

هؤلاء الخمسة هم الوحيدون الذين مكثوا كأحجار الوادي بعدما أتى وغادر الكثير، وكأنّها أجيال تغدو وتروح. هؤلاء الأشخاص وجدوا في المكتبة صمت المقبرة ففزعوا وغادروا لا يلوون على شيء. وكأنّ في الكتب أشباحا من الماضي ستلاحق أرواحهم المفرغة من المعنى فتفرقعهم كالفقاعات.

وانتشرت سمعة المكتبة بجدّية مديرها وأمينها والعاملين المتعاقدين فيها، وصار لا يقبل عليها من طالبي عقود التشغيل طالب.
ورغم تميّز العمّال المتعاقدين بحبّ القراءة إلّا أنّ الروتين وجد منفذا إلى نفوسهم، واستحالت حياتهم شريطا تتكرّر أنغامه والعام أسبوعا تعود أيّامه. ما من جديد، حتّى الكتب الغنية بالعلوم والمعارف كادت تغيب الشهية لقراءتها والقوة التي تدفع عجلة الرغبة في إنهائها.

وعندما شارك مدير المكتبة في مسابقة وزارة الثقافة، كانت هذه الفرصة بمثابة المخرج من نفق مظلم يسمى الانتظار، وفتحة النور التي تتبدّى من خلالها آفاق واسعة ليس لها حدود.

حتّى علي، الشاب الحاذق الذي لطالما مارس على نفسه وزملائه التحليل النفساني ليبقي نفسه بمعزل عن القلق والانفعالات، حتّى هو طاله صدأ النفس.

وجاءت البشرى في هذا اليوم الذي جاءه سليم متحمّسا يقفز صاعدا الدّرج يكاد الفرح يحمله على نسائم الهواء ويخلّصه من يد الجاذبية.

وبعد دقائق بدأ الشباب الخمسة يتوافدون على المكتبة، ليحتل كلّ منهم مكانه المعهود.

كان في المكتبة جانب اصطفّت فيه رفوف الكتب وفيه مكان لأمين المكتبة وللعمّال المتعاقدين، وقد شغلوا أماكن مختلفة، تلائم كلّا منهم. وهناك جانب آخر للقراء وبين الجزءين فاصل معدني يتخلله الزجاج.

أتى خمستهم كالمعتاد ووجدوا سليم قد وضّب في ركن من الأركان طاولة مستديرة وأدار بها بعض الكراسي ووضع الأوراق والأقلام على الطاولة بمقابل كلّ كرسيّ. وكان هو جالس على طرف الطاولة.

ولمّا اكتمل نصابهم، جلسوا فشرح لهم الفكرة التي سيشرعون في تطبيقها. ولم يكن واثقا من تقبّلهم الفكرة. وكانت الفكرة كما يلي:

تقوم جهات عديدة بتقديم "طلبات لبحوث" من المكتبة في مجالات عديدة كالقانون والتاريخ والطب وغيرها. ويقوم بعض عمّال المكتبة بتحديد المراجع التي تخدم الدراسة والاستقصاء في المجال المحدّد؛ ويقوم بعضهم الآخر بقراءة هذه المراجع في وقت معيّن على أن يلخّصوها ويعطوا آراء حولها؛ ويقوم عمّال آخرون بقراءة هذه الملخّصات وتحريرها. وهكذا تستفيد المدارس والمخابر والمصانع وغيرها من الكفاءات الكثيرة والطاقات العديدة المكدّسة والمادّة الرمادية العانسة ويستفيد الجميع.

استمر شرح سليم لنصف ساعة، وكان الشباب الخمسة وكأنّ على رؤوسهم الطير. بقيت أفواههم فاغرة وهم مندهشون من الفكرة المغرية والتي تستحق أن تجد طريقها إلى الضوء. وبعدما فرغ سليم كان أوّل السائلين هشام عميد المتعاقدين. وجّه سؤالا لسليم:

"هذه الفكرة مشروع ضخم ولتحقيقه يجب توفّر ترسانة من العمّال المتخصّصين، سواء بين الملخّصين أو المحرّرين أو أولئك الذين يختارون المراجع كما يحتاج أرمادة من الكتب.

ثمّ سكت هشام، وأطلق زفرة خفيفة ترافقها ابتسامة تفاؤل ورضا واستكمل كلامه: "لكنّها فكرة تستحقّ التحقيق."

استبشر سليم بسؤال هشام وبالملامح التي ترشح بفرح مستتر وبحماس ينتظر شرارة خفيفة لينفجر، وكانت سيماهم تصرخ: نحن هنا، نحن مستعدّون.

وقال سليم بابتسامة تحضّر لكلام تتوق إليه الأسماع والنفوس الصابرة منذ زمن:

"وبما أنّ الفكرة قوبلت بالقبول، فستقوم المكتبة بتوظيف أكثر من عشرة عمّال وستكونون أوّلهم بإذن الله. وبالنّسبة للعمّال الآخرين فستكون الأولوية للحاصلين على الشهادات العليا والراغبين في البحث ولديهم ميول فطري للقراءة."

وبعد لحظات تبادل فيها الجميع التهاني والنظرات المتحرّرة من قيد الانتظار قال سليم: "لقد أعطتنا الوزارة مهلة سنة لتبدأ أولى براعم المشروع في النبات ولتعطي الفكرة أكلها."

قال الشباب في كلمة واحدة: "نحن لها".

وقال سليم: " والكثير الكثير من الشباب هم كذلك."

D 26 أيلول (سبتمبر) 2015     A طه بونيني     C 3 تعليقات

2 مشاركة منتدى

  • تحية تقدير. نعم هي مجرد فكرة, ولكن يا ليتها تتحقق في مكتباتنا حتى تعود لها معناها, وإلا فما قيمة bibliothecaire كمنصب عمل وكتخصص جامعي له من الصلاحيات ما يغني القارئ عن البحث والاستقصاء في المراجع ربحا للوقت وزيادة في الفهم. شكرا على هذه القصة وإن كانت مجرد فكرة ,فالمزيد من الأفكار والتألق مستقبلا. بالتوفيق.


    • شكرا أستاذ يوسف على هذا التعليق. استلهمت الفكرة من وضعية العاملين في عقود ما قبل التشغيل والذين هم بالآلاف وهم ينتشرون في شتى الإدارات والمؤسسات في الجزائر، وأكثرهم لا يعمل فعلا ولا يطلب منه شيئا، ولا ينتظر إلّا آخر الشهر ليقبض أجرته. وتمرّ أيامهم فارغة وهم ينتظرون التوظيف. وارتأيت أن تطبق هذه الفكرة في مكتباتنا، فإذا كان لا بدّ من أن يحصلوا على أجرة وبدون مقابل، فليأخذوها على الأقل مقابل تثقيف أنفسهم.
      تحياتي.

  • أخي طه أحي فيك هذا الإحساس بشبابنا المتعلم و الذي فهمت فيه من خلال هذه القصة أنه لابد لشبابنا و شاباتنا أن يناضلوا و يكابدوا من أجل أن تعيش هذه الأفكار. و التي من شأنها أن تعيد الشباب المسلم للريادة و النهوض بمجتمعنا إلى أسمى هامات الرقي و الإزدهار المنشود طالبين من الله يد العون و أن نجد الآذان الصاغية
    وفق الله شبابنا و هداه إلى طريق الصواب آمين
    شكرا الأستاذ طه مزيد من التألق.


في العدد نفسه

كلمة العدد 112: الأدباء والمخابرات

الكرّاب عبر تاريخ المغرب

القياس في المختصر ليحيى الشاوي

موضوعات شعر العقاد

بيرم وانتهاء دولة الشعر